العودة من الموت: لماذا حاولتُ الانتحار؟
لا أعرف عدد المرات التي قرأتَ فيها تجربة كتبها شخص نجى من الانتحار. قلما نتحدث عن ذلك في الخليج العربي، لكني كشخص يتعافى من رحلة انتحار للمرة الرابعة، تعودتُ أن أتحدث عن ذلك وأنا أختبئ خلف أسماء الكتب التي قرأتها عن هذا الموضوع، بداية من «دوركايم» ونهاية بـ«كي ريديفلد جيميسون»، وأعرف أن أسئلة كثيرة تتبادر خصوصًا إلى أذهان أولئك الذين لا يعبرون هذا النوع من التجارب القاسية.
فما الذي يحس به من يقبل على الانتحار؟ هل يشعر بأنه شجاع أم ضعيف إزاء قراره بمغادرة هذا العالم؟ كيف يخطط للأمر؟ هل يريد أن يقول شيئًا ما من خلال رحيله بهذه الطريقة؟ ما علاقتنا نحن كمجتمع بذلك؟ وأنا مهتمة بشكل خاص بالإجابة عن هذا السؤال الأخير، في ظل ارتفاع معدل الانتحار في الكويت مؤخرًا.
سأبذل قصارى جهدي كي لا أحاول أن أبدو اعتذارية في اللغة التي أستخدمها هنا، ذلك الشكل من الاعتذار المتمثل في تبرير الأعراض التي عايشتها في محاولات انتحاري السابقة، لكي أقول إن ما شعرت به مفهوم وأثبته العلم.
هل الانتحار نتيجة لمشكلة وجودية؟
قبل بضعة أشهر كان لدي موعد في مستشفى الطب النفسي، وفي صالة الانتظار تقدمتْ مني شابة عرفت نفسها على أنها مساعدة باحث في الطب النفسي، وتحتاج مني إلى إجابة مجموعة من الأسئلة المتعلقة بمراجعتي الدورية للمستشفى. كان من بينها الأسباب التي أعتقد أنها تدفع اكتئابي إلى حالاته القصوى، وكان السؤال مفتوحًا على عكس بقية الأسئلة. حينها لم يخطر على بالي سوى أنني لا أستطيع احتمال هذا المكان أكثر، فكتبتُ ببديهية أن هذا المكان يدفعني نحو الجنون كل يوم.
بعد أن سلمتها ورقة الإجابة عادت لتسأل عن معنى إجابتي، فما الذي تقصدينه بالضبط؟ هل فقدتِ أحدًا هنا؟ ما كنت أقصده هو المجال العام بمعناه السياسي، مجمل التفاعلات الحيوية داخل المنظومة، في نشاطاتها المختلفة.
إن حالة الركود هذه تُشعرني بأنني خارج التاريخ. حتى التحديات الكبيرة أحس معها بالإحساس نفسه، وضع المرأة، انعدام الأفق السياسي، محدودية الحياة اليومية والخيارات التي تطرحها، الأزمات التي تجعل الآخرين في مأزق مثل الفقر والبطالة. لا أستطيع أن أفصل نفسي عما يحدث، ولا أعتبر حالة الانفصال هذه أخلاقية.
عرفتُ حينها أن هذا التشابك المباشر مع المجتمع الذي يحيط بي أمر يكاد يكون مجهولًا، وهذا محبط أيضًا، ففرضية انعدام الجدوى لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تُنتزع من سياسة المكان، الذي يسمح أو يمنع مساحات التعبير والتلاقي مع التجارب التي تمنح المعنى.
لا أقول إنني لا أمتلك دوافع جينية، أو نفسية شخصية للإصابة بالاكتئاب، لكنني ببساطة لا أجد أن عملية الفصل هذه حقيقية. ألا تقول القاعدة الشائعة إن «كل شخصي سياسي»؟
في غرفة الطوارئ
في الثلاث مرات السابقة تناولتُ علبة كاملة من الأدوية، لا أعرف عدد الحبات التي تجرعتها دفعة واحدة، وخضعت لغسيل معدة بسبب التسمم الذي نتج عن ذلك. لحسن الحظ تفهم الطبيب المناوب الحالة ولم يضطر إلى إثباتها، فمحاولة الانتحار للمفارقة الساخرة «جريمة» في بعض دول الخليج العربي.
أحد أبرز مخاطر الاكتئاب هو شعورك المستمر بفقدانك السيطرة على نفسك.
في المرة الأخيرة قبل عام من هذه الكتابة، قررت أن أتبع طريقة جديدة، أظنني سأستخدم السكين. بدأت في التخطيط للأمر، والبحث عن سكين مناسبة وحادة، وكل هذا وأنا في حالة من التحفز غير الطبيعي للتخلص من كل شيء، واعتبار أي شيء على الإطلاق عبئًا لم أعد أستطيع التعامل معه، خصوصًا أن الناتج عن هذا كله لا يرضيني ولا يشعرني بالسعادة في أدنى مستوياتها.
قررت أن أستحم وأمشط شعري كمحاولة أخيرة للهدوء، وعندما فشلتْ تناولت هاتفي وطلبت من أقرب صديقاتي أن تأتي فورًا لأنني في خطر. قد يبدو هذا غريبًا بالنسبة لمن لم يجرب هذا الشعور، فإذا كنت بحاجة لأن ينقذني أحدهم، فلماذا أُقدم على قتل نفسي؟
أحد أبرز مخاطر الاكتئاب هو شعورك المستمر بفقدانك السيطرة على نفسك، حتى وإن تنازعك صوت، تدربهُ بالعلاج النفسي، حول مجابهة علامات هذا الخطر. إن أول درس يعلمونه لنا هو أن نتحدث مع أحد المقربين منا، وحتى هذا بالنسبة إلى شخصية منطوية وكارهة لذاتها، صعب جدًا، إذ يبدو شكلًا من التطلب الذي لا أشعر أني أستحقه، فأنا لا أستحق شيئًا.
بعد وصولي إلى قسم الطوارئ، خضعت لفحوصات عضوية شاملة قبل لقاء الطبيب النفسي المناوب، والذي رفض مغادرتي للمستشفى وأصر على بقائي في قسم التنويم، الذي ما إن عرفت أن الحالات فيه مختلطة وليست بحسب التشخيص حتى زاد هلعي وشعوري بأن هذا سيقضي عليّ بدوره. لا أستطيع احتمال غرفة مكتظة بأشخاص يعانون من أزمات قد تكون متطرفة، هذا يجعلني أكره هذه الحياة أكثر ولا يساعدني أبدًا. لكن مخاوفي لا معنى لها أبدًا، فليس لدي خيار الرحيل.
في كل مرة تحاول فيها الانتحار يطرح الطبيب النفسي أسئلة باردة ومكررة للبحث عن مكمن المشكلة، بداية بـ هل خططتِ بالتفصيل؟ أخبرينا عنه؟ هل قررت أن تؤذي أحدًا آخر مِن حولك؟ هل سمعت أصواتًا غريبة دفعتك لهذا؟ وعليّ أن أجيب هذه الأسئلة بوضوح.
يتملكني حينها شعور بالغرابة، إذ لماذا يثق الطبيب في إجابات شخص غير واثق من نفسه، بل ويشعر أنه متلاعب، ومخادع، ولا يريد سوى جذب تعاطف الآخرين له قسرًا، ونرجسي، ولا يستحق الحياة؟ أنهارُ مجددًا في حلقة «الهامستر» الطاحنة هذه، ويتملكني شعور ذنب من النجاة.
ما الذي ساعدني بالفعل؟
أنا ملتزمة بتعاطي جرعات الدواء اليومية التي وصفها الطبيب المتابع لحالتي، ولا أتخلف عنها. لقد تعلمت أنني لست في موقع مناسب لاتخاذ قرار تناول الدواء من عدمه، وأن هذه مسؤولية الطبيب.
بالإضافة إلى سلسلة من التمرينات التي بدأت في اللجوء إليها عند مروري بنوبة ذعر أو شعور الإغراء بأن الانتحار سيخلصني من كل المتاعب إلى الأبد، منها تقنية «خطوات الطفل»، فعندما أستيقظ في يوم من الأيام ولا أستطيع مغادرة الفراش، عليّ إقناع نفسي بالذهاب إلى الحمام أولًا، ثم تفريش أسناني، ومن بعدها تناول كوب قهوة، والتفكير لاحقًا في ما عليّ فعله، وما لو استمر هذا الشعور القابض أم بدأ في التلاشي.
وجدتُ أن الانغماس في مشروع يهمني مفيد كثيرًا، لذلك بدأت البحث عن عمل يتعلق بالكتابة، فالفضول دائمًا علامة على الصحة والتعافي. هذا العمل كنت أريد منه أن يدفعني إلى البحث والتوثيق في مسارات جديدة، أو حتى مسارات لطالما اهتممت بها، فليست الجَدة هي القيمة الأهم، بل قد يكون التكرار فرصة سانحة لازدهار أي تجربة.
ولأنني لم أجد الأخصائي النفسي المناسب، قررت ألا أُغفل البحث عن مصادر تدفعني إلى التفكير في وضعي القائم، لذلك أصبحت القراءة حول جديد الأبحاث في علم النفس حاضرة في جدول قراءاتي، حتى أنني مؤخرًا قرأت كتابًا حول علم النفس التطوري.
أنا شخص لديه امتيازات
من السهل جدًا أن نتحدث عن تجاربنا دون الإشارة إلى ظروفنا الحقيقية التي قد لا تتوفر للآخرين بسهولة، لذلك من المهم بالنسبة لي أن أتشارك معك الامتيازات التي أحظى بها، والتي مكنتنتي من تلقي العلاج، ومحاولة تنظيم حياتي اليومية وفقًا لإرادتي.
أنا فتاة في العشرينات، مستقلة، أعمل لقاء أجر جيد، تمكنتُ من إنهاء زواجي عندما شعرت بالحاجة إلى الانفراد بنفسي، دون أي تداعيات اجتماعية كبيرة، أسكن بمفردي، وحرة في التنقل، فلست مضطرة لأخذ أذونات مرتبطة بموافقة ولي أمر أو ما شابه ذلك. لذا قد لا تمتلك كل هذه الامتيازات، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أنك لن تجد مخرجًا من المأزق الذي وجدتَ نفسك فيه. فهنالك مخرج دائمًا، أرجوك لا تستسلم.
ما الذي أشعر به حقًا؟
أجلتُ الحديث عن مشاعري العامة حتى النهاية، حتى لا تُستخدم هذه الأفكار في تهميش دور المكان الذي أعيش فيه في ما وصلتُ إليه. أحس بأنني قبيحة جدًا، ومهما حاولت، لن أتمكن من أن أكون مقبولة في أحسن الأحوال. أشعر بأن أحدًا لم يحبني يومًا لذاتي، وبأنه كثيرًا ما يُساء فهمي، لأنني أعجز عن التواصل الاجتماعي السهل، فالتعامل مع الآخرين يتطلب مني جهدًا عاليًا. لا أشعر بأن علاقتي بعائلتي تساعدني على الإطلاق، ولولا تعاطفي معهم لتركتهم دون رجعة، لكنني لا أحب أن أؤذيهم أبدًا.
أرغب دومًا في أن أكون على قدر عال من الجاهزية للتعامل مع توقعات أصدقائي العالية، حتى وإن لم يصرحوا بها، ربما لأن توقعاتي منهم عالية في المقابل، لهذا تتحول حتى العلاقات المريحة بمرور الوقت إلى عبء ينبغي أن أثبت فيه استحقاقي للمحبة والصداقة.
لا أتذكر أنني يومًا ما رضيت عن عمل أديته، لدي وسواس بأني ساذجة وأن الآخرين يتجنبون الاعتراف بذلك أمامي حتى لا يتسببوا في إيلامي.
أقضي كثيرًا من الوقت في تأمل المرادفات اللغوية للانتحار، ما يمكن أن ينبثق عنها، الامِّحاء، الإخفاء، التلاشي. ومع ذلك، فما هي الحياة إن لم تكن انتزاعًا للحظات الصغيرة الدافئة من فم القرش؟
إذا كنت تفكر في اﻻنتحار، توجَّه إلى شخص مُقرَّب واطلب منه المساعدة، أو يمكنك زيارة هذا الموقع.
ربى خالد