لماذا تجعلنا متع الحياة نكره أنفسنا أحيانًا؟
يفترض معظمنا أن الشعور بالمتعة يزيد إقبالنا على الحياة وتقبُّلنا لظروفنا المحيطة ولأنفسنا، ولهذا مثلًا تنتشر فكرة أن بعض الأطعمة اللذيذة كالشوكولاتة تساعد في التخلص من الاكتئاب، إلا أن لِمتع الحياة البسيطة هذه جانبًا مظلمًا ربما لم نلتفت إليه قبل ذلك، وهو إمكانية تتسببها في شعور معاكس تمامًا يصل إلى حد كراهية الذات أحيانًا.
عرضت مجلة نيويورك تقريرًا عن الطريقة التي تتحول بها سعادتنا ولذَّاتنا القصيرة إلى شعور بالذنب قد يتطور إلى كُره حقيقي للنفس، وتطرَّقت إلى ما يمكن فعله لتحقيق التوازن المطلوب في حياتنا.
الآيس كريم فيه سُمٌّ قاتل
يقدم التقرير تجربة تناول علبة من الآيس كريم كنموذج بسيط لتوضيح مراحل هذا التحول من السعادة إلى الشعور بالذنب، إذ نبدأ بالنظر إلى مكونات العلبة اللذيذة وتوقع مذاقها الرائع، ثم نتقدم نحو الهدف ونتذوق أول ملعقة، ويتطور الأمر إلى التهام العلبة بأكملها، لتأتي أخيرًا المرحلة غير المرغوب فيها: نجلد ذواتنا ونوجه الاتهامات إلى أنفسنا.
لا يقتصر الأمر فقط على الآيس كريم، بل يمكن ملاحظته في كثير من مصادر اللذة في حياتنا، مثل حضور حفل صاخب أو إنفاق الكثير من الأموال لشراء ملابس جديدة، وأحيانًا حتى في الشعور بالانتعاش الذي يعقب الخروج من حمام دافئ. في كل هذه الأحوال، كثيرًا ما يسبب إسرافنا في الاستمتاع شعورًا بأننا حمقى أو ضعاف الشخصية أو غير جادِّين بما فيه الكفاية.
سيكون هذا التذبذب المزاجي لُغزًا إذا حاولنا فهمه بمفاهيمنا التقليدية، فنحن في الأمثلة السابقة ننتظر مكافأة، وعندما نحصل عليها نريد تكرارها أكثر من مرة، وليس هنا أي مجال لجلد الذات أو كراهية النفس، فمن أين أتى هذا الشعور؟
ما هو الشعور بالذنب؟
ربما يرجع شعورنا بالذنب المصاحِب للذة إلى فكر مثالي أو متزمت تربينا عليه منذ طفولتنا، لكن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحًا تمامًا، لأننا، بالإضافة إلى هذه التربية، نتعرض كذلك لهجمات شرسة من الإعلانات تدفعنا نحو الإسراف في استهلاك المتع دون شعور بالذنب، بل ربما على العكس، تُشعرنا بالذنب إن لم نكن مسرفين.
استسلامك للمتعة يتحول إلى خوف من تكرار الاستسلام في المرات القادمة.
يقدم علم النفس تفسيرًا أكثر إقناعًا لكراهية الذات التي تفسد علينا سعادتنا بمتع الحياة، فقد توصل الباحثان الأمريكيان «جورج إينسلي» و«هوارد راشلين» إلى أن سبب ذلك الشعور هو طريقتنا في توقع نتائج أفعالنا، إذ يُنتج نفس الفعل عادةً توقعين متصارعين.
عند تناول الآيس كريم مثلًا، يتوقع الفرد الاستمتاع بمذاقه اللذيذ من جهة، لكنه يتوقع من جهة أخرى أن الاستسلام لهذه اللذة يعني عدم قدرته على التحكم في تناوله للطعام، وبالتالي فشله في تحقيق أهداف أخرى على المدى الطويل، ويؤدي الصراع بين هذين التوقعين إلى التجربة المركبة للشعور باللذة والذنب.
ربما لا يوجد تعارض بين الهدفين نظريًّا، إذ يمكنك الاستمتاع بالآيس كريم دون أن يعني هذا أن تأكل علبة كبيرة منه كل يوم، لكن استسلامك للمتعة هذه المرة يتحول إلى خوف من الاستسلام في المرات القادمة، ومن ثَمَّ جلد الذات.
ورغم السعادة التي تحصل عليها من الانغماس في إحدى المتع، يؤدي هذا الانغماس كذلك إلى عملية تقييم ذاتي غير واعٍ، إذ تُرسل رسالة إلى نفسك مفادها أنك عاجز عن السيطرة على أفعالك، وأنك بالتالي شخص سيئ.
اقرأ أيضًا: انشغالك بالماضي أو المستقبل قد يدل على حزنك
في مثال الآيس كريم، لن يزيد وزنك أبدًا بسبب التهام هذه الكمية بعينها، ولهذا ليست السمنة هي ما يعكِّر صفو استمتاعك فعلًا، وإنما يأتي شعورك بالكَدَر من الرسالة التي تتلقاها من عقلك بعد هذا الفعل، والتي تخبرك أنك شخص شَرِه.
لا تشعر بالذنب لشعورك بالذنب
الشعور بالذنب يهدف إلى إثنائك عن متعة صغيرة حالية من أجل متعة مؤجلَّة أكبر.
يعتقد بعض الناس أن الشعور بالذنب معدوم الفائدة، لكن هذه نظرة خاطئة، إذ يعمل هذا الشعور على إبعادنا قدر الإمكان عن الاستسلام للملذات باستمرار، ويدفعنا بالتالي نحو التمسك بأهدافنا طويلة الأمد.
بدلًا من كبت الشعور بالذنب أو محاولة تجاهله بالانغماس في مزيد من المتع، ينبغي الإنصات له جيدًا ومحاولة استيعابة وتهدئته، لكن مع عدم وضعه في مركز الاهتمام دائمًا، لأن هذا قد يؤدي إلى حالة من الزهد لا تقل خطورةً عن الإسراف في المتع والملذات، والتوازن مطلوب من أجل حياة صحية.
يرى علماء النفس أن الشعور بالذنب يهدف في النهاية إلى إيقافك عن الانغماس في متعة صغيرة حالية من أجل متعة مؤجلَّة أكبر، لكن لا يعني هذا أن تظل هذه المتعة مؤجلة إلى الأبد.
ولإنهاء هذا الصراع المستمر، يمكن القول إن أهدافنا المستقبلية لن تنتهي أبدًا، وسيستمر سعينا وراءها طَوَال حياتنا، لهذا لا تنسَ أن تستمتع من وقت لآخر بنصيبك من الآيس كريم.
أيمن محمود