هي أشياء لا تُشترى: علم النفس يخبرك عن العلاقة بين المادية والسعادة
أغلب الظن أن «عم دهب» كان أول شخص ماديٍّ عرفناه. ربما بحكم الطفولة لم نكن نعرف توصيف «المادي»، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أنه كذلك للأسف. عم دهب هو أغنى شخص في عالم مجلة «ميكي»، لكن هل جعله ذلك سعيدًا؟ بالطبع كانت السعادة تغمره وهو يسبح في خزانته بين عملاته الذهبية ومقتنياته النفيسة، لكن هل كان سعيدًا حقًّا؟
يجيب أخصائي علوم المادية والصحة النفسية، الدكتور «تيم كاسر»، عن هذا السؤال في حوار معه نُشر على موقع جمعية علم النفس الأمريكية (APA).
هل أنت مادي؟
يحدد كاسر الشخص المادي بأنه ذلك الذي يكرِّس حياته أولًا لجَنْي المال وزيادة ممتلكاته، وكذلك العمل على كسب الشهرة وتحسين صورته العامة، وغالبًا ما يتحقق ذلك بكثرة المال والممتلكات أيضًا.
اكتسبت المادية سمعتها السيئة من التجارب التي تعرَّض لها من تعاملوا مع ماديِّين، فقد أثبتت الأبحاث أن النزعة المادية داخل الإنسان تدفعه إلى أن يكون أكثر تنافسيةً وخداعًا وأنانيةً في تعاملاته مع الآخرين، بالإضافة إلى افتقاره إلى التعاطف تجاه من حوله.
قد يهمك أيضًا: حتى الأطفال يصبحون أقل نفعًا لغيرهم بعد لمس النقود
ومن الطبيعي أن يبغض أي شخص عادي مثل تلك السلوكيات، لكن كُرهنا لها لا يمنع النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي نعيش فيه من استغلالها لتحقيق الربح، لذلك لا يبدو أن هذه النزعة المادية ستختفي قريبًا.
مادي أصيل أم مهووس بالشراء؟
يوضح الكاتب أن المادية تتعلق برغبة الفرد في جَنْي المال واقتناء الممتلكات وما شابه، بينما هوس الشراء هو شعور المرء بأنه غير قادر على التحكم في رغبته في الاستهلاك وابتياع الأشياء، وعادةً تكون تلك محاولةً منه لملءِ فراغ بداخله أو التغلُّب على شعوره بالقلق.
قد يعجبك أيضًا: لماذا نزداد قلقًا يومًا بعد يوم؟
بالرغم من ذلك، ترتبط المادية وهوس الشراء ببعضهما، إذ تظهر علاقة قوية دومًا بين النزعة المادية لدى الناس ومدى تعرضهم للمشاكل بسبب هوس الشراء، وذلك في دراسات عدة أجريت على العلاقة بين المادية والصحة النفسية والسعادة.
يتعرض الماديون لخطر التحول إلى مهووسي شراء، إلا أن الاثنين ليسا نفس الشيء، إذ قسَّمت أخصائية علم النفس «مريم تاتزيل» الماديين إلى «مبذرين» وآخرين «مقتصدين». وبينما يهدف النوعان إلى امتلاك المال والمقتنيات، فإن الماديين المبذرين يتجهون إلى الإنفاق والإنفاق والمزيد من الإنفاق، بينما يحاول الماديون المقتصدون جمع الثروة وتكديس الأموال.
انتبه، ربما جعلك الإعلام ماديًّا
حتى وسائل التواصل الاجتماعي التي كنا نهرب إليها أصبح لها دور فعَّال في نشر المادية.
كشفت الأبحاث أن هناك سببين مهمين يدفعاننا لاعتناق قيم المادية، أولهما، وهو سبب بديهي إلى حدٍّ ما، أننا نميل إلى المادية عندما نشعر بعدم الأمان أو التهديد، سواءً بسبب تعرضنا للرفض من الآخرين أو خوفنا من الأزمات الاقتصادية، أو فقط لأننا ندرك أن الحياة قصيرة فنسعى إلى الاستمتاع بكل ما فيها.
اقرأ أيضًا: عِش اللحظة: انشغالك بالماضي أو المستقبل قد يدل على حزنك
السبب الآخر الذي يجعلنا نميل إلى المادية أننا دائمًا محاصَرون برسائل وإيحاءات تزيِّن لنا مساعي الماديين. فمثلًا، قد يستمر الوالدان في مقارنة الأبناء بمن هم أغنى وأكبر مكانةً رغبةً في تشجيعهم، أو يتباهى بعض الأصدقاء بمركزهم المالي وقدرتهم على شراء أثمن المقتنيات، أو يتجه المجتمع عامةً إلى تقدير من هم أكتر ثراء، ناهيك بوسائل الإعلام ودورها.
تُظهِر الأبحاث، حسب كاسر، أننا كلما شاهدنا التليفزيون تعوَّدنا على قِيَم المادية واتجهنا نحوها. قد يكون ذلك بسبب البرامج والإعلانات التي تؤكد طَوَال الوقت أن السعادة والنجاح شيء حصري على الأغنياء، لِمَ لا وهم يتمتعون بالوسامة والشهرة والمال؟ وهنا لا بد من أن نتذكر أن أغلبية القنوات الإعلامية تمتلكها قِلَّة من الشركات الربحية التي تجني المال من بيع الإعلانات، وغرض هذه الإعلانات هو الترويج لمنتجات وبيعها.
ويبدو أنه مقدَّر لنا أن نعيش وسط هذه الرسائل، فحتى وسائل التواصل الاجتماعي التي كنا نهرب إليها أصبح لها دور فعَّال في نشر المادية. ففي دراسة أُجريت على شباب من أمريكا ودول عربية، اتضح أن النزعة المادية بداخلهم تنمو بزيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وأكدت النتائج أن تأثير تلك الشبكات يشبه ما يفعله التليفزيون في ما يتعلق بالتحريض على اعتناق قيم المادية.
يبدو ذلك منطقيًّا، بما أن محتوى وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا مليء بالإعلانات، وهكذا تجني الشركات المالكة لشبكات التواصل الاجتماعي الربح.
قد يعجبك أيضًا: خبير سابق في غوغل يرصد كواليس هوسنا بوسائل التواصل الاجتماعي
المادية جيدة.. لكن ليس بالنسبة إليك
نعم، هي كذلك، لكن ليس بالنسبة إلى الناس العاديين، ولا حتى للماديين.
يلفت كاتب المقال نظرنا إلى أن الرابح الوحيد هو النظام الاقتصادي/الاجتماعي، إذ يتغذى على الأموال التي ينفقها العامة وتصب في خزانات الشركات أو الحكومات. وبينما يُعدُّ الإسراف وكثرة الاستهلاك الناتجَيْن عن المادية نعمة للنظام، فقد أُثبِتَ أن المادية نقمة على الماديين، فكلما تنمو النزعة المادية داخل الفرد تتدنى صحته النفسية ويتدهور سلوكه الاجتماعي وعلاقاته بمن حوله.
ترتبط المادية كذلك بمشكلات عدة متعلقة بالإنفاق وتراكم الديون، وتؤثر سلبًا على التحصيل الدراسي والمستوى الأكاديمي للفرد. وبالتفكير في الأمر، نجد أن النزعة المادية تدفع الفرد إلى شراء المزيد واستهلاك منتجات أكثر، وصناعة هذا الكم من المنتجات تستنفد موارد بشرية وطبيعية ضخمة، وبالتالي تضر البيئة بشكل غير مباشر.
المادية تدمر صحتك النفسية
لطالما اهتمت الأبحاث بالعلاقة بين المادية والصحة النفسية، وكشف الدكتور كاسر وزملاؤه في جامعة سوسيكس البريطانية نتائج عدة أبحاث أظهرت ثبات العلاقة السلبية بين المادية والصحة النفسية، في دراسات أُجريت على جميع أنواع ودرجات المادية وفئات الناس في مختلف الحضارات.
وجدت النتائج أنه كلما اعتنق الناس القيم المادية اختبروا مشاعر مؤلمة واكتئابًا وقلقًا، بالإضافة إلى زيادة تعرضهم لمشاكل صحية مثل وجع المعدة والصداع، وكذلك افتقروا إلى الإحساس بمشاعر سارَّة، وبالتالي ازداد شعورهم بعدم الرضا عن حياتهم.
يمكن تفسير تدني الصحة النفسية المرتبط بازدياد المادية في ضوء الاحتياجات النفسية للفرد، إذ إن عَيْش الحياة تحت سيطرة النزعة المادية لا يُشبع احتياج المرء من الشعور بالحرية وارتباطه بالآخرين والقدرة على امتلاك زمام أمره، ونتيجةً لعدم إشباع هذه الاحتياجات تتدنى صحته النفسية ويشعر بالحزن والبؤس.
قد يهمك أيضًا: حكايات الاضطراب الوجداني ثنائي القطب
صراع المادية والإيمان الديني
العلاقة السلبية بين المادية والصحة النفسية تكون على أشدِّها لدى المتدينين.
السعي وراء بعض الأهداف في وقت واحد سهل، بينما لا تتلاقى أهداف أخرى نتيجة التوتر والصراع الدائمين بينها. فعلى سبيل المثال، من السهل نسبيًّا أن يركز أحدهم على جَنْي المال في الوقت نفسه الذي يعمل فيه على تحسين صورته العامة واكتساب الشهرة، بما أن هذه الأهداف مترابطة وتمهد الطريق لبعضها.
في المقابل، تُبرز الأبحاث التوتر الموجود بين الأهداف المادية والمساعي الدينية، وربما يكون ذلك بسبب الصراع بين طبيعة مساعي كلٍّ منهما. وتؤكد ذلك مفاهيم الزهد والروحانية التي نادى بها الرسل والأنبياء منذ زمن، ثم أكدها رموز الديانات الجُدُد.
ويبدو أن محاولات المتدينين في السعي وراء الأهداف المادية مع الحفاظ على روحانيتهم تولِّد صراعًا وضغطًا بداخلهم، يؤثر بدوره في صحتهم النفسية، لذلك فإن العلاقة السلبية بين المادية والصحة النفسية تكون على أشدِّها لدى المتدينين، بناءً على نتائج الدراسات.
اقرأ أيضًا: كيف يعيد المال تشكيل مُعتقداتنا؟
وفي بحث آخر أجراه كاتب المقال بالاشتراك مع أخصائي علم النفس «كين شيلدون»، وجدا أنه كلما اهتم الناس بالجوانب المادية للأعياد، مثل الإنفاق والشراء، قلَّ تركيزهم على الروحانية والشعور بها.
ولعلنا نلاحظ ذلك في شهر رمضان، إذ يتعارض اتجاه الناس إلى الإفراط في شراء السلع، التموينية خاصةً، مع مفهوم «شهر الصيام»، وبالتالي ينشأ صراع بين الالتزام بتعاليم الدين والتركيز على التعبُّد وروحانية الشهر، والتباهي بإعداد ما لذَّ وطاب من الطعام وقضاء الليل في أفخم الخيم الرمضانية تعويضًا لصيام النهار.
لذلك، يبدو أن من روَّج لعبارة «لا يشتري المال السعادة» كان ماديًّا، فقد اكتفى بشراء المكانة الاجتماعية والصيت أو حتى تكديس أمواله على حساب سعادته وصحته النفسية. وعلى ما يبدو، فإن الماديَّ الوحيد الذي اشترى السعادة بماله هو عم دهب، ونجح في ذلك فقط لأنه لا يعيش بيننا، وإنما في مدينة البط.
ميرنا محمد