جلودنا كعبء: كيف تدفعنا شركات التجميل إلى كراهية أنفسنا؟
ما بين «السّمار نصف الجمال» و«سمراء لكنها لطيفة»، تظهر نزعة خفية تميل إلى لون بشرة معين بشكل أولي، قبل أي سمة أخرى.
دينا، فتاة مصرية تنتمي إلى إحدى محافظات الصعيد، قمحية البشرة، على العكس من أحمد، أخوها الأصغر صاحب البشرة البيضاء تمامًا. تحكي قصة تتعرض لها بشكل روتيني في الاجتماعات العائلية، تتمحور حول ما تسمعه من همسات الناس الموجهة إلى أمها: «البنت حظها قليل»، «معرفتيش تطلّعيها بيضا زي أخوها؟»، «هتتجوز إزاي دلوقتي وأخوها أحلى منها؟».
رغم أن دينا تؤكد أنها تحب لون بشرتها، وأن تعليقات من حولها والمقارنة الدائمة بأخيها لا تمثل أي أهمية بالنسبة إليها، فإنها لا تُنكر أنها في صغرها كانت تشعر بغُصة حين توضع في مقارنة ليس لها يد فيها، والشعور المستمر أن هنالك حاجة إلى أن تثبت جدارتها في معركة ما.
تحكي دينا أنها حاولت من قبل استخدام مستحضرات أمها التجميلية كي تحصل على بشرة بيضاء مثل أخيها، إلا أنها شعرت بأنها تنسلخ عن ذاتها الأصلية وتتخلى عن ما يميزها في عائلتها، وأنها «حلوة لأنها سمرا». لا يتعامل كثير من الفتيات مع الأمر بالبساطة نفسها للأسف، ربما لأن الضغوط عليهن أقوى.
سمية، على الناحية الأخرى، تحكي تجربة مختلفة في طفولتها: «ماما عمرها ما حسِّستني إنه شيء غريب أو غير مرغوب فيه إني أكون سمرا. بالعكس، كانت بتتعامل مع الموضوع بشكل جميل، كانت بتدلعني يا شوكولاتة، وبتقوللي إني حلوة زيها تمام».
تخطت سمية المرحلة الابتدائية في سلام، لكن الحدث الذي زعزع سلامها النفسي كان في أول يوم في مدرستها الإعدادية الجديدة. دخلت مُدرسة سمراء، تؤكد سمية مرارًا أنها سمراء. قررت أن تقسِّم الفصل، فطلبت أغرب طلب بالنسبة إلى سمية في وقتها ذاك، قالت: «الحلوين ييجوا هنا، والوحشين ييجوا هنا».
«لم تتزح إحدانا من مكانها، لأنه، وببساطة، لم يرغب أحد في الانضمام إلى فريق الوحشين»، وفقًا لسمية، لكن المُدرسة قررت أن تفعل ما سيصبح أول صدمة من نوعها تتعرض لها مجموعة فتيات في أولى خطواتهن لاكتشاف عوالم المراهقة: أمسكت يد فتاة بيضاء وأخرى سمراء بعض الشيء وقالت: «دي الحلوة (ورفعت يد البيضاء)، ودي الوحشة».
تكرر سمية لـ«منشور»، مرةً أخرى، أن المُدرسة كانت سمراء وليست قمحية حتى.
مر الموقف مرور الكرام على أغلب الفتيات. ولأنهن لم يكن قد اندمجن بعد مع بعضهن، فلم يستطعن مشاركة ما شعرن به. عادت سمية إلى بيتها ولم تحك لأمها أو تُلمِّح حتى لما تصفه الآن بأنه «أسوأ أيام حياتها»، لكنها قررت أن تكون بيضاء وتتخلى عن أن تكون «حلوة كالشوكولاتة».
رحلة البحث عن بياض البشرة
بدأت سمية في الادخار من مصروفها البسيط حتى تتمكن من القفز إلى المجموعة الأخرى، البيضاء الحلوة، حسب ما حددت المُدرسة.
اشترت أول علبة من كريمات تبييض البشرة، وأملت، بسذاجة الأطفال، أن علبة واحدة ستكفي، لكن خاب ظنها. كرّست سمية مصدرها المادي الوحيد لهذا الكريم. كان هذا بداية إدراكها لوجود شيء يُطلَق عليه «التحيُّز اللوني»، وكانت طريقة حربها الطفولية عليه بأن تتحول إلى فتاة بيضاء.
كبرت سمية وفهمت منظور المجتمع إلى السمراوات، لكن وجهة نظرها لم تتغير، بل تجذّر شعورها بأن عليها تحقيق المزيد في كل شيء كي تعوض سمارها، نقطة الضعف الأساسية، وتصبح «مناسبة» للمعايير.
عائلات متحيزة
توضح «لوري أل ثاربس»، في كتابها «Same Family, Different Colors»، أنه في القرن الواحد والعشرين تناقصت أعداد ذوي البشرة البيضاء في أمريكا بسبب الهجرة وتعدد الأعراق، لكن رغم ذلك لا يزال اللون يشكِّل أهمية قصوى على العِرق، فاللون انجذاب بصري تلقائي لا يمكن دحضه أو تخبئته.
في معظم دول الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، تُعتبر المرأة ذات البشرة الأفتح هي الأجمل والأنجح والمرغوب فيها كزوجة أكثر.
تضيف ثاربس أن الحكم على الناس وتصنيفهم وتقيمهم بسبب بناء على لون بشرتهم مستمر بسبب العنصرية المتأصلة في البشر، التي تربط السواد بالجحيم والخوف، والبياض بالجنة والأمان. هذه الظاهرة، رغم عدم وضوحها، فإنه من الضروري التسليم بأنها موجودة حتى نتمكن من مناقشة البُعد الآخر، بُعد تفضيل البياض على السواد/السمار: «التحيُّز اللوني».
في العائلات السوداء أو مزدوجة العِرق، يستطيع الآباء دائمًا خلق مساحة حرة لأبنائهم متفاوتي الألوان في بشرتهم، ولا يُذكر لون البشرة إلا في سياقات معينة. لكن غالبًا ما تنتقل الرؤية المجتمعية للألوان إلى الأسرة ضمنيًّا، وتؤثر في طريقة استيعابهم لألوان بشرتهم وبشرة أبنائهم، فيبدؤون في التفكير بجدية في كيفية تفتيح بشرتهم بكل الطرق الممكنة.
من سيشتري كل هذه المنتجات؟
ارتفعت نسبة مبيعات مستحضرات تبييض البشرة بشكل ملحوظ منذ 2014، وتشير الإحصاءات إلى إنه في عام 2015 وصلت نسبة المبيعات الإجمالية إلى ما يقارب 10 مليارات دولار، ومن المتوقع أن يصل الرقم في عام 2024 إلى 31.2 مليار.
تبيع دولة مثل الهند وحدها منتجات تبييض بشرة بما قيمته 400 مليون دولار سنويًّا. وفي نيجيريا، 8 من كل 10 نساء يستخدمن هذه المستحضرات. وفي معظم دول الشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا، تُعتبر المرأة ذات البشرة الأفتح هي الأجمل والأنجح والمرغوب فيها كزوجة أكثر.
تنتشر هذه المستحضرات بالتالي في كثير من الدول، مثل ليبيريا والسودان والهند وهونغ كونغ وماليزيا وكوريا الجنوبية والفلبين وباكستان والبرازيل والولايات المتحدة وتايلاند وماليزيا والصين والمملكة العربية السعودية والسنغال وأوغندا.
لم يفكر المستثمرون في بدء هذه المشاريع من فراغ، بل بدأها التحيُّز اللوني، الذي يعرّف بأنه تمييز أصحاب البشرة الأفتح على أقرانهم ذوي البشرة الأغمق، وظهرت كلمة «colorism» في ثمانينيات القرن العشرين لتصف هذا التمييز.
على مر التاريخ، ترتبط الحالة الاجتماعية والقبول في الزواج والتحصيل العلمي والمادي جذريًّا بلون البشرة الأفتح. الطفلة السمراء تريد جلدًا أبيض كدُميتها، لأن كل الدُمى المعروضة في الأسواق عادةً ما تكون بيضاء البشرة، وتتمنى الأم وليدًا أبيض، ويتمنى الشاب زوجة بيضاء، ويُستقبَل الرجل أو المرأة البيضاء بترحاب أكبر من السود.
لم تنل قضية التحيُّز اللوني اهتمامًا كافيًا حتى وقت قريب، رغم أن جذورها تعود إلى عصور قديمة وترتبط بفكرة العبودية. لم يكن الاستعباد مقترنًا باللون، لكن مُلاك العبيد استخدموا ذوي البشرة السوداء في الأعمال الشاقة كزراعة الحقول، وذوي البشرة الأفتح في أعمال أخف كالتنظيف أو العناية المنازل.
اتُّخذ الرقيق من النساء، بيضًا أو سودًا، كمصادر للمتعة الجنسية لـ«الأسياد». وفي حالة الإنجاب، لم يكن السيد يعترف بأطفاله من الرقيق بشكل عام، إلا أن الأطفال البيض تكون لهم مميزات لا يتمتع بها السود. وفي بعض الأحيان، كان الطفل مزدوج العرق (من أب أبيض وأم سوداء) يُمنح مميزات تصل إلى التحرر من العبودية والحق في التعليم.
كيس ورقي بُني
شارك الأفارقة الأمريكيون أنفسهم في تثبيت هذا المفهوم، وكان عديد من الأميركيين ذوي البشرة السوداء من الطبقات العليا في المجتمع وقتها يمارسون «اختبار الكيس الورقي البُني».
كان الاختبار حقيقيًّا رغم صعوبة تصديقه، بل كان كذلك يحدد ما إذا كان الفرد مؤهلًا للتناغم مع المجتمع، ومدى استحقاقه لمميزات معينة.
التوافق بين لون الجلد ولون الكيس كان المعيار، فتطابُق اللونين أولى الدرجات الجيدة، وكلما كان لون الجلد أفتح من لون الكيس كان الشخص أكثر حظًّا في المميزات وأكثر قبولًا في المجتمع.
تُسهم الإعلانات في إقناع المرأة بأن حياتها ليست جيدة بما فيه الكفاية دون استخدام «ذلك المنتَج»، وتضع صورة المرأة الجميلة في قالب معين، وتشير بشكل خفي إلى صفات طبيعة باعتبارها عيوبًا يجدر التخلص منها. ولحسن الحظ، وحده «ذلك المنتَج» سيُصلحها.
تنفق النساء مليارات الدولارات كل عام للحصول على شعر ناعم أو رموش طويلة أو بشرة حريرية وبيضاء، أو أي صفة تتماشى مع ما يتوقعه المجتمع عن الجمال الأنثوي، مما أعطى الفرصة لصناعة وإعلانات مستحضرات تبييض البشرة لتتربع على عرش صناعة المستحضرات التجميلة.
كل هذه أمور تدفع الفتاة السمراء إلى تنميط فكرة الجمال وربطه فقط بالبياض، فيخرج لون البشرة من كونه أمرًا عاديًّا يرتبط بتوزيع ودرجة تركيز صبغة الميلانين (الذي يحمي من الآثار الضارة للأشعة فوق البنفسجية)، إلى أن يكون هنالك نموذج لون مثالي يُفرض على الجميع، دون اعتبار لاختلاف الثقافات والشعوب.
نشرت «دوڤ» إعلانًا تظهر فيه امرأة سمراء تنزع قميصها فتتحول إلى امرأة بيضاء، قوبل بهجوم واسع لوصفه السمار كشيء يجب التخلص منه.
تُعتبر «Nivea» من أعلى شركات منتجات العناية بالبشرة ربحًا في العالم، لكنها كثيرًا ما تُسهِم في دعم التحيُّز اللوني.
وجهت «نيڤيا» رسالتها إلى الشرق الأوسط في حملة إعلانية في مارس 2017 ضمن إعلان عن كريم لتبييض البشرة، أظهر امرأة ذات بشرة سمراء تضع مستحضر التجميل فتتحول بشرتها إلى اللون الأفتح. لاقى الإعلان هجومًا واسعًا من المهتمين بقضايا اللون في العالم، وتصاعدت دعوات المقاطعة التي تطالب الشركة بسحب الإعلان، وهو ما فعلته الشركة حفاظًا على أرباحها.
أما شركة «Dove» المنافسة، وهي إحدى أهم العلامات التجارية لمنتجات العناية بالشعر والبشرة لجميع فئات النساء، فلها سابقة إعلانية أيضًا في وضع المرأة في صورة محددة ونمطية للجمال: بيضاء البشرة.
في أكتوبر 2017، وبعد إعلان «نيڤيا» بستة أشهر، نشرت «دوڤ» إعلانًا عن مرطب للجسم، يُظهر امرأة سمراء تنزع قميصها المُطابق للون بشرتها (دلالةً على استخدامها للمرطب) فتتحول إلى امرأة بيضاء كُليًّا. قوبل الإعلان بهجوم واسع كذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، لوصفه سمار البشرة كشيء متسخ يجب العمل على التخلص منه، واعتذرت الشركة بعد الهجوم، كالعادة، وأزالت الإعلان.
كيف يعمل مستحضر تبيض البشرة؟
تعمل مكونات مستحضرات التبييض على إبطاء عملية إنتاج الميلانين في الطبقة الخارجية من الجلد، عن طريق تثبيط عمل إنزيم تيروسيناس الذي يتحكم في معدل إنتاج الميلانين، بجانب احتواءه على مُركبات كيميائية منها الهيدروكينون، الذي مُنعَ استخدامه في أوروبا واليابان وأستراليا لخطورته.
الهيدروكينون مادة سامة تُستخدم في تحميض الأفلام وصناعة الإطارات وصبغات الشعر، وبالطبع في مستحضرات التبييض، لأنه عامل التبييض الفعال الذي يبطئ إنتاج إنزيم تيروسيناس، وبالتالي كمية الميلانين.
المخاطر الصحية التي يسببها مُركب الهيدروكينون ليست واضحة المعالم بشكل كامل، لكنه مادة سامة للخلايا ومسببة للسرطان وتزيد احتمال حدوث اضطرابات الغدة الدرقية وأمراض الكبد وخلل الغدة الكظرية. ومن الآثار الجانبية الشائعة المُبلّغ عنها بسبب مستحضرات تحتوي على الهيدروكينون، الطفح الجلدي والاحمرار المفرط والجفاف والتكسير في الجلد.
غير ذلك، يجعل الهيدروكينون البشرة أكثر حساسيةً وعُرضةً لأشعة الشمس فوق البنفسجية، مما يؤدي إلى حروق جلدية خطيرة وزيادة نسبة الإصابة بأنواع من سرطان الجلد.
علياء هي الفتاة الوحيدة البيضاء في عائلة أبيها. ولأنها تعيش في بيت العائلة، فجميع البنات يخضعن لمقارنات، بل هن أحيانًا من يصنعن هذه المقارنات.
تقول لـ«منشور»: «رغم إني فاهمة كويس إن البياض والسمار دي حاجة طبيعية، إلا إني بحس بانتصار لما واحدة من بنات عمي تقوللي يا بختك إنتي بيضا، أو لما ألاقي درجة الفاونديشن بسهولة، بينما أقاربي مش لاقين الدرجات المناسبة لبشرتهم».
شعور الانتصار والتميز على بنات عائلتها جاء لعلياء عن طريق نبذهم لها بسبب بشرتها البيضاء في طفولتها، رغم تفهُّمها مقارنات الطفولة الساذجة. لم يكن أقارب علياء يُشركونها معهم في اللعب لأن «لوني أبيض»، لكنها تؤكد أن تمييزها بلون بشرتها لم يتعدّ إحساس الانتصار لأنها أخيرًا وجدت سلاحًا خفيًّا تُحارب بنات عمومتها بمرح دون أن تبذل جهدًا.
مريم ناجي