تجربة شخصية: كيف تحولتُ من ضحية للاغتصاب إلى ناجية؟
«ثمة ما هو غير مفهوم في شعور الضحايا بالعار من كونهم ضحايا، هناك دائمًا ذلك الصوت اللئيم الذي ينبثق من أعماقك و يردد: ما كان عليَّ أن أخطئ وأصير ضحية».
بثينة العيسى - «كبرتُ ونسيت أن أنسى»
مضى عام ونيف على ذاك اليوم المشؤوم، يوم أدركت انني أصبحت مثل أولئك الضحايا اللاتي نسمع عنهن ولا نراهن أو نحادثهن. نسمع عن حوادث الاغتصاب، بأسماء وهمية تارة أو حديث مرسل عن فلانة، تلك التي لا تحمل أي هوية. نسمعها وننتظر أن تكون الضحية مثالية لا يمكن الشك ولو ذرة في أنها أخطأت، لكني اخترت الحديث كي أكون صوتًا لناجيات، لا ممثلة لضحايا.
أنا شابة أوصف بالذكاء والجمال، متزوجة دون أبناء بعد، أمك قد تحبني لأني «ست بيت»، جامعية وأعمل أنا وزوجي في مكان مرموق ولدينا العديد من المعارف نتيجة لذلك. لطالما كنت الفتاة المثالية، وتحث أمهات صديقاتي بناتهن على أن يصبحن مثلي.
قبل عامين اضطر زوجي للعمل خارج البلاد لفترة، على أن أبقى أنا في مدينتنا النائية. خلال ذلك احتدت أشغالي، نال مني التعب والإرهاق مبلغًا كبيرًا. كنت وحيدة فعلًا، معزولة عن العالم. أستيقظ فجرًا لأعمل وأسقط إعياءً بعد منتصف الليل. ثم جاءت الطامة: مديري في العمل أعطى ترقيتي لشخص آخر، نسب جهودي بأكملها لهذا الشخص ورجعت أنا بخُفَّي حنين. عملي لمدة 5 سنوات لم يعد له وجود، وكانت مجرد مسألة وقت حتى أصاب بالاكتئاب.
رن هاتفي أحد الأيام، كان صديق زوجي، يعمل على مقربة من مدينتي لكن بينه وبين زوجي بعض الخلافات. ظننته يتصل رغبةً في التصالح معه، تمنيت لو أني تجاهلت هذا الاتصال، لكن وقتها كنت أشعر بأن تجاهله قلة ذوق، بالإضافة إلى ذلك الخوف الذي انتباني من أن يقول عني متزمتة لأني أخاف الرد على الهاتف. هذا الشعور الدائم الذي يلاحقنا لمحاولة إثبات أننا لسنا متخلفات ولا خائفات، بل متحضرات ولا نقع فريسة الشك في الرجال من حولنا.
كان يسأل عن حالي، يُلمح إلى أن زوجي محظوظ لحصوله على زوجة جميلة. صددته بلطف، ثم تحججت بأني مشغولة وأغلقت الهاتف. قررت وقتها ألا أخبر زوجي حتى لا تقع أي متاعب.
ظل يحاول الحديث معي مرة تلو الأخرى، وظللت عدة ليالٍ وحيدة. قلت لنفسي: إنها محادثة واحدة فحسب، ما أسوأ ما قد يحدث؟
تحدثت معه، أخبرته كم اشتقت لزوجي، أخبرته عن عملي المتعب. قال لي إنه لم يقابل امرأة مثلي، وإني أذكى امرأة عرفها. أحسست بعدم الارتياح وندمت على محادثتنا، فوبخته وأغلقت الهاتف.
ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟
مرت أسابيع كنت أصارع فيها الاكتئاب والوحدة، تعلمت أننا يمكن أن نكون وحيدين بينما نحاط بجمع غفير من البشر. لم أعرف طبيعة مرضي، كنت أمضي الأيام حبيسة منزلي أنادم اكتئابي والعزلة، وحين خرجت في محاولة لكسرها، وجدته أمامي. عرف وجهتي من حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي. وافقت على أن يرافقني خلال التسوق على ألا يتحدث معي ويزعجني، والحقيقة أني لا أعرف لماذا فعلت ذلك.
كانت فترة صعبة، حدث ما لم أتوقعه، خسر مشروعي الذي كنت أعمل جاهدةً عليه وراح لشخص آخر، وحُمِّلت أنا اللوم على ذلك. خسرت عملي الذي أحب، فاعتزلت العالم أبكي وأنوح. وفي خضم ذلك رن هاتفي، إنه هو، يطمئن على حالي بعد سماعه الخبر، الذي علمت لاحقًا أنه من سعى إلى تحقيقه.
شهقت بالبكاء. لم يسأل عني أحد إلا هذا السخيف. بعد ساعتين رن جرس الباب، فوجدته واقفًا أمامي يطلب مني السماح له بمواساتي. لم تكن لدي القوة الكافية لأقول شيئًا، وجهي ينبض، وعيناي أصبحتا بحجم التفاح. أردت أن أنام، كنت متعبة ومنهكة ومرهقة، أردت لكل هذا أن ينتهي، لكن لا قوة لي. هل أغلق الباب في وجهه؟ نحن في منطقة نائية ولا توجد فنادق. هل أصرخ وأوقظ الجيران؟ ماذا سيقولون عني؟ ثم إنه صديق زوجي، ما أسوأ ما يمكن أن يحصل؟
«الليلة فقط، ستنام على الأريكة وتغادر في الصباح»، هذا ما قلته له. لبست أوسع ملابسي، أغلقت باب غرفتي ونمت. استيقظت في الصباح لأجده لا يزال نائمًا، فخرجت من المنزل وتركت الباب مفتوحا ليغادر. قلت في نفسي سأخبر زوجي غدًا، حتى لو وقع اللوم علي.
عدت بعد الظهيرة فوجدته بانتظاري، لم يغادر، قال إنه يريد التحدث معي قبل أن يذهب. جلست على أبعد كرسي قلقة، طمأنت نفسي: «ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ لقد تعرضت للتحرش في صغري، وليس معقولًا أن تُعاد الكَرة»، كنت مخطئة.
كان يقترب مني بينما أبتعد، عقلي توقف عن العمل تمامًا، الخوف شلَّني، الخطر محدق، عيناه ليستا عينا ذاك الغبي الذي كنت أوبخه دائمًا، لكن عقلي توقف. بدأ بتحسس فخذي فأبعدته، أمرته بالخروج، قلت: «أنا متزوجة وأحب زوجي»، لكنه لم يبتعد. تحسس صدري وبدأ بتقبيل عنقي، حاولت أن أبعد هذا القرف عني، استطعت أن أرفسه وأحاول الهرب، لكنه أمسك بي.
حاولت أن أرفسه لكنه عرف أني سأفعل ذلك فصد حركتي، ثم ثبت يداي فوق رأسي. أنا أرفس، أبكي، أصرخ، أرجوه أن يتوقف، أخبره بأنني لن أخبر أحدًا لو توقف، أُذكره بزوجي، أصرخ، عقلي شُل بينما جسدي يقاوم.
كان جسده الثقيل فوقي، رائحته مقززة، شفتيه تطبقان على شفتيَّ كي لا أصرخ، لكني أكملت صراخي. استوعب عقلي الأمر فجأة: إنه يغتصبني، كيف يحصل ذلك؟ هذا لا يحدث إلا للفتيات الساقطات، أليس هذا ما يقولونه لنا؟
«أمسكيني كي أستمتع بك أكثر»، هكذا قال، وحين صرخت «لن أمسكك، توقف»، زأر بغضب: «كيف تجرؤين على رفضي لمدة أشهر؟ تعتقدين أنك أفضل مني بكلامك عن الاستقلالية وعدم حديثك معي أو مع الرجال الآخرين؟ كيف ترفضينني؟».
لم يتوقف، تعبت، ها هو فوقي ينتهكني، تعبت، أشحت بوجهي جانبًا. «خروف واحد، خروفان، ثلاثة خراف، أربعة»، نفس عميق، هل ذهب الكابوس؟ لا، ها هو فوقي. «خروف، خروفان، ثلاثة». تعبت، أريد أن أذهب إلى منزل والدي، أريد حياتي وزوجي، أريد الأمان.
لماذا فتحت الباب؟
انتهى من انتهاكي ونهض من مكانه، لبس ثيابه وخرج منتشيًا، وبقيت أنا في ظلامي. لم أخرج من بيتي، لم أحادث أحدًا، ظللت يومين في حالة شلل لا أفعل سوى التحديق في الجدران، وحين استوعبت الأمر غسلت البيت كله وعقمته عدة مرات، واتصلت بالشرطة فأخبروني أنه لا دليل على ما أقول، وأن المحادثات بيننا قد تُفسرعلى أن ما حدث كان بالتراضي.
عاد زوجي، لاحظ أني غريبة جدًا، بدأ يعتقد أني أخونه، حتى انهرت وأخبرته بأنني أغتُصبت. كذبني في البداية، وبعد أن صدقني غضب لأني لم أذهب إلى الشرطة فورًا.
لشهور كنت أقول لنفسي: «لماذا فتحت الباب؟»، أمضي الساعات أحدق في الحائط دون أن يعمل عقلي. لم أكن هنا، كنت غائبة عن الوعي لكن واعية، وعرفت أن الاكتئاب ليس الحزن، بل اللاشيء.
حاولت صديقتي مساعدتي، إلا إن زوجها وجدني لقمة سهلة. بدأ يتغزل بي وطلب مني ألا أمثل دور المغتصبة، قال: «أنتِ تعرفين من فعل بك هذا، لستِ ضحية». قال إني ربما استمتعت بما حدث لي. لم اخبر صديقتي أنها تزوجت معتوهًا، وابتعدت عنها.
كان زوجي بعيدًا عني حتى وجدانيًا، لم يعرف كيف يتصرف مع مثل هذا الوضع. احتجت لطبيب نفسي، لم أستطع العيش، لا رغبةً في الانتحار، بل فقط أردت أن أتوقف عن الوجود حتى تنجلي العاصفة.
عاد مغتصبي للاتصال بي ولم أرد. أرسل لي أنه يحبني. في داخلي تمنيت أن يكون هذا حقيقيًا، لربما يصبح كل ما حدث مجرد مشكلة في التفاهم والموافقة، ليس اغتصابًا. لربما لا أكون ضحية.
قرأت أن نحو 85 إلى 90% من ضحايا الاغتصاب يعرفون الفاعل معرفة جيدة، وغالبًا ما يكون الزوج نفسه أو شخص رُفض. لم أفهم الأنا المتجذرة التي تغتصب على أن تحتمل الرفض.
يكره ضحايا الاغتصاب عادةً ممارسة الجنس، لكني كنت أبحث عن الأمان والقرب من زوجي عبر الجنس كطريقة للتواصل. أخبرني طبيبي النفسي بأن ما حدث لي كان خطأي وأنني تسببت بذلك لنفسي: «لماذا فتحتِ الباب؟». كان لرأيه وقع الصاعقة علي، قلت لنفسي إنه لم يكن علي أن أخطئ وأصبح ضحية، أنا فعلت ذلك بنفسي، لماذا فتحت الباب؟ لماذا أجبت الهاتف؟ لماذا كنت بهذا التعب والإنهاك الذي جعل ذلك النتن يتسلل إلى حياتي؟ جلدت ذاتي بكل السياط الممكنة، آذيت نفسي بلومها.
كالواقف على أرض بعد مرور إعصار
انتهى زواجي، لم يستطع شريكي الاستمرار معي، ولم أستطع الإكمال معه دون أن يكون داعمًا. غيرت طبيبي النفسي في محاولة علاجية جديدة، بدأت أجرب العلاج السلوكي المعرفي الذي يعتمد على تغيير طريقة التفكير لدى مريض الاكتئاب. جربت الـ«EMDR»، وهو علاج يهدف لتخزين الذكريات المؤلمة في مكتبة الذاكرة. جميعنا نخزن أحداثنا اليومية خلال النوم، لكن الأحداث الصادمة لا تُخزن بشكل سليم، وهذا العلاج يساعد على ذلك.
أنا كالواقف على أرض بعد مرور الإعصار. انجلى الإعصار لكن لا تزال المخلفات من تراب وبيوت وأثاث في فوضى عارمة. ساعدني العلاج على أن أعيد الأشياء إلى أماكنها. وجدت وظيفة جميلة، لكن نوبات الهلع ظلت مستمرة، والقلق والتوتر لا يزالان يسكنان جنباتي، فغيرت أنماط تفكيري.
كنت أكتب كل يوم ما يجول في خاطري، وأبحث عن مواطن الخلل. تعلمت كيف أهدئ من مخاوفي، وتعلمت كيف أحن على نفسي والآخرين.
أحضرتْ طبيبتي صورة لي في طفولتي وطلبتْ مني محادثتها، طلبت مني أن أهدئها وأقول لها إني لست غاضبة منها. وقتها استطعت مسامحة نفسي للمرة الأولى، رفضت أن تكون فكرة الضحية هي هويتي، كتبت رسائل لكل من خذلني بكل حرقة وغضب وحزن، وللمجرم الذي اغتصبني، ثم أحرقتها وشعرت بأن كل خيباتي تحولت إلى رماد.
بعد عام كامل.. أنا بخير
وجدت الأمان داخلي، صرت منقذة لنفسي. وبالرغم من أن واقعي لم يتغير، فإني أصبحت أرى الحياة بطريقة مختلفة. أعتقد أني أستطيع رؤية آلام الآخرين خلف تلك الأقنعة التي يرتدونها.
أنا سعيدة الأن، موظفة في عمل أحبه بالقرب من مكان عائلتي، وأنعم بالسلام الداخلي. أفخر بنفسي حين تقول لي صديقة إنني من أقوى النساء اللاتي قابلتهن.
أصبحت أكثر سعادة عندما وجدت أني أستطيع تخفيف معاناة النساء حولي من خلال توجيههن للبحث عن سلامهن الداخلي أيضًا. أخبرهن أن الاغتصاب جريمة تحدث حولنا، ولا توجد من هي محصنة تمامًا منها. أخبرهن أنه لا يجب أن نطالب الضحايا بالصمت خوفًا من العار، ولا أن يزعجنا صراخهن بدلًا من أن تزعجنا بشاعة المجرم. أخبرهن أن المغتَصبة قد تكون أي امرأة أو طفلة. أخبرهن أننا هنا، ناجيات لا ضحايا، قويات ونستمر بحياتنا، والأمان والحب ينبعان من داخلنا.
نوال فيصل