يا مدد: تاريخ الصوفية في مصر من عصور الفراعنة إلى شيوخ الطريقة
خيام متناثرة في محيط المساجد، ومواكب منشدين بالأوشحة والأعلام الخضراء والحمراء تصدح بالتكبيرات والأذكار، وطوابير فقراء تتدفق من أجل نفحات الأيام المباركة، هذه هي الملامح الراسخة في وجدان المصريين عن الحركة الصوفية أو «دراويش آل البيت» كما يلقَّبون، حين تحتفل الطرق الصوفية بالموالد السنوية قرب المساجد الكبيرة في محافظتي القاهرة وطنطا، لكن هل نعلم ما الصوفية؟
يقدم الفلاسفة والمؤرخون والباحثون عديدًا من المصطلحات بشأن التصوف، تدور جميعها في فلك واحد تقريبًا، هو الزهد والتقرب إلى الله والرضا بالحياة كما هي، لكن بعض التعريفات أصاب الحقيقة، منها ما قاله بِشر بن الحارث: «الصوفي من صَفَا قلبه للَّه»، وهو نفس تعريف الشيخ محمد متولي الشعراوي: «أن تكون صافيًا للَّه».
يميل الصوفي إلى الزهد والعُزلة بقصد التماهي مع حالة الاتحاد اللا متناهي في علاقته بالإله، فيقول أبو القاسم الجنيد، أحد أعلام التصوف السُّني، إن الصوفية هي استعمال كلِّ خُلُقٍ سَنِيّ (رفيع وراقٍ)، وترك كلِّ خُلُقٍ دَنِيّ (خسيس)، ومن هذا التعريف تظهر خصائص الصوفية الواضحة في التسليم والزهد والصبر والصدق، وانعكاسها على انخراط الصوفيين في العبادات المصحوبة بمديح الخالق والنبي والسَّلَف.
يؤكد معظم المراجع ظهور بدايات التصوف في الكوفة بالعراق خلال القرن الثالث الهجري، وهي الدعوة التي تلقفتها بقية الدول العربية، إلى أن صارت بشكلها الحالي في شجرة الطرق الصوفية التي تمتد جذورها إلى بلدان العالم.
التصوف في مصر: 77 طريقة وعشرات الموالد
حسب الأرقام الرسمية، يوجد في مصر 77 طريقة صوفية تنحدر من سبع طُرُق كبرى تنتشر في المحافظات، ويظهر رجالاتها في الموالد مع الاحتفال بذكرى ميلاد أحد الأولياء أو «شيخ الطريقة»، وهي: الطريقة الشاذلية، والطريقة الدسوقية، والطريقة الرفاعية، والطريقة البدوية، والطريقة الخلوتية، والطريقة القادرية (الجيلانية)، والطريقة العزمية.
تحتفل الطرق الصوفية بموالد عدة، من أشهرها مولد الحسين ومولد السيدة زينب ومولد السيدة نفيسة في القاهرة، ومولد السيد البدوي في طنطا، ويقدِّر رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية، عبد الهادي القصبي، عدد أنصار الطرق الصوفية في مصر بـ15 مليونًا.
قد يهمك أيضًا: ضريح «الإمام الرضا»: موضع اشتباك آخر للدين والبيزنس
لطالما تبارت الحضارات القديمة، بل والأديان، في نِسبة أصول التصوف إليها، خصوصًا أن المؤرخين والفلاسفة المسلمين يعتبرونه ظاهرة إسلامية خالصة، لكن هناك شواهد على وجود بدايات لهذا الفكر بأشكال مختلفة عند قدماء المصريين، وهي العادات التي تطورت على يد أنصار الطرق الصوفية في مصر على مدى القرون الماضية.
سَرَد بعض المراجع التاريخية التي تناولت العمق الديني عند المصريين القدماء بعضًا من ملامح زهد الآلهة في فترات تاريخية اشتد فيها الصراع مع كهنة المعابد، إلى جانب بعض العادات التي فُسِّرت على أنها بدايات ما نطلق عليه اليوم الموالد الدينية والشعبية.
إخناتون: أول الموحدين والمتصوفين أيضًا
كسب «أمنحوتب الرابع»، أو «إخناتون»، شهرته بصفته المُصلح أو المهرطق الأوحد في تاريخ الديانة المصرية. قاد ذلك الملك الشاب ثورة الإصلاح الديني في الأسرة الثامنة عشرة لتوحيد شعبه حول عبادة إله واحد فقط، «آتون»، في خِضَمِّ تأمُّلاته الفكرية والروحية، التي كانت غريبة على كهنة الإله «آمون» بمركز القيادة في طِيبة عاصمة مصر القديمة.
يذكر الباحث «ياروسلاف تشيرني» في كتابه «الديانة المصرية القديمة» أن مبادرة إخناتون الروحية استهدفت تشييد ديانة شعبية تحظى بقبول كل شعوب الإمبراطورية، وذلك بتجريدها من الملامح المصرية البحتة، وكان دافعه في ذلك حماسه الديني النقي.
رسم إخناتون شكل عبادته الجديدة بعدما انتقل إلى عاصمته الجديدة «أخيتاتون»، وموقعها الحالي منطقة «تل العمارنة» في محافظة المنيا جنوبي مصر، آليًا على نفسه أن لا يغادرها مرة أخرى، فكانت ملاذًا لتأملاته الروحية وعبادته الزاهدة في كل شيء، دون أن يبذل أي جهد أو يهتم بما يحدث للممتلكات المصرية في سوريا وفلسطين، التي كانت على حافة الانهيار تحت ضغط الهجمات التي لا تتوقف من الأعداء.
طالت ثقافة إخناتون الاحتفال بأعياد أخرى غير تلك التقليدية السنوية عند الآلهة حينذاك، فنظَّم احتفالًا غريبًا بالعيد الثلاثيني، أو عيد «السَّد»، ويقول تشيرني إن طبيعة العيد لا تزال غامضة بالنسبة إلى علماء المصريات حتى الآن.
انتهت ديانة إخناتون بمجرد وفاته بعد حكم استمر 17 عامًا، فتحول خليفته توت عنخ آمون إلى الديانة القديمة، كما عاد إلى العاصمة الأصلية طِيبة حيث دُفن، وأطلق الكهنة على عهده الملكي «سنوات الخارج».
كثيرون تحدَّثوا عن بدايات التصوف عند قدماء المصريين، ويشير الدكتور مصطفى محمود في مذكراته إلى تأثير تصوف المصريين القدماء في معتقداته، فيقول: «كنت أبحث لأنني أريد أن أكتشف الجديد، وحتى في هذا الجانب وجدت أن قدماء المصريين عرفوا التصوف والإيمان والتفاني فيه وله ومن أجله».
أناشيد إخناتون: إرهاصات الفكر الصوفي عند الفراعنة
يصل التوحيد الذي دعا إليه إخناتون إلى ذروة النقاء والتجريد، إذ وجد مصطفى محمود أن المصريين القدماء كانوا يتضرعون إلى الإله بالقول:
«يا آتون الحي، يا بدء الحياة، إنك بعيدٌ متعالٍ، ولكنك تُشرق على وجوه الناس، تمنح الحياة للجنين في بطن أمه، وتُعنَى به طفلًا، وتسكِّن روعه فلا يبكي، وتفتح فمه وتعلِّمه الكلام، وتدبِّر له ما يحتاج إليه في حياته، وتعلِّم الفرخ كيف يثقب بيضته ويخرج، وما أكثر مخلوقاتك».
«يا واحد يا أحد ولا شبيه لك، خلقت الأرض حسبما تهوَى، خلقتها وحدك لا شريك لك، وخلقت ما عليها من إنسان وحيوان، ودبَّرت لكل مخلوق حاجاته، وقدَّرت له أيامه المعدودة، وجعلت الناس أُممًا وقبائل ولغات متعددة، وجعلت لهم الشتاء ليتعرَّفوا بردك، والصيف ليذوقوا حرارتك، وصوَّرتهم في بطون أمهاتهم بالصور التي تشاء، وأنزلت لهم الماء من السماء، ليجري أمواجًا تتدافع وتروي حقولهم، ما أعظم تدبيرك يا سيد الأبدية».
«إنك في قلبي، وليس هناك من يعرفك غير ابنك الذي وُلد من صلبك، ملك مصر العليا والسُّفلَى، الذي يحيا في الحق، سيد الأرضِين، إخناتون».
يؤمن عمرو فكري، وهو باحث في أصول الصوفية ومؤلف كتاب «قدس الأقداس»، بوجود ما يُسَمَّى «التصوف الفرعوني البدائي»، وهو ما يتجلى في عديد من المشاهد التي كوَّنت لديه هذه الصورة.
يشير فكري، في حديثه مع «منشور»، إلى أن إخناتون هو أحد أقوى النماذج الدالة على إرهاصات الفكر الصوفي، بسعيه إلى تدشين حياة أخرى زاهدة تمامًا في علاقته مع الإله آتون، الذي رمز إليه بقرص الشمس، وتمرُّده على الآلهة الأخرى التي عبدتها الشعوب حينها، لذا اعتبره علماء المصريات ملحدًا، واتهمه بعضهم بـ«الشذوذ الجنسي» بسبب هيئة تماثيله داخل القصر الذي شيده في «تل العمارنة».
قد يعجبك أيضًا: ما الهوموفوبيا ولماذا يخاف البعض من المثليين؟
لا يُبرز علماء المصريات والأثريون عمومًا الجانب الروحاني في علاقة الآلهة والمراسيم باعتبارها مجرد توثيق، لذا لا يتحدثون كثيرون عن الزهد وامتدادات الصوفية عند المصريين القدامى، بحسب فكري.
تقول مديرة مركز بحوث وصيانة الآثار في مصر، الدكتورة سامية الميرغني، إن إخناتون يُعَدُّ المثال الحقيقي على التوحيد، بعد استقلاله عن كهنة آمون في عاصمة الحكم طِيبة وبناء قصرٍ له في «تل العمارنة»، بسبب سيطرة كهنة آمون على المال ونفوذ السُّلطة في طِيبة.
توضح الميرغني لـ«منشور» أن زهد إخناتون تَجَلَّى في أناشيده التي ناجى فيها ربه، وهي الأناشيد التي أخذت منها اليهودية في مزامير داوود.
لم يتخلَّ إخناتون عن جميع مظاهر بذخه كملك، لكنه تَخلَّى عن فتوحاته وأهمل شؤون حكم الأسرة من أجل التعبُّد في «تل العمارنة».
وَفقًا لسامية الميرغني، لم يتقشف المصريون القدماء تمامًا أو يتفرغوا للعبادة، كما يفعل أنصار الطرق الصوفية في الوقت الحالي، بل على العكس كانوا يستمتعون بوسائل الترف والمتعة وقتما حضرَت في غير مواعيد العمل النهارية، بجانب اتِّباع القيم الجميلة والمثالية.
اقرأ أيضًا: هل كان الترفيه سببًا في انهيار الحضارات؟
يدلل عمرو فكري بمشاهدات أخرى تشير إلى التصوف الفرعوني، مثل «حلقات الذكر التي انخرط فيها القدماء داخل المعابد، والتي تتشابه كثيرًا مع مظاهر احتفالات الصوفيين الآن»، كما يلفت إلى أن أقوال الآلهة والحكام الذين ارتبطت ألقابهم بالحكمة، مثل تحوت، إله الحكمة والمعرفة عند قدماء المصريين، والتي وردت في كتاب «مُتون هِرمس»، تدل على التأملات الفكرية في شكل الإله والحِكَم المأخوذة عنه.
حُكم «تحوت» العظيم: النور والشمس والسماء
حمل «تحوت» عديدًا من الألقاب، منها «إله الحكمة والمعرفة والسحر»، للعبه أدورًا في الصراعات بين أنظمة الخير والشر في مصر القديمة، وليس من الصعب العثور على نصوص له يناجي فيها الإله بلُغةٍ مليئة بالحكمة، مستخدمًا رموزًا مثل النور والشمس والسماء:
«إنه النور الذي يسطع بداخلك، هو نور الخالق الذي أبدع منه الكون، فهو يسكن روحك التي تطوف بعقلك، هو قدس معبدك، ومعبدك هو أنت. أنت من يقدِّس الخالق العظيم بتأمُّل كونه البديع، والكون هو بوابة الشمس للعلوم المقدَّسة، التي تجعل عقلك معبدًا للروح، والروح معبدًا للخالق. فيك يتجلَّى الكون ببهائه».
«الروح لا تعرف ذكرًا وأنثى، بل الأَبْدان هي التي تعرف، فإذا كان بدنُك زائلًا ورُوحُك سرمدية تعود من الظلام لتشرق مرة أخرى مثل رَعْ في السماء، فإن رَعْ يقدِّس الخالق بدورته السرمدية، كذلك روحك تدور في رحلتها وتعود إلى مكانها الطبيعي بجوار خالقها».
أفلوطين: إمام التصوف في العصر الروماني
لم يكُن إخناتون الوحيد الذي غرَّد خارج نسق الكهنوت، إذ تعجُّ لائحة آباء المتصوفين عند قدماء المصريين بأسماء أخرى، حسبما جاء في كتاب «قدماء المصريين أول الموحدين» للدكتور نديم السيَّار.
من بين هؤلاء «أفلوطين»، فيلسوف اللاهوت المختَلَف في جنسيته بين يوناني ومصري، الذي قيل عنه إنه إمام التصوف.
يقول الدكتور زكي نجيب محمود إن حياة أفلوطين الشخصية بُنيت على الزهد والتقشف من أجل تطهير الروح، ولم يكن يبيح لنفسه من الطعام إلا ما يقيم أَوْدَه، وكان يصوم يومًا بعد يوم.
عباس العقاد تحدث أيضًا عن أفلوطين، فقال إنه «آخر فيلسوف يُحسَب من صميم الصوفية، أو يقال بغير جدال إنه إمام التصوف».
من متصوفي مصر القديمة كذلك حكيم آخر هو «بتوزيريس»، الذي انتمى إلى الأسرة الثلاثين آخر الأسر الفرعونية، وشغل منصب كبير كهنة الأشمونيين في صعيد مصر، ويؤرَّخ عن حياته بأنها كانت كلها في سبيل التقوى، ومثالًا صالحًا لمن يحبون الطُّهر.
نذور «أوزوريس»
تحولت أبيدوس، مهد مقابر الفراعنة الأوائل، إلى بقعة حَجّ.
يشير ياروسلاف تشيرني إلى مشهد آخر من الملامح الدالة على وجود صلة بين أفعال المتصوفين المصريين وأسلافهم في الحضارات القديمة، هو مواكب حَجِّ المصريين إلى معبد «أبيدوس»، الواقع حاليًّا في محافظة سوهاج، حيث قبر «أوزوريس» إله الخضرة والعالَم الآخر عند المصريين القدماء، الذي انتشرت عقيدته بشكل لا يقاوَم في كل البلاد، فكان المصريون حينذاك يؤمنون بآلهة الموت وقدرتهم على النجاة بأقدارهم في الحياة الأخرى.
كانت الطقوس السائدة أن يقدِّم الناس القرابين (أطعمة أو حيوانات) إلى الآلهة للتقرُّب منها، فيخاطبون أوزوريس باعتباره حاكمًا لأرواح الموتى. وتحولت المدينة، التي تُعَدُّ مهد مقابر الفراعنة الأوائل، إلى بقعة حَجّ، فقد كان المصريون يأتون إليها من كل أنحاء البلاد.
هنا يجد عمرو فكري رابطًا واضحًا بين النذور الحالية التي يقدمها أنصار الطرق الصوفية إلى «الأولياء الصالحين»، وتلك التي باشرها أتباع أوزوريس في نهاية حكم الأسرة السادسة، فأتباع أوزوريس بنَوا معتقداتهم على وجود جسد الإله أو رأسه في القبر على أقل تقدير، وظنوا أن تعويذات حاكم القبور تضمن حمايتهم من الجوع والعطش في العالم الآخر، كما اعتقدوا في قدرته على تقمُّص مختلف الأشكال الحيوانية، والخروج إلى النهار من ظُلمة المقبرة، وهو ما نجد اعتقادات مشابهة له عند الصوفيين الآن.
كان أنصار أوزوريس يحتفلون بذكرى ميلاده سنويًّا بالنذور والقرابين كنوع من التبرُّك به، وهي العادات السارية حاليًا، كما يفعل الصوفيون بإعداد موائد الأكل في الموالد السنوية، وفقًا لفكري.
التصوف القبطي
لم يتوقف إرث قدماء المصريين عند تأسيس التصوف كفكر روحاني قائم على مناجاة الآلهة والزهد في الحياة، بل تطوَّر ليشمل الرهبنة، التي تحمل المعنى نفسه الذي تَعلَّمه آباء الرهبنة المصرية على يد السيد المسيح، إذ تشير بعض الأبحاث التاريخية إلى أن النظام الرهباني ظهر في مصر القديمة لأول مرة وتطور بها، ثم صدَّرته مصر إلى العالَم المسيحي.
يمكن القول إن المصريين القدماء وضعوا اللبنة الأولى لشكل العلاقة بين الإنسان وربه.
تأسست الرهبنة القبطية في القرن الثالث الميلادي على يد المعتكف الصعيدي الأنبا أنطونيوس، الملقب بـ«أبو الرهبنة»، الذي جمع الفلاحين للاعتكاف في الأديرة للهروب من الاضطهاد الروماني الذي تَعرَّض له المسيحيون في مصر.
يشير ماجد الراهب، رئيس جمعية المحافظة على التراث المصري، إلى أن الأنبا أنطونيوس لم يكن الراهب الأول، لكنه أسَّس أول نوع من الرهبنة التنظيمية والتلمذيَّة.
ويؤكد الراهب أن «التصوف متوارَث منذ القِدم، فالمصريون القدماء تركوا ميراثًا للتعامل، ومنه ترانيم إخناتون، الذي كان متصوفًا على الرغم من أخطائه في الحكم وإدارة الدولة وقتها».
رغم اختلاف الأفكار والعادات بين الماضي والحاضر، يمكن القول إن المصريين القدماء وضعوا اللبنة الأولى لشكل العلاقة بين الإنسان وربه، فعبَّرَت أشكال العبادة والطقوس الدينية في عصورهم عن وجود وعي وإدراك لقيمة العبادة، بدأت مع إخناتون وتَجلَّت بعد ذلك بالرهبنة، إلى أن سُمِّيَت في ما بعد بالصوفية.
أحمد البرديني