المرضى خارج الغرفة 4: فتيل العنصرية بين الكويت ومصر
- يالله يا مصري يللي جاي تمص فلوسنا
- يالله يا كويتي والله ولا انتو فاهمين حاجة
منذ شهور وأنا أمضي أوقاتًا مع مريضي هنا، حيث أنا الآن في المستشفى مع أعظم مريض في حياتي. يعرفنا الطاقم الطبي كله، ونعرف أفراده واحدًا واحدًا، الطبيبان جاسم الكويتي وإسماعيل المصري المتناوبان على الحالة، والممرض الكويتي فهد، والممرضة الهندية سارا، والممرض الفلبيني آندرو، ومسؤول الطعام السيريلانكي فريدي، وعامل التنظيف البنغالي مجيد، والبنغالي الآخر المسؤول عن دفع السرير المتحرك والذي لا أعرف اسمه، ومصريان آخران مسؤولان عن أمن البوابة في الفترتين الصباحية والمسائية: «سلامات.. إزَّاي الحاج النهارده؟».
يبدو الأمر ضربًا من العبث، في ممر الجناح الثامن أمام الغرفة 4، وأنا أطفو بين عالمين، أحدهما افتراضي بغيض يتجلى في شاشة هاتفي المحمول، وآخر حميم تتعاطى معه الحواس كافة.
شيء مما يتقيأه المرضى في العوالم الافتراضية لا وجود له في واقعي، في هذا المكان على الأقل؛ مستشفى، حيث يبدو كل المرضى أصحاء، على مستوى نفسي على أقل تقدير.
كنت قد اتخذت قرارًا، بعد كتابة مقال وبضع تغريدات، ألا أتطرق لما يبدو أنه مشكلة بين الكويت ومصر، كما يشتهي البعض، لأنها وإن كانت مشكلة فهي لا ترقى لأن نصورها أزمة كما يدفع البعض من العنصريين المؤججين من الطرفين، والذين يبدون بغبائهم وقلة تدبيرهم وانسياقهم وراء عواطفهم دونما تحكيم لعقل، أجهل من مراهقين يتبارون للفوز بابتسامة صبية تقطع الشارع، وهذه الصبية بالنسبة لأبطال قصتنا هي: الوطنية، تلك التي لا تصح إلا بالتقليل من شأن الآخر.
الحوار في بداية المقال بين الطبيبين الكويتي والمصري، والذي جاء على سبيل المحاكاة والسخرية والتطبيع مع التفاهة، ومحاولة للتعايش مع سموم تنفثها مواقع التواصل وتحويلها إلى مصل مناعة ضد العنصرية، أقول إن ذلك الحوار المصل القصير وقت تبادل الطبيبين جاسم وإسماعيل تسليم الوردية، كان دافعًا لكتابة هذا المقال.
قبل أن يتعنصر واحدنا دفعًا لعنصرية مواجهة، عليه أن يفهم أنه ليس المستهدف الأوحد بالنسبة للعنصري، وأن العنصري مشكلته في ذاته التي يحتقرها من دون وعي، وأنه يغذي قيمته وذاته المتورمة بالفراغ باختلاق الأعداء، ليس العدو الآخر وحسب، إنما هو يختلق أعداء من مواطنيه وزملاء عمله وجيرانه.
لا شأن لهذا المقال بما يروجه الجهلة المأزومون في أنفسهم وصِغر ذواتهم من العامة مراهقي تويتر وفيسبوك، ولا أؤمن حقيقة بكليشيه «الخير يخص والشر يعم» الذي لاكته العجائز منذ أزل، فهذا المقال ليس لعجائز «سوق الحريم» وبلكونات الحارة، ولا لمراهقي وخُدَّج السوشيال ميديا كما أسلفت، فالخير هو ما تريد أن تراه وفق نفسك التواقة إليه، والشر بالمثل يجيء وفق اشتهائك.
هذا المقال لمن حسبناهم يمثلون نخبة تقرأ وتكتب وتتخذ من الثقافة سلوكًا ونمط تفكير يميزها عن الغوغاء، لكنها كحال مجانين العامة انساقت إلى معركة صبيانية كما تُساق البهيمة إلى مرعاها.
عزيزي المتثاقف الكويتي، لا لوم عليك اليوم وأنت تمارس عنصريتك على المصري، فقد مارستها بالأمس في «جلسة ثقافية مغلقة» على الكويتي القبلي «البدوي»، والكويتي ذي الأصل الفارسي «العجمي»، والكويتي الأسود «العبد».
عزيزي المتثاقف المصري، لا لوم عليك وأنت تمارس عنصريتك على الكويتي اليوم، فقد مارستها بالأمس في «جلسة ثقافية مغلقة» أيضًا على أبناء جلدتك: يا عمِّي كاتب مين؟! ده فلاح/صعيدي/بتوع أقاليم.
عزيزي المثقف الحقيقي، وحدك تؤمن بما يجمع مصر والكويت من تاريخ ومواقف مشتركة، محبة وصداقات وعلاقات نسب وجيرة، ووحدك تعلم علم اليقين أن لا قيمة لثراء ولا تاريخ أو حضارة ما لم يتجلى ذلك في أخلاق ذلك الفرد وارث تلك الأشياء بالصدفة.
وحدك تعلم أن المرء يرى ما يريد رؤيته، ومن يريد أن يبصر فيك قبحًا سوف يبصره، ومن ينشد فيك جمالًا سوف يبصره.
بعيدًا عن تفاهات الغوغاء، أدعوا كلا الفريقين، شفاهما الله، أن يقتربوا من ظل إنسانيتهم قليلًا، تابعوا ألوف ﺍلكويتيين والمصريين ممن بُحت حناجرهم يستميتون لنثر المحبة في وجوه المتجاهلين وعشاق حروب الشوارع، أولئك الذين ما قالوا إلا طيبًا لا يُسمع، وما فعلوا إلا خيرًا لا يُحمد؛ أناس بسطاء ومثقفون وطواقم طبية وأمنية تقف كتفًا إلى كتف أمام وباء موضوعي في بطشه أشرف من نفوسكم العنصرية.
هذان مثالان من كثير أمثلة لا يصدُّ عنها إلا من في نفسه مرض.
ختامًا؛ اعفوني من الدعاء وتمنيات السلامة لمريضي في غرفة 4، فمرضانا ومرضاكم العنصريين للدعاء أحوج.
سعود السنعوسي