الكنز في الرحلة: ﻻ تشترِ السلعة، اشترِ التجربة
هل السعادة في المال أم في راحة البال؟ لنتجاوز هذا السؤال الذي ستختلف الإجابة عنه باختلاف وجهات النظر من شخص إلى آخر، ولنفترض أننا حققنا جانبًا من السعادة بالحصول على المال، ونقف الآن أمام عدة خيارات حول كيفية تحقيق السعادة بما لدينا من مال، حتى إن لم يكن ثروة طائلة.
حاول بعض الباحثين التخلص من تضارب وجهات النظر في هذه المسألة، ليقفوا على حقائق علمية ترشدنا إلى سُبُل تحقيق السعادة عن طريق المال، فدرسوا العديد من طرق الإنفاق التي يختارها الناس. قارن الباحثون بين الإنفاق على السلع عمومًا والإنفاق من أجل خوض تجارب حياتية جديدة، وخرجوا بنتيجة مفادها أن «شراء التجارب» يحقق السعادة للإنسان بدرجة تفوق كثيرًا شراء السلع، وهو ما أوضحه تقرير نشرته مجلة فوربس الأمريكية.
اكتشف «توماس جيلوفيتش» مع باحثين آخرين أن المرور بتجارب حياتية مختلفة يمنحنا سعادة تدوم لفترة أطول من تلك التي نشعر بها عند شراء السيارات والهواتف والملابس، وغيرها من السلع التي قد نرى فيها رفاهية ومتعة كبيرة.
أنت لست سلعة
لا يُقاس عمر الإنسان بما استطاع الحصول عليه من مقتنيات، بل إن ما يشكل حياتنا بحق هو تراكم التجارب والخبرات والمشاعر التي نمر بها به في المواقف المختلفة. لفهم ذلك، قارن بين التغيير الذي ستشعر به بعد شراء أحدث هواتف آيفون، وما ستشعر به بعد خروجك إلى رحلة لتسلق الجبال أو سفاري في منطقة صحراوية.
اقرأ أيضًا: علم النفس يخبرك بالعلاقة بين المادية والسعادة
لكل إنسان خبرات فريدة من نوعها ولا يمكن مقارنتها بغيرها.
تخبرنا الدراسة أن الفارق بين طريقتي الإنفاق هو أن التجارب والخبرات يشكلان الجزء الأكبر من شخصياتنا وليس السلع المادية، ويمكن للفرد بسبب شدة حبه لسيارته أو هاتفه أن يشعر أنه أصبح جزءًا منه، إلا أن هذا الشعور لن يدوم طويلًا بسبب تلف السلعة أو الملل منها، عكس الحال مع التجارب، التي تترك كل واحدة منها بصمة في تكوين وجدان الإنسان، وتبقى معه طيلة عمره، فنحن مجموعة من التجارب ولسنا سلعًا.
خبراتك لا تُقارَن
نحن لا نقارن خبراتنا بنفس المعايير التي نقارن بها ممتلكاتنا مع ممتلكات الآخرين، فمعايير مقارنة سيارتك بسيارة صديقك معروفة، لأنك لو كنت تملك سيارة أحدث ولها سعة محرك أكبر وكماليات أكثر، ستشعر بالرضا عن سيارتك، أما مقارنة تجربة كالدراسة في الخارج مع تجربة مماثلة خاضها صديقك فأمر مختلف، إذ أن لكل تجربة تفاصيلها الخاصة، وتتبعها مشاعر تختلف بالتأكيد عن غيرها من تجارب الآخرين.
أجرى باحثون من جامعة هارفارد دراسة أثبتت صعوبة المقارنة بين السعادة التي يحصل عليها شخصان من تجربتين مختلفتين، لأن هذه الخبرات تخضع في النهاية لمعايير نسبية، عكس مقارنة الرواتب مثلًا، التي تخضغ لعملية حسابية بحتة، لهذا يمكن القول إن لكل إنسان خبرات فريدة من نوعها بما يجعلها لا تقبل المقارنة بغيرها.
قد يهمك أيضًا: كيف يعيد المال تشكيل معتقداتنا؟
سعادة التخطيط للتجربة تكفي
نحتفظ بذكريات طيبة تمحو سلبيات التجربة حتى لو خالفت توقعاتتا، عكس السلع السيئة التي تحبطنا كلما نظرنا إليها.
يأتي عنصر التوقع والانتظار كأحد أهم الجوانب التي اهتم بها جيلوفيتش في مقارنته بين سعادة الخبرات وسعادة الاقتناء، إذ وجد أن انتظار خبرة أو تجربة معينة تصحبه إثارة ومتعة تفوق ترقب الحصول على شيء مادي، وكثيرًا ما يصحب انتظار وصول المشتريات الجديدة ملل من طول الانتظار، أما الاستمتاع بالتجربة فيبدأ من لحظات التخطيط الأولى لها.
لهذا السبب لا نتعجب من احتفائنا بليلة العيد أكثر من يوم العيد نفسه أحيانًا، إذ يكمن الجزء الأكبر من استمتاعنا بالعيد في التجهيز له، من تعليق الزينات وتجهيز الملابس الجديدة، وهو ما لا يحدث مع المقتنيات المادية، فربما يبكي الطفل لعدم رغبته في الانتظار لو أخبرته أنك ستشتري له لعبة بعد يومين وليس الآن.
اقرأ أيضًا: «الهوغاه»: سر السعادة والدفء عند الدنماركيين
حسرة السلعة السيئة
تُعَدُّ التجارب ضيفًا خفيفًا مقارنةً بالمقتنيات الشخصية، لأن التجربة سواءً وافقَت توقعاتك أو لم توافقها، فإنك تحتفظ في ذاكرتك بجوانبها الإيجابية والذكريات الطيبة التي ستمحو سلبياتها، وهذا عكس السلع، التي سيذكرك بقاؤها أمامك بإحباطك إن لم تحقق لك ما كنت تتمناه من سعادة.
يحدث كثيرًا أن تتمنى شراء سلعة ما، ولتكن قميصًا على سبيل المثال، كنت تظن أنك ستتألق بارتدائه، لكنه يأتي أقل من توقعاتك بكثير، فلا يبقى أمامك إلا التخلص منه وإهدار المال الذي أنفقته فيه، أو التغاضي عن خيبة أملك لتتذكر في كل مرة ترتديه فيها أنك أخطأت بشرائه.
قد يعجبك أيضًا: حتى الأطفال يصبحون أقل نفعًا لغيرهم بعد لمس النقود
فقاعات السعادة
لم يكن جيلوفيتش الباحث الوحيد الذي حاول معرفة الفارق بين سعادة التجارب واقتناء الأشياء، فقد أكدت النتائج ذاتها الأستاذة في جامعة كولومبيا البريطانية «إليزابيث دن»، وسمَّت الشعور المؤقت الذي يصاحب شراء الأشياء «فقاعات السعادة»، إذ ترى أن بهجة شراء المنتجات المختلفة تتبخر بسرعة لتتركنا ظمآنين إلى المزيد، فيصبح تحقيق هذا النوع من السعادة مثل السراب الذي لن يُدرَك أبدًا.
بعيدًا عن الدراسات والأوراق البحثية، يكفينا تدقيق النظر في خبراتنا لنجد أن ما يدوم بالفعل هو سعادة التجربة، لا سعادة الممتلكات، فسعادة وجودنا في منزل الطفولة وسط الأهل والأصدقاء القدامى تدوم بسبب ما تحمله من ذكريات سعيدة، وهو الشعور الذي سنفتقده كثيرًا حتى لو انتقلنا إلى منزل جديد أكثر فخامة وأغلى ثمنًا.
أيمن محمود