فراعنة أم عرب: من يحسم سؤال الهوية المصرية؟
هل المصريون فراعنة أم عرب؟ يبدو السؤال القديم والمستمر بشأن الهوية الثقافية والعرقية شائكًا حتى الآن. حدد هذا السؤال، وما زال يحدد، كثيرًا من المراحل في تاريخ مصر السياسي والثقافي، لأن الإجابة عنه تُسهم في رسم حدود الانفصال بين «الإسلاميين» و«العلمانيين» في السياق الثقافي المصري.
ظهر السؤال قديمًا في بدايات القرن العشرين، مستندًا إلى رؤية جمعية عن الهوية الثقافية للمواطنين المصريين باعتبارها وحدة، لكن التصورات المختلفة عن هذه الهوية اقترنت بخطابات سياسية متصارعة. ظهور السؤال في تلك المرحلة يعني أنه تشكَّل، وتشكلت إجاباته الأولى على الأقل، في سياق استعماري. ربما تدلنا هذه الملاحظة على ضرورة تحليل العلاقة بين هذا السؤال وسياقه ذاك.
في كتابه «استعمار مصر»، يقدم «تيموثي ميتشل»، أستاذ الثقافة الشرق أوسطية، رؤية تربط الحداثة في السياق المصري ربطًا وثيقًا بالاستعمار.
أسهم الاستعمار بشكل كبير في استيراد آليات الضبط الاجتماعي المباشر وتطوير مؤسسات الدولة والقانون، إذ لعب الإنجليز دورًا مهمًّا في تأسيس نظام قضائي حديث مختلف عن النظام القضائي التقليدي الذي كان قائمًا منذ العصر العثماني. كذلك أسهم الاستعمار في نشأة الشعور الوطني وتطوير نزعات انتماء عند المصريين كي يعارض بها الآخر المستعمِر.
تمد أمنية الشاكري هذا التصور إلى مجال «الهوية»، إذ ترى أن العامل الرئيسي الذي أسهم في إنتاج خطابات الهوية المصرية وإعادة إنتاجها، هو تبني الخطاب القومي المصري لفكرة الاستعمار عن السكان بوصفهم كيانات بحاجة إلى التحسين المادي والأخلاقي.
وفقًا لها، كان الاستعمار يرى في سكان المستعمرات مادة للتشكيل والتطوير، وعندما نشأت الحركة الوطنية المصرية في تفاعل مع الاستعمار، أعادت تبنِّي الخطاب نفسه، وأنتجت ذات التصور عن الجماهير. وإذ حاول الاستعمار تحسين السكان من أجل «تمدينهم» وتحقيق إنسانيتهم، حاول القوميون بإصرار، وبعنف أحيانًا، إعادة السكان داخل حدود «هويتهم المنسية».
في الحالتين، كان السكان موضوعًا للتحسين الأخلاقي وفق نماذج مسبقة.
الاستعمار وسؤال الهوية المصرية
تسرد أمنية الشاكري قصة سؤال الهوية المصرية بالعودة إلى الخطاب الاستعماري في منتصف القرن التاسع عشر، الذي أنتج رؤية مفادها أن الآخرين، غير الأوروبيين وسكان المستعمرات، بشر غير متحضرين ينبغي تحسينهم أخلاقيًّا وماديًّا، ومن ثَم دفعهم للدخول إلى المسار التقدمي للتاريخ، والفلاحون والنساء في الحالة المصرية كانوا الأكثر عرضة لخطابات التحسين هذه.
في مطلع القرن العشرين، بدأ الخطاب القومي التفتيش في التاريخ وتشريحه تشريحًا دقيقًا، من أجل إيجاد رافد ثقافي متجدد، دون أن يكون هذا الرافد متعارضًا مع اللحظة الآنية ومتطلباتها السياسية.
يُعاد اختراع التاريخ في الرؤية القومية عبر عملية دقيقة تُخضعه للتشريح، من أجل استئصال كل ما يبدو شاذًّا عن سردية التاريخ المشترك والمتماثل لكل السكان، فيتحول التنوع فيه إلى تجانس، ويمثل جوهرًا ثابتًا عبر كل العصور، يشكل هوية الشعب التي يقوم على أساسها مشروع تحسين السكان.
النزعة القومية المصرية نشأت أساسًا معادية للاستعمار، فكيف أعادت إنتاج آلياته نفسها للسيطرة على الجماهير؟
كانت الدولة القومية منذ نشأتها مرتبطة بالتاريخ، ليس فقط لمحاولة إيجاد جذور في تاريخ مشترك ولغة مشتركة، من أجل تعريف موقع الأمة من العالم والآخرين المغايرين، بل كذلك لإضفاء الشرعية على حكم الدولة التي تتبنى الخطاب القومي. إنها شرعية لأنها تعبر عن هوية الشعب التي كانت ملازمة له طوال تاريخه، ولأن هوية الشعب تتحقق فيها.
الأصل في الخطاب السياسي القومي إذًا هو الإقصاء والإزاحة نحو الهامش، وليس الدمج، أي محاولة التعبير السياسي الشمولي عن السكان، لا إشراكهم في هذا التعبير السياسي أو منحهم صوتًا داخل الدولة.
تقسم هذه النزعة عالَم الاجتماع عمومًا إلى مجالين:
- مادي: يشمل الاقتصاد وفن إدارة الدولة والعلوم والتكنولوجيا، وهو المجال الذي أثبت فيه المستعمِر تفوقه، ومن ثَم يجب نَسخه في السياق المحلي
- روحي: مجال داخلي، يرتبط بأسئلة الهوية والثقافة، وهو المساحة الأساسية لتحقيق التمايز عن المستعمِر والتفوق عليه، حتى في الوقت الذي تُستخدَم فيه تقنياته ومفاهيمه السياسية نفسها
هنا لا بد من اختراع الهوية بناءً على جذور قديمة، والتنقيب في التاريخ عن زمن «كنا عظماء فيه». يتشكل الحاضر والمستقبل السياسي إذًا محاولةً لإعادة إنتاج أمجاد قديمة، جوهرها العروبة أو الإسلام أو الحضارة الفرعونية، ويتحول هذا التاريخ إلى مشروع سياسي، ومن ثَم إلى ساحة يعبر فيها الصراع السياسي عن نفسه.
اكتشاف الهوية الفرعونية
استحوذت ثورة 1919 على الأثر الأكبر في تكوين ما يمكن الاصطلاح عليه اليوم بـ«الخطاب القومي الحديث» في مصر، وأثرت عدة عوامل في صياغة هذا الخطاب في المجال السياسي، إذ اقترنت النبرة المعادية للاستعمار بموقف يرى في الآخر الأوروبي مثالًا متحضرًا ينبغي السير على خطاه.
يظهر هذا بوضوح في موقف طه حسين مثلًا من «مستقبل الثقافة في مصر»، الذي يدعو فيه مباشرة إلى الانسياق نحو الحداثة الأوروبية بوصفها أفضل ما أنتجت البشرية، طالبًا «أن نسير سير الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاءً في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحَب منها وما يُكرَه، أو يُحمَد منها وما يُعاب. فإذا كنا نريد هذا الاستقلال العقلي والنفسي الذي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والأدبي والفني، فنحن نريد وسائله بالطبع، ووسائله أن نتعلم كما يتعلم الأوروبي، ولنشعر كما يشعر الأوروبي، ونعرف الحياة كما يعرفها الأوروبي».
كان للهوية الفرعونية أنصار كثيرون أثروا بقوة بعد ثورة 1919، مثل جرجي زيدان ومرقص سميكة ومحمد حسين هيكل.
يحاول طه حسين إزاحة مصر قليلًا نحو الانتماء إلى هوية «متوسطية»، ويلتزم خطاب الهوية نفسه الذي يحدد للسكان مسارهم المفترَض، وهكذا يتجلى لنا التمييز بين المجالين المادي والروحي مجددًا، إذ تعمل النخبة القومية على فرض هيمنتها بوسائل الضبط الأوروبية من مؤسسات ونظم قانونية، فيما يتمثل النزاع بين فئات هذه النخبة في المجال الروحي أو مجال «الهوية».
في هذا السياق، تظهر دعوات هوياتية أكثر راديكالية من اقتراح طه حسين بالانتماء إلى حوض البحر المتوسط. أهم هذه الدعوات شملت الهويات العربية والإسلامية والمصرية القديمة (يُطلَق عليها فرعونية)، والأخيرة هي التي نتناول تشكلها مثالًا على تشكل خطابات الهوية في مصر.
كان للهوية الفرعونية أنصار كثيرون أثروا بقوة في صياغة المشهد الثقافي والسياسي المصري بعد ثورة 1919، مثل الأديب والصحافي جرجي زيدان، والباحث المؤرخ مرقص سميكة، والأديب محمد حسين هيكل، وأحمد حسين مؤسس حركة «مصر الفتاة».
كان المفكر والصحفي سلامة موسى أكثر هؤلاء حماسًا في الدفاع عن فكرة فرعونية مصر، حتى إنه أكد في كتابه «مصر أصل الحضارة» أن الدافع الأساسي لكفاحه السياسي هو بعث النزعة الوطنية على سبيل الإكبار من شأن المصريين القدماء.
وجدت الفرعونية في موسى أحد أهم المدافعين عنها في الخطاب السياسي والثقافي في مصر في بدايات القرن العشرين، كما تورد أمنية الشاكري.
تذكر أمنية مؤشرات كثيرة على تصاعد هذه «النزعة الفرعونية» في الأدب مطلع القرن العشرين، منها مثلًا «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وقصيدة نشرها أحمد شوقي في مجلة «المقتطف» تمتدح «توت عنخ آمون»، من بين كتابات أخرى كثيرة. لاحقًا، يبدأ أحد أكثر الروائيين المصريين تأثيرًا في المشهد الثقافي المصري الحديث، أي نجيب محفوظ، حياته الأدبية بالكتابة عن التاريخ المصري القديم في ثلاثيته التاريخية: «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة».
لم يقتصر التعبير عن هذه الفكرة في الأدب، بل اقترن به فجأة اهتمام متزايد في العلوم الاجتماعية بالحضارة الفرعونية وآثارها.
كانت مناهج علم الاجتماع، المتأثرة بالفلسفة المثالية الألمانية وفكرتها الرومانسية عن القومية، تعبيرًا عن «روح الشعب» المبثوثة فيه منذ القدم، الأساس في دراسة علم الاجتماع في مصر.
لا عجب أن رئاسة «الجمعية الجغرافية المصرية»، التي أُنشئت في عهد الخديوي إسماعيل، أُسندت إلى عالِم النبات والمستكشف الألماني «يورغن أوغست شفاينوفروت»، الذي كان بنفسه واحدًا من المستشرقين الذين أسهموا في دراسة الفلاحين والنساء في المجتمع المصري، بجانب آخرين منهم «فرديناند دي ليسبس»، الذي كان عضوًا فاعلًا هو الآخر في الجمعية.
لاحقًا، يستند الأكاديميون المصريون إلى هذا التراث الاستشراقي في أبحاثهم، مثل محمد غلاب، الذي كان أول مصري يدرس الفلكلور في الصعيد، وينال ببحثه درجة الدكتوراه من جامعة ليون الفرنسية عام 1929.
هكذا كانت بداية القرن العشرين، لحظة تكثفت فيها «الهوية الفرعونية» على مراحل وبتأثير عوامل عدة: نخبة وطنية صاعدة ترى في السكان موضوعًا للتحسين وفق نموذج مثالي، وهي مقولة أنشأها الاستعمار، ثم هذه النخبة نفسها تسعى لتمييز نفسها عن المستعمِر بالتشديد على هويتها المضادة، وأخيرًا يؤدي التنازع الداخلي بين فئات هذه النخبة إلى إنتاج خطابات متعددة للهوية: عربية أو فرعونية أو إسلامية.
من يبحث عن هوية مَن؟
تتعامل الخطابات الهوياتية بسلطوية شديدة مع الشعب، الذي لا يرقى في وجهة نظر المثقفين لأن يجد إجابة عن سؤال الهوية.
هذه الرؤية التي تقدمها أمنية الشاكري تثير إشكالًا، بافتراضها أن سؤال الهوية كان دائمًا مفروضًا من الأعلى، ولم يُطرح تلقائيًّا على السكان أنفسهم. هل يعني هذا أن ثقافة المستعمرات تشكلها النخب بالبروباغندا؟
تفترض هذه الرؤية غيابًا لأي فعالية من متلقي الخطاب، وأن يتناسى أن الهوية الفرعونية التي يتمسك بها العلماني العادي من أبناء الطبقة المتوسطة اليوم مثلًا، الذي يتنصل من عروبته وينحاز لتراثه الفرعوني، تختلف في جوانب كثيرة عن خطاب الهوية الفرعونية كما ظهر عند سلامة موسى مثلًا في ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، إذ طُوِّع هذا الخطاب ليتوافق مع تصورات وحاجات جديدة، ولم يُسلَّم به قط كما هو.
لكن الرؤية تكتسب وجاهتها إذا أخذنا في الحسبان حاجة النخبة القومية الجديدة لقيادة الجماهير والهيمنة عليها، فقد كان ينبغي استخدام مناهج علم الاجتماع لدراسة هؤلاء السكان وفهمهم باعتبارهم كُلًّا متجانسًا يمكن تحريكه.
عندما تلجأ هذه النخبة مثلًا إلى خطاب يشجع على تحديد النسل، فإن عليها أن تخلق قيمة أكبر من وجود تلك المجموعات الكبيرة من السكان. تتمثل هذه القيمة في الهوية الجمعية الضاربة بجذورها في التاريخ والممتدة إلى المستقبل، وعلى الناس أن يشعروا بأن الهدف من وجودهم ليس مجرد الإنجاب واستمرارية حيواتهم الجزئية فقط، بل هناك قيمة عليا يمكن خلقها من شظايا عالم السكان المتنافر والمتنوع.
الخطاب القومي المصري في القرن العشرين، في شقه العلماني، كان مرتبكًا جدًّا بشأن موقفه من الاستعمار.
فمن ناحية، تبنَّى خطابًا قوميًّا حادًّا يدافع عن استقلال الوطن، ومن ناحية أخرى، كان يصر على مشروعية السلطة المركزية فكرةً قائمةً على الضبط والتحسين الأخلاقي والمادي للسكان، ومن ثَم كانت محاولات هؤلاء العلمانيين إنشاء هوية جمعية تمتد عبر التاريخ وتتجاوزه، في محاولة لنقل الخطاب الاستعماري وإعادة إنتاجه في السياق المحلي، وفق ما تنقله أمنية الشاكري.
من الطبيعي أن تتأثر خطابات الهوية بالمستعمِر، لكن استمرار تلك الخطابات اليوم يبدو شيئًا عصيًّا على التبرير، إذ تتعامل تلك الخطابات بسلطوية شديدة مع الشعب، الذي لا يرقى في وجهة نظر المثقفين إلى أن يجد إجابة عن سؤال الهوية، وبالتالي يصبح دور المثقف في هذه الحالة إعادة إختراع وتلبيس هوية جمعية لهذا الشعب، كلٌّ حسب موقعه السياسي والثقافي في المجتمع، فالإسلاميون يرون في العروبة والإسلام مكونات أساسية للهوية المصرية، بينما يلجأ العلمانيون لتوجيه النقد للعروبة والاسلام، معتقدين أن الهوية المصرية تضرب بجذور أعمق في تاريخ الحضارة الفرعونية.
الذي نغفله هنا موقع الفرد العادي من التساؤل: هل فُرِض عليه من الأعلى، في محاولة النخب للهيمنة عليه، أم إنه، كما يبدو لنا أحيانًا، مشغول هو الآخر بالسؤال عن هويته وموقعه من العالم؟ ما الذي يعنيه اعتقاد الفرد بأنه ينتمي إلى الحضارة الفرعونية وتاريخها، أو الحضارة الإسلامية وتاريخها؟ وهل تَشكَّل هذا الاعتقاد بالتلقين فقط، أم إنه كان همًّا مشتركًا بين النخب والجماهير؟
محمد رمضان