مدن مصممة لمواجهة الوحدة
هل سبق أن شعرت بالوحدة؟ هل سبق أن ترددت كلمات ترافيس بيكل (بطل فيلم سائق التاكسي) «لازمتني الوحدة طوال حياتي ... أنا شخص وحيد»، في ذهنك غير مرة؟ إذا حدث هذا فلعلك تجد بعض العزاء إذا علمت أن الوحدة لا ترافقك وحدك، وأنها باتت حالة جماعية منتشرة كالوباء، خاصة مع وسائل التواصل الاجتماعي.
الشعور بالوحدة قضية عالمية. فمثلا في اليابان، يعاني نصف مليون شخص من العزلة الاجتماعية، بينما يشعر قرابة تسعة ملايين بريطاني بالوحدة أحيانًا أو دائمًا، في حين تؤثر العزلة الاجتماعية على واحد من كل 10 أستراليين، ويمر واحد من كل ستة منهم بفترات من الوحدة العاطفية.
دفع هذا المملكة المتحدة إلى تعيين وزيرة مكلفة بالتصدي لمشكلة الوحدة، وأقدمت اليابان على الأمر نفسه عقب زيادة حالات الانتحار، وترتفع الأصوات المطالبة بخلق منصب مماثل في كل من أستراليا وألمانيا وكندا. لكن هل تعيين وزراء للوحدة كفيل بإنقاص أعداد الوحيدين والوحيدات؟
تصميم المدن والوحدة
أشار وينستون تشرشل ذات مرة إلى أنه مثلما نُشكل المباني فهي بدورها تُشكّلنا، ولعل هذا صحيح. فكر مثلًا في الصمت المطبق داخل مصعد مليء بالركاب، أو في ساحة لعب مخصصة للأطفال، يجتمع فيها الآباء أو الأمهات ويتجاذبون أطراف الحديث.
لا يعني هذا بالضرورة أن التواصل، أو اللا تواصل، بين الأفراد يعد «نتيجة» حتمية للبيئة المحيطة، إلا أنها مع ذلك إما تُمكّن من التواصل أو تُقيّده.
في مقال على موقع فاست كومباني، يربط الباحث تنزيل شفيق بين تصميم المدن ومشاعر الوحدة، ويرى أن الطريقة التي تُصمّم بها المدن قد تصل بين الأفراد أو تُغرّبهم عن بعضهم، وقد تسهم، وإن عن غير قصد، في نشأة المشاكل النفسية، ويدعو إلى التفكير في عِمارة حضرية مختلفة وجديدة بمقدورها «علاج» الوحدة.
انطلاقًا من هذه الفكرة، أشرف شفيق على ورشة تصميم لطلاب الدراسات العليا في كلية ملبورن للتصميم، في محاولة لإيجاد حلول معمارية وحضرية محتملة للوحدة.
حلول لتصميم مدن خالية من الوحدة
ربما سبق لك أن انتظرت في محطة القطار دون أن تتحدث إلى أحد، هاتفك بين يديك، وعيناك مُسمّرتان على الشاشة، تنتقل من خبر إلى خبر ومن منشور إلى منشور، والقطار لا يأتي. ربما يفضل كثيرون الانتظار في هدوء بعيدًا عن دوشة المحادثات، لكن ماذا لو كان تجنبنا الحديث من صميم البيئة المحيطة بنا؟ بمعنى آخر، ماذا لو أن طريقة تصميم محطات القطار تشجع الوحدة وتنبذ التواصل؟
في هذا الصدد، تقترح ديانا أونغ إجراء تعديلات على محطات الانتظار، عن طريق إدخال «أدوات للمشاركة الاجتماعية» تحث المنتظرين على الحركة والتحدث مع بعضهم. أما ميشيل كورنو فتقترح تحويل عربات القطار إلى «وحدات تجارب حسية»، تجذب الراكبين إلى تبادل أطراف الحديث ومشاركة القصص خلال تنقلاتهم.
طرحت بيفرلي وانغ مشروعًا يشترك فيه كبار السن في تعليم الأطفال من خلال تصميم مساحات خاصة بسرد القصص، مانحةً حياتهم غاية جديدة.
ابتكر زي يي تطبيقًا اسمه Puppy Society، يسمح لعدة أشخاص بامتلاك الجرو نفسه، ويعينهم على تخطي مشاعر الوحدة من خلال المشاركة في امتلاك حيوان أليف ولقاء المالكين الآخرين والتفاعل معهم داخل منشأة مشتركة حيث تعيش الجراء.
بدورها، تقترح دينيز تشان تحديث شوارع ملبورن الهامدة من خلال إضافة حدائق وأماكن مخصصة للكتب ومساحات تحتوي على كراسي وطاولات وغيرها من الأثاث، ما يسمح للناس بالتواصل مع بعضهم خلال ساعات الغداء مثلًا.
وتعرض فانهوي دينغ تصميمًا لمطعم يديره الطلاب في جامعة ملبورن، بحيث يحصلون على رصيد مالي لقاء عملهم المشترك في المزارع التي تزود المطعم. ومن أجل تشجيعهم على التفاعل مع بعضهم، يحصل الطلاب على خصومات عندما يتناولون الطعام على نفس الطاولة.
أما بيفرلي وانغ فتطرح مشروعًا اسمه Nurture، يجمع بين روضة أطفال ودار رعاية المسنين، بحيث يشترك كبار السن في تعليم الأطفال من خلال تصميم مساحات خاصة بسرد القصص، مانحةً حياتهم غاية جديدة.
على المنوال نفسه، تلاحظ ملك موسوي أن مشاعر الوحدة المصاحبة لفقدان الأحبة تختلف عن غيرها. ولذلك، صممت مساحة مخصصة لزرع الزهور في المقابر، تستكشف من خلالها فوائد البستنة وزراعة الزهور كإجراء علاجي، وتهدف إلى تقريب الناس من بعضهم ومنحهم الفرصة للحزن معًا ومشاركة قصصهم عن الفقد.
مدن بديلة ممكنة
يقترح باقي الطلاب بدائل أخرى أكثر شيوعًا، مثل تصميم مساحات للتفاعل في المجمّعات السكنية شاهقة الارتفاع، وإعادة تصميم محلات السوبرماركت لجعلها أماكن يمكن ارتيادها في نهايات الأسبوع لأغراض غير التسوق.
بعد عرض مختلف هذه البدائل، يختم شفيق مقاله بالقول إن تصميم مدن بديلة أقل عزلة ووحدة أمر ممكن، وعلى أصحاب القرار أخذ هذا بعين الاعتبار إذا ما أرادو حقًّا التصدي لمشكلة الوحدة بصورة أكثر فعالية.
إدريس أمجيش