«الكويتي غير»: هل تعليمنا مسؤول عن عنصريتنا؟
المتابع للشأن الكويتي العام، خاصة خلال السنوات العشرة الأخيرة، يجد انتشار مظاهر النفس العنصري بين شباب الكويت وشاباتها، وقد يكون آخرها مقطع الفيديو المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي لشاب كويتي يعترض على عجزه في أن يجد موقفًا لسيارته في أحد المجمعات التجارية، ويعلل ذلك بأن المقيمين «ماخذين كل المواقف».
وصلت العنصرية والنظرة الدونية للمقيمين إلى مستويات عالية جدًا في الكويت، فلا تجد تغريدة فيها ذكر للمقيمين إلا وتراها مشفوعة بالتعليقات العنصرية التي تشتمهم أو تقلل من قيمة جالية معينة منهم، أو فئة بعينها. وهذا يدفعنا إلى طرح سؤال: هل يُلام نظامنا التعليمي في الكويت على هذا النفَس العنصري الذي بدأ يظهر بشكل جلي على السطح؟
أنظمة التعليم والتعايش
أحد أهم أهداف أي نظام تعليمي في العالم هو تنشئة الأجيال على أن يكونوا أكثر تعايشًا واندماجًا في المجتمع. والمجتمع هنا بوصفه كُلًّا، يشمل المواطنين والمقيمين. وقد تكون حاجة الكويت إلى تأكيد مبدأ التعايش مع المقيمين أكثر إلحاحًا، لكون المواطنين يشكلون أقلية بالمقارنة مع المقيمين، الذين أتوا إلى الكويت ليعمروها ويعملوا بها، نظرًا لانصراف المواطن عن أداء الأعمال التي يؤديها المقيم أو عجزه عن ذلك. لكن بالنظر إلى النظام التعليمي في الكويت والممارسات التعليمية المباشرة وغير المباشرة، نجد أن ما يطبَّق فيه منافٍ لتكريس مبدأ التعايش، وموفر للبيئة الصالحة لنمو العنصرية.
أحد أبرز هذه المظاهر أن أبناء المقيمين، باستثناء أبناء المعلمين، لا يحق لهم أن يتعلموا في المدارس الحكومية، فأصبحت المدارس الحكومية بيئة كويتية معزولة بشكل شبه كامل عن أبناء المقيمين. وإذا ما نظرنا إلى التاريخ في الكويت، وخصوصًا فترة ما قبل الغزو العراقي عام 1990، وجلسنا مع آبائنا، سنجدهم يعددون زملاء لهم من جنسيات عربية مختلفة، خالطوهم ونشؤوا معهم، وتقاسموا معهم ساحات اللعب ومقاعد الدراسة، فتعرف كل منهم إلى الآخر، إلى عادته، وتقاليده، ولهجته، وتبادلوا الزيارات بينهم. الطالب الكويتي في تلك الأيام كان يشعر أن المقيم جزء من نسيجه الاجتماعي، جزء من بيئته، لا يجد ما يميزه عنه. يكبر الطفل الكويتي مع الطفل المقيم، كما تربوا في البيئة المدرسية معًا.
يظهر في الكشف التالي، والذي حصلت عليه من والدي، أسماء زملائه في الصف الثالث بمدرسة الشامية المتوسطة للبنين للعام الدراسي 1966/1965، والذي يبين التنوع الكبير بين طلاب الصف الواحد. 11 طالبًا من أصل 38 طالبًا من المقيمين، ولو ذهبنا اليوم إلى نفس المدرسة سيستحيل أن نجد مثل هذا العدد ومثل هذا التنوع.
لكن مع حرمان أبناء المقيمين من الالتحاق بالمدارس الحكومية اليوم، يعتقد الطالب الكويتي طيلة 12 سنة دراسية أنه وحده من تعلم، ووحده من يستحق أن يكون على هذه الأرض، لأنه لم يتربَّ ولم يعش طيلة حياته المدرسية مع أي عنصر مجتمعي آخر. يكبر هذا الطفل ولم يتعرف إلى شركائه في الوطن، لم يخالطهم، لم تُتح له الفرصة كي يعيش معهم، ولو كانت تحت سقف فصل واحد.
مرتبات أقل
أما المظهر الآخر الذي يعزز العنصرية لدى الطلاب بشكل غير مباشر فهو التمايز بين المعلم الكويتي والمقيم، من حيث المرتبات، وعدد الساعات التدريسية، والامتيازات الوظيفية كالترقيات والعلاوات وغيرها.
يشكل عدد المعلمين غير الكويتيين نسبة ليست ببسيطة في التعليم الحكومي، فطبقًا للمجموعة الإحصائية لعام 2018/2017 الصادرة من وزارة التربية، بلغ عدد المعلمين المقيمين في المدارس الحكومية ما يقرب من 25 ألفًا من أصل 69 ألف معلم تقريبا. وتتمركز كثافة المعلمين المقيمين في التخصصات العلمية (مثل العلوم والرياضيات)، إذ بلغ عدد معلمي الرياضيات من المقيمين 4400 معلم مقيم مقابل 2600 معلم كويتي تقريبا.
ويتمركز المعلمين المقيمين في التخصصات الأدبية كذلك خلال بعض المراحل التعليمية، فيشكل معلمو اللغة العربية والإنجليزية من المقيمين في المرحلة الثانوية الأغلبية الساحقة، ويبلغ عدد معلمي اللغة العربية منهم 1278 معلمًا، مقابل 346 معلمًا كويتيًا فقط. أما معلمو اللغة الإنجليزية من المقيمين فيبلغون 1109 معلمين، مقابل 346 معلمًا كويتيًا فقط.
هذه الأرقام تبين بما لا يدع مجالًا للشك الدور الرئيسي الذي يضطلع به المعلم المقيم في تغطية العجز الكبير في التخصصات المهمة بالعملية التعليمية. لكن المشكلة أن الدولة تتعامل مع هؤلاء المعلمين تعاملًا دون المستوى الذي يليق بمكانة المعلم. فعلى سبيل المثال، مرتب المعلم المقيم يعادل نصف مرتب المعلم الكويتي، بل أقل من النصف في أكثر الأحيان، مع العلم أن كلا المعلمين يؤدي المهام المطلوبة منه نفسها.
نجد أيضًا تفاوتًا بين المعلمين في ما يتعلق بالساعات التدريسية، فالمعلم المقيم يتحمل عادة العبء التدريسي الأكبر في القسم العلمي. ولأن المعلم المقيم لا ظهر له يسنده، فلا يستطيع الاعتراض على مثل هذه الممارسات التي تميز بينه وبين المواطن.
المصيبة الأكبر أن المعلم المقيم مهدد بالنقل في أي وقت دون سبب يذكر، ولا إنذار مسبق، وهو ما يجعله في قلق دائم وينعدم عنده الشعور بالاستقرار الوظيفي. وقد يقضي المعلم المقيم سنوات طوال في مدرسة معينة، ثم يفاجأ بقرار نقله إلى مدرسة أخرى، وسبب النقل أن معلمًا كويتيًا يرغب في التدريس بتلك المدرسة، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك عدد أكثر من المطلوب في القسم، فيُنقل المعلم المقيم، وربما يكون النقل إلى مناطق بعيدة كل البعد عن سكنه، أو أنه لا يملك وسيلة النقل التي تمكنه من الوصول إلى مكان عمله الجديد. كل ما على إدارة التنسيق أن تصدر قرار النقل، وعلى المعلم التنفيذ.
أتذكر تمامًا حينما كنت معلمًا في إحدى المدارس الحكومية، حين أتى قرار نقل زميلي الأستاذ العزيز رمضان. أتذكر نظرات الحزن على وجهه وهو يودع المكان الذي عمل فيه، يودع زملاءه الذين ربطته بهم روابط الزمالة والأخوة، يودع طلابه، يودع كل شيء.
ما العلاقة؟
كل هذه الممارسات تحدث أمام أعين الطلاب، فالرسالة التي تصل بشكل واضح وغير مباشر أن هذا معلم مقيم وبالتالي هو أقل مكانة من المعلم الكويتي، وأن المعلم المقيم لا يستحق التقدير الذي يستحقه المعلم الكويتي.
في التعليم هناك ما يسمى «المنهج الخفي»، ويقصد به المعارف والسلوكيات التي تقدَّم للطلاب بطريقة غير مباشرة. فعلى سبيل المثال، لا أحتاج أن أعطي الطلاب درسًا كاملًا عن النظام، لكن بمجرد أن أربيهم كل يوم على النظام من خلال خروجهم ودخولهم إلى الفصل، ومن خلال جلوسهم في الصف، ومن خلال انضباطهم بطابور الصباح، فإنهم سينتظمون، لأن كل هذه الممارسات رسائل خفية غير مباشرة ترسَل للطلاب.
على كل صاحب قرار أن يدرك أن النظام التعليمي في المجتمع له نصيب من تعزيز الظواهر السلوكية السلبية أو علاجها.
هناك كذلك التعامل غير العادل بين المعلم الكويتي والوافد، وحرمان الطلاب المقيمين من الالتحاق بالمدارس الحكومية، وكلها رسائل غير مباشرة تُبث إلى الطلاب بأن هناك فرقًا بين الكويتي وغير الكويتي، هناك انفصال تام بين المواطن والمقيم، والمقيم ما هو إلا ضيف ثقيل موجود لخدمة المواطن.
لذلك لا بد من مراجعة تلك الممارسات وتعديل المسار، حتى نتمكن من تقليل هذا النفَس العنصري المنتشر بين أفراد المجتمع، وتدارك الوضع قبل فوات الأوان. ويكون هذا بتصحيح المسار، وإعادة الطلاب المقيمين إلى المدارس الحكومية كما كان حاصلًا من قبل، وكما نصت عليه المواثيق الدولية التي كانت الكويت طرفًا فيها، وأبرزها اتفاقية التعليم للجميع (Education for All) الصادرة من الأمم المتحدة، والتي تنص في مادتها الثالثة الفقرة الرابعة على أنه «ينبغي العمل بصورة فعالة على إزالة أوجه التفاوت في مجال التربية والتعليم. كما ينبغي ألا تقاسي الفئات التي لا تلقى خدمات كافية، مثل الفقراء، وأطفال الشوارع والأطفال العاملين، وسكان الريف والأماكن النائية، والرُّحل والعمال المهاجرين، والسكان الأصليين، والأقليات الإثنية والعرقية واللغوية، واللاجئين، والذين أخرجتهم الحرب من ديارهم، والسكان الخاضعين للاحتلال، من أي تمييز في الانتفاع بفرص التعلم».
وبذلك يختلط المجتمع بكل مكوناته مع بعض، يعيش وينشأ مع بعض، يحترم كل منهم الآخر، ويقدر كل منهم دور الآخر. ولا بد أن يكون التعامل مع المعلم الكويتي والمعلم المقيم وفقًا لمسطرة واحدة، مسطرة الكفاءة لا مسطرة الجنسية. وعلى كل صاحب قرار أن يدرك أن النظام التعليمي في المجتمع له نصيب من تعزيز تلك الظواهر السلوكية السلبية أو علاجها. وقديمًا قالها أبو العلاء المعري:
وينشَأُ ناشِئُ الفِتيان منَّا على ما كانَ عوَّدَه أبُوه
فكل ما نغرسه في الطلاب بشكل مباشر أو غير مباشر سينعكس بكل تأكيد على سلوكهم الاجتماعي، وعلى تعاطيهم مع القضايا السلوكية المنتشرة. فإذا أردنا أن تستمر العنصرية كسلوك أصيل في مجتمعنا، فلنكمل على نحن عليه. أما إذا أردنا القضاء على هذا السلوك البغيض، فلنبدأ من المؤسسة المدرسية، ونضمن ألا تكون هناك ممارسات عنصرية يتربى عليها الطلاب طيلة فترة تمدرسهم.
إبراهيم الحوطي