العزلة والهلاوس: تحديات الصحة العقلية التي يواجهها رواد الفضاء
دائمًا ما كانت مهنة «رائد الفضاء» محط جذب وحلمًا للكثير من الناشئة، فهي في نظرهم تعني المغامرة واكتشاف المجهول، والحرية في هذا الفلك الفسيح بعيدًا عن الحياة على الأرض بضجيجها ومشاكلها. لكن ما يغيب تصوره هو الجانب المظلم لهذه المهنة، إذ يتعرض الشخص لأحوال خارجة عن طبيعة الإنسان، نفسيًا وجسديًا. فإلى جانب التغيرات الجسدية التي تمر على رائد الفضاء في الرحلة، أخطر ما يواجهه الرواد هي الآثار النفسية والعقلية جراء العزلة والضغط العصبي.
يناقش أخصائي علم النفس العصبي «فوغان بيل» في مقالة له نُشرت بصحيفة الغارديان مسألة صحة رواد الفضاء العقلية، ويوضح أنها معضلة خطيرة قد تتسبب في فشل بعثات فضائية ضخمة، ناهيك بالآثار الجسيمة التي تصيب عقول الرواد أنفسهم.
توهُّم وارتياب
يبدأ بيل مقالته بتوضيح الأثر العظيم لمنظَر الكرة الأرضية على من رآها بالعين المجردة. ويصفه رائد الفضاء «وليام مكول» بأنه «فوق الخيال»، بينا كتب العديد غيره عن تغيّر مفهومهم لمكانهم في هذا الكون بعد تجربة الرحلة الفضائية. أما بالنسبة لمركز تحكم البعثة، فيجب أن تُعد عجائب الفضاء مصدر إلهاء لهم بينما يركزون على صحة النفسية للرواد عند العمل على مسافة 420 كيلومترًا فوق سطح الأرض، وفي بيئة خطرة وتحت ضغط عال.
من الممكن اعتبار هذا الضغط اليومي حدثًا يغير حياة الرواد وفقًا لبيل، إذ تضع وكالة ناسا بعين الاعتبار الحالة النفسية والسلوكية لأنها من أشد المخاطر التي تعيق سلامة المهمة، بالذات مع وجود أدلة مؤكدة على تسبب السفر إلى الفضاء في آثار على عقل الإنسان.
يذكر بيل أن الهلاوس المتكررة شائعة في الفضاء، وهي ربما أقل مخاوف الصحة العقلية أثناء خط السير. ففي مراحل بعثات أبولو المبكرة، ذكر رواد الفضاء في تقاريرهم رؤية ومضات أو خطوط من الضوء تأتي من العدم. وأثناء بعثة في محطة فضاء دولية عام 2012، قال رائد الفضاء «دونالد بيتيت» واصفًا هذه التجارب إنها «ومضات في عيني، كأنها جنيّات مضيئات ترقص»، ويمكن تجاهلها في وقت العمل، لكنها ستظهر بكثرة «في ظلمة محطة النوم والجفون ناعسة تتحرى الرقود».
يُعقّب بيل بأن هذه الومضات أثارت اهتمام علماء كبار، فأوضحت سلسلة من التجارب أن سببها إشعاعات كونية، أي جسميات دون ذرية تتحرك دون نسق لتمر النجوم. وينوه إلى تباين أثر هذه الجسيمات حسب مكانها، إذ يمتص الجو معظم الجسيمات في الأرض، بينما في الفضاء تدفع هذه الجسيمات خلايا النظام البصري العصبية إلى إنتاج أثر «الجنية الراقصة».
الوظائف الأساسية للدماغ، كالتركيز وتبديل المهام والتنسيق الجسدي وحل المشكلات، تقل كفاءتها في الفضاء.
بدر الموله معماري كويتي وأحد مؤسسي جمعية «إغنشن» في الكويت التابعة لجمعية المريخ العالمية، ويحكي لـ«منشور» عن تجربته التي خاضها مع «HI-SEAS»، محطة هاواي لاستكشاف الفضاء والمحاكاة، وهي محطة أبحاث تناظرية لاستكشاف المريخ والقمر، فيقول: «شعرت بالعزلة، لكنها تقريبًا أشبه بعزلة جماعية. فأنا وبقية أفراد الطاقم خضنا التجربة نفسها، لكننا شعرنا بانفصال شديد عن العالم. أي أخبار وصلتنا عن فيروس كورونا والسياسة شعرنا وكأنها عن عالم بعيد. لم يكن لدينا أيضًا إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو الإنترنت على هواتفنا، فقط البريد الإلكتروني، وهو أمر جيد أن تقطع اتصالك بالهاتف، لكنه مؤلم جدًا أن تنفصل عن أحبائك».
الأدهى في نظر فوغان بيل أن للهلاوس ارتباطًا وثيقًا بتزعزع الانسجام بين أفراد الطاقم، وفرط التوتر بينهم. فيذكر حادثة حصلت في عام 1976، حين عاد عدد من طاقم البعثة الروسية «سويوز 21» إلى الأرض مبكرًا بعد رفعهم لتقرير يفيد انتشار رائحة أسيد في المحطة الفضائية «ساليوت 5». تعيّن على الطاقم البديل استعمال معدات للتنفس خوفًا من احتمالية وجود تسرب، لكنه لم يكتشف روائح أو خللًا تقنيًا بعد الفحص. وأعقبت ذلك تقارير تفيد وجود «مشاكل شخصية» و«نفسية» بين الطاقم، مما دفع ناسا إلى اعتبار الرائحة هلوسة في الغالب.
وهناك بعثات روسية أخرى يُعتقد أن سبب توقفها المشاكل النفسية، لكن بيل يوضح أن هذه المشاكل ليست حصرًا على الروسيين. حتى برنامج الولايات المتحدة الفضائي لم يسلم، فأثناء بعثة «سكاي لاب 4»، وبعد الإرهاق والساعات الطويلة والاختلاف مع مركز التحكم على الأرض، عمد الطاقم إلى تجاهل ناسا وإغلاق الإرسال لمدة يوم كامل، بينما يشهدون الابتعاد عن سطح الأرض.
معضلة الدماغ وقلق الانفصال
يستأنف بيل طرح الاحترازات نتيجة للمخاوف، فمع أخذ الرحلة إلى المريخ في المستقبل بعين الاعتبار، بدأ العلماء دراسة آثار العزلة من خلال بعثة افتراضية، على أن أطولها يستمر حتى 520 يومًا من العزلة. ما حصل أنه مع مرور الوقت، يبدأ الضغط العصبي المستمر حصاده، فيغدو أعضاء الطاقم المتأثرين مصدرًا للصراع والنزاع.
يضيف بيل: «قد يؤدي العيش لمدة أشهر داخل صفيحة مع ممارسة عمل مرهق وشبه انعدام وسائل الراحة إلى ضغط نفسي رهيب، وقد يضاف عامل آخر هو طريقة عمل الدماغ». ويستشهد بدراسات تشير إلى أن الوظائف الأساسية للدماغ، كالتركيز وتبديل المهام والتنسيق الجسدي وحل المشكلات، تقل كفاءتها في الفضاء. ويُعد انخفاض مجهود الرواد البدني على الأرجح عاملًا مؤثرًا، إذ يصف بيل قوة التأثير ضاربًا مثلًا مشهودًا في واقعنا على الأرض، وهو الأعمال المرهقة بدنيًا التي تَحُد من القدرات العقلية مع مرور الوقت. ويذكر أن تأثير العمل في بيئة دون جاذبية على تدفق الدم يؤخذ بعين الاعتبار، فعملية إمداد الدم عند الإنسان مهيأة للعمل في أمثل حالاتها على جاذبية الأرض، مما يعني أن السفر في الفضاء قد يؤثر على كفاءة إمداد الدماغ بالأكسجين.
يخوض بيل في بعض التفصيل العلمي، فينوه إلى صعوبة عمل التصوير العصبي في الفضاء. تؤخذ قراءة النشاط الكهربائي من خلال آلية «EEG» (تخطيط كهربية الدماغ)، والتي تُظهر أن عملية راحة الدماغ تبدو مختلفة في خط السير الفضائي.
دراسة هذا الموضوع ليست هينة، بل تتطلب الذهاب إلى الفضاء لإجراء التجارب، وقد يكون الاختلاف ناجمًا عن الضغط العصبي لا تلاشي الجاذبية. بيد أن الدارسات التي أُجريت على رحلات دورانية مكافئة (تعتمد على انقضاض الطائرات من ارتفاعات عالية ثم الغوص حتى يصبح الركاب بلا وزن تقريبًا لمدة محدودة) تشير إلى حدوث آثار مشابهة في حالة انعدام الوزن، مما يدل على أن الدماغ يغير طبيعة عمله كلما انحسرت الجاذبية. انخفاض المستوى العقلي لرواد الفضاء في حد ذاته ليس معضلًا، بل بالإمكان معالجته، لكن حدوثه مع الضغط العصبي قد يصعب عملية إدارة الطوارئ وفقًا لبيل.
يأخذنا بيل إلى جانب آخر بعيدًا عن العلم التجريبي، إذ ظهرت عدة نقاشات حول الآثار النفسية حتى قبل ذهاب أول شخص إلى خط السير الفضائي. فقبل سنتين من رحلة «يوري غاغارين» الرائدة، تكهن بعض علماء طب النفس الفرويدي في إصدار للمجلة الأمريكية للطب النفسي عام 1959 بأن الابتعاد عن كوكب الأرض الأم قد يؤدي إلى اضطراب قلق الانفصال، وربما تصاحب إغراء الهروب من خلال الانتحار رغبة في تدمير المركبة الفضائية ومن عليها. لم يحصل هذا التكهن لحسن الحظ، لكن يقال إن ناسا لديها إرشادات للتعامل مع من يجتاحه الهيجان أثناء البعثة الفضائية من الطاقم، والتي تحتوي على قدر منظم من الأشرطة اللاصقة والأسلاك المطاطية للتقييد والمهدئات.
حين سألنا بدر الموله إن كان قد خضع مع زملائه لتدريبات تتعلق بصحتهم النفسية، أجابنا قائلًا: «لم نجرِ أي تدريب محدد، لكنهم أخبرونا بما يمكن توقعه وكيفية الاستعداد له، حتى يكون لدينا طرق لشغل أنفسنا والبقاء بصحة جيدة عقليًا وجسديًا».
يذكر بيل أن سيكولوجية البعثات الفضائية تقتضي كمًا هائلًا من الاستثمار العلمي لمحاولة تجنب عواقب الصحة العقلية لما عاناه الكثير على الأرض: الضغط العصبي، وبيئة العمل الرديئة، والشعور بالوحدة. ويرى (متهكمًا) أن الذهاب إلى المريخ أسهل مقارنة بهذه المشكلات.
حري بنا تفحص كل الجوانب والنظر إلى الصورة كاملة في أخذنا للمسائل. فمع اعتبار ريادة الفضاء حلمًا ملهمًا وحافزًا للعديد من الناشئة، إلا أنه يجب علينا دراسة مخاطرها ومشاكلها ومحاولة حلها. فتحديات الصحة العقلية لرواد الفضاء وبال على صعيدين، النفسي (الفردي) والمؤسسي. وفي حال عدم احتوائها، قد تفشل المهمة أو يصاب الطاقم أو بعضه بمشاكل عقلية جسيمة.
يقول الموله إن تجربته «كانت رائعة بشكل عام، والذي ساعدنا هو مستوى النشاط المستمر، والإحساس بالهدف والصداقة الحميمة، كلها جعلت الأيام تمر بسرعة ونادرًا ما كنا نشعر بالملل. بعد أسبوع، يبدأ "الموطن"، وهو أشبه بمكان محكم أو مبنى صغير فيه أكسجين وماء وكل احتياجاتنا البشرية، بمنحك شعورًا بالراحة وكأنك في منزلك، لأنك تصبح أكثر دراية بجميع المساحات التي تتحول مع الوقت إلى شيء تستخدمه. أثناء بقائك في "الموطن" تكون متحمسًا للمغادرة لعمل EVA أو Extravehicular Activity، وهي عبارة عن جولة نأخذها في البيئة المحيطة والتي تحاكي بيئة الفضاء، مع ارتداء ملابس مناسبة مثل لبس رواد الفضاء، وذلك لجمع العينات وإجراء التجارب. خلال هذه المرحلة أكثر الأشياء التي كنت أفتقدها هي الإحساس بالماء والشمس والرياح على وجهك، والتفاعل المباشر بين الطبيعة وبشرتك».
ويضيف قائلًا: «تُعد المشكلات العقلية جزءًا كبيرًا من عملية اختيار رواد الفضاء، والذين يجب التعامل معهم نفسيًا قبل اختيارهم، لتقليل فرص مواجهة المشكلات. لكن هناك الكثير بدءًا من تصميم "الموطن" والبروتوكول الاجتماعي والأنشطة اليومية، لمعالجة هذه المشكلة على وجه التحديد وإيجاد حل لها، والتأكد من بقاء رواد الفضاء في صحة جيدة».
معاذ أبو معطي