عِش يومك وانسَ الغد: الفلسفة تعلمنا كيف نحيا سعداء
حياتنا هي مجموع ما عشناه من أيام، وهي اللحظات والساعات التي حييناها بكل حواسنا، في زمن تسيطر عليه الرغبة في تحقيق معدلات مرتفعة من الإنتاجية على حساب جودة الأوقات التي نقضيها، فإلى أي مدًى تجد نفسك حاضرًا، موجودًا بكل حواسك، وسط كل هذا الضجيج؟
يعتبر «الحضور» مفهومًا أساسيًّا في التصورات الفلسفية الشرقية، ويعني أن نعيش الحياة بإدراك يقظ حتى تغمرنا التجارب، وهو مفهوم أكسبه الفيلسوف البريطاني «ألان واتس»، المعروف باهتمامه بالفلسفة الشرقية، شعبيةً لدى الغرب، إذ يشير واتس في كتابه «حكمة عدم الشعور بالأمان» إلى أن رغبتنا في أن نؤمِّن مستقبلنا، وهو شيء مجرد، هي التي تجعلنا نعاني الإحباط والتوتر في حياتنا اليومية، وهو ما عرضه مقال على موقع «Brain Pickings».
عِش حاضرك ودَع المستقبل
يشرح ألان واتس أنه إذا كان الاستمتاع بالحاضر يتطلب ضمانات لمستقبل سعيد، فإننا نطلب المستحيل، لأن أفضل ما نستطيعه هو أن نمتلك توقعات لِما قد يحمله المستقبل، وهذه التوقعات تقوم على الاحتمالات لا المعلومات الأكيدة.
في كل الأحوال، سنمُرُّ جميعًا كبشر بمصاعب ونموت في النهاية، فإذا كانت سعادتنا تتطلب ضمان المستقبل، فإننا غير مؤهلين للحياة السعيدة في دنيا مصيرها إلى فناء، وتقع فيها الحوادث حتمًا مهما حرصنا، ومثوانا الأخير فيها التراب.
تصبح ملاحقة المستقبل مثل مطاردة شبح لا يكف عن الحركة، كلما تعقبته ركض.
يرى واتس أن عجزنا عن جعل الحاضر يسكن كل حواسنا هو ما يحُول بيننا وبين السعادة، فيقول إن «الإدراك البدائي» للإنسان، وهو العقل في أبسط صوره، لا يعرف المستقبل، بل يعيش في الحاضر ولا يفهم سوى الأحداث الآنية، أما «العقل الإبداعي» فيلتفت للذاكرة ويستخدمها في بناء التوقعات.
تكون هذه التوقعات دقيقة (مثل: سيموت الجميع في النهاية) ويمكن الاعتماد عليها لدرجة تجعل المستقبل يبدو واقعيًّا تمامًا، وإلى حدٍّ يُفقد الحاضر معناه.
لكن المستقبل لم يأتِ بعد، ولا يمكن أن يكون جزءًا من الواقع حتى يتحول إلى حاضر، وبما أن ما نعرفه عن المستقبل مبني على عناصر مجردة ومنطقية تأتي في صورة استنتاجات وتخمينات، فلا يمكن أن تشعر بها حواسنا أو نستمتع بها على أي نحو آخر.
لذا تصبح ملاحقة المستقبل مثل مطاردة شبح لا يكف عن الحركة، كلما أصررت على تعقبه ركض أبعد، وهذا يدفعنا إلى طلب المزيد دون أن نستمتع أبدًا بما لدينا. وتتمثل تلك السعادة بعيدة المنال في هذه الحالة في أشياء مجردة، مثل الوعود والآمال، وليس في حقائق ملموسة.
قد يهمك أيضًا: انشغالك بالماضي أو المستقبل قد يدل على حزنك
إنسان هذا العصر يسيء استخدام عقله
إذا أصر الإنسان على العيش للمستقبل سيتحول إلى «ملحق طفيلي لكتلة من التروس».
يقول واتس إن أول صور مغادرة الحضور هي ترك الجسد والانسحاب إلى داخل العقل، ذاك الوعاء الممتلئ عن آخره بالأفكار والتكهنات والاضطرابات والأحكام وما وراء التجارب، والذي لا يكف عن الانشغال بالحسابات والتقييمات. يضيف الفيلسوف البريطاني، الذي توفي عام 1973 ولم يعِش ليشهد التقدم المبهر في مجال التكنولوجيا حاليًّا، أن الإنسان بات مهووسًا بالقياسات والكميات.
يقضي سكان المدن الحديثة أيامهم منخرطين في أنشطة محورها العد والقياس، فيعيشون في عالم استساغوه غير أنه لا ينسجم مع وقع الطبيعة، رغم أن هذه الأنشطة الذهنية التي يستهلكون أنفسهم فيها تستطيع الأجهزة أن تؤديها على نحو أفضل. فإذا كان الإنسان في هذا العصر يعتقد أن أعظم ما يملكه هو عقله وقدرته على الحساب، سيصبح حتمًا بضاعة راكدة في زمن تستطيع فيه الأجهزة القيام بالعمليات الميكانيكية للتفكير بصورة أكثر فعالية.
إذا استمر الإنسان في إصراره على العيش من أجل المستقبل، وفي جعل الوظيفة الأساسية لعقله هي التكهن والحساب، سيتحول إلى «ملحق طفيلي لكتلة من التروس» طبقًا لواتس.
لا يقصد الفيلسوف، بحسب كاتبة المقال، أن يسفِّه من أهمية العقل أو يجعله يبدو كما لو كان يُمثِّل تهديدًا للإنسان، لكنه يصر على أنه ينبغي ترك العقل حتى يفيض اللاوعي بالحكمة دون قيود، وفي هذه الحالة فقط يصبح العقل حليفنا، فالمشكلات لا تظهر سوى عند محاولة السيطرة على لاوعينا.
عندما يعمل العقل بطريقة صحيحة، تتمثل فيه ما يسميه واتس «الحكمة الغريزية»، فالأصل أن يُترك العقل ليعمل بنفس الطريقة الغريزية التي تُمكِّن الحمَام من العودة إلى بيته، وبذات الطريقة التي يتكون بها الجنين في الرحم، دون تعقيدات.
اقرأ أيضًا: 6 أفلام تطرح أسئلة فلسفية غير متوقعة
الرغبة في ضمان المستقبل تتعارض مع طبيعة الكون المتغيرة
يرى الفيلسوف البريطاني تناقضًا في رغبة الإنسان أن يشعر بالاطمئنان التام وهو يعيش في كَوْنٍ يتميز بالسرعة والسيولة، لكن لهذا التناقض بعدًا أعمق من مجرد التنافر بين الرغبة في الأمان وطبيعة الكون المتغيرة، لأننا عندما نريد أن نتمتع بأمان أكبر، أي أن نكون في مأمن من تغيرات الحياة، فهذا يعني أننا نريد الانفصال عن العالم.
هذا الشعور بالانفصال عن الحياة هو نفسه ما يجعلنا نشعر بعدم الأمان، أو لنقل إنه لكي نشعر بالأمان يجب أن نعزل أنفسنا، وفي الوقت نفسه تُشعرنا العزلة بالخوف والوحدة، ولهذا فكلما حصلنا على مساحة أمان أكبر أصبحنا في حاجة إلى مزيد منها.
هكذا يخلص واتس إلى أن الرغبة في الأمان هي نفسها الشعور بانعدام الأمان، لذلك يصير المجتمع المؤسَّس على البحث عن الأمان مجرد مسابقة يحبس فيها الجميع أنفاسهم في محاولة لحيازة أكبر قدر من الهواء، حتى يختنقوا.
لا وجود للذات.. لا وجود للأمان
سندرك أنه لا وجود للأمان فقط بمواجهة خرافة الذات الثابتة، وإدراك أن تلك الأنا الجامدة التي تقع في مركز تجاربنا لا وجود لها، وهو ما يسميه علم النفس الحديث «الذات الوهمية»، لكن الوصول إلى هذا الإدراك في حد ذاته أمر صعب.
الذاكرة وسرعة تغيير الأفكار هما المسؤولان عن وجود تلك الأنا المنفصلة عن التجربة.
يتساءل واتس عن تجاربنا الحاضرة: هل نشعر بوجود أحد يشاهدها؟ إلى جانب التجربة نفسها، هل تكون واعيًا بوجود «ذات» تمر بهذه التجربة؟ هل تستطيع مثلًا أن تقرأ هذه الجملة وأن تفكر في نفس الوقت أنك تقرؤها؟
ستجد أنك لكي تفكر في عملية القراءة ينبغي عليك أن تتوقف عن القراءة للحظة، فالتجربة الأولى هي القراءة والتجربة الثانية هي فكرة القراءة (أنا أقرأ)، وحينما تكون التجربة الحاضرة هي فكرة «أنا أقرأ»، فهل يمكنك أن تفكر في نفسك وأنت تفكر في هذا الأمر؟
مرة ثانية، سيكون عليك التوقف عن التفكير «أنا أقرأ» والانتقال إلى تجربة ثالثة هي «أنا أفكر أنني أقرأ»، ولا تجعلك سرعة الانتقال بين هذه الأفكار تظن أن القراءة والتفكير فيها يحدثان معًا في آنٍ واحد، ففي كل تجربة تكون واعيًا بالواقعة الحالية فقط دون سواها، ولم تكن تفصل الشخص الذي يفكر عن الفكرة، فمع كل فكرة جديدة كنت تمُر بتجربة جديدة.
الذاكرة تعيق الاستغراق في الحاضر
يقول واتس إن السبب الذي يجعلنا غير قادرين على عيش تجاربنا بوعي كامل هو ذاكرتنا التي لا تكف عن العمل، وكذلك علاقتنا المشوهة بالوقت.
الذاكرة وسرعة تغيير الأفكار مسؤولان عن وجود تلك الأنا المنفصلة عن التجربة، وإذا تصوَّرت أن الذاكرة هي معرفة الماضي وليس التجربة الحالية، يتكون لديك شعور بأنك تعلم الماضي والحاضر في نفس الوقت، وهذا يعني أن فيك شيء منفصل عن التجربتين الماضية والحاضرة.
وفقًا لهذا المنطق في التفكير يقول الإنسان إنه يعلم التجربة الحالية، ويعلم أنها تختلف عن التجربة الماضية، ولأنه يستطيع المقارنة بين التجربتين وملاحظة الفرق بينهما، فهو بالتأكيد شيء ثابت منفصل عن الاثنين كما يظن.
يوضح واتس أن الإنسان لا يستطيع أن يقارن بين تجربة حاضرة وأخرى ماضية، وإنما يقارن بين تجربة حاضرة وذكراه عن تجربة ماضية، وهذه الذكرى جزء من التجربة الحاضرة. فإذا أدركت أن الذاكرة هي صورة من صور التجربة الحاضرة، سيتضح لك أنه من المستحيل أن تفصل نفسك عن هذه التجربة.
كي تفهم الموسيقى يجب أن تستمع إليها، لكن ما دمت تفكر أنك تستمع إلى الموسيقى فأنت لا تستمع إليها حقًّا.
عندما تفهم ذلك، ستفهم أيضًا أن الحياة برمتها لحظية، فلا وجود للدوام أو الأمان المطلق فيها، كما لا توجد «أنا» تستطيع حمايتها.
قد يعجبك أيضًا: أين الجنة؟ ربما تفصلك عنها 5 خطوات وحسب
يعتبر واتس هذا جوهر الصراع الإنساني، فليس الموت ولا الخوف ولا الجوع هو ما يجعل الحياة صعبة ومحبطة، وإنما سعينا الدائم للهروب بأنفسنا بعيدًا عن تلك التجارب، فحين تعصف بنا الأزمات نتصرف مثل الأميبا، فنحمي أنفسنا بالانقسام إلى نصفين.
إن سلامة عقولنا ووحدتنا تتمثل في إدراكنا أننا لسنا منقسمين، وأننا نحن وتجاربنا واحد. لكي تفهم الموسيقى يجب أن تستمع إليها، ولكن ما دمت تفكر أنك تستمع إلى الموسيقى فأنت لا تستمع إليها حقًّا.
دينا ظافر