كيف يحاكم قضاء إسرائيل الأطفال الفلسطينيين؟
لا تزال ذكريات السجن والسجان تدور في عقل الطفل كريم حسين ذي الـ12 عامًا، الذي يسكن بلدة عزون في قلقيلية شمالي الضفة الغربية، بعد مُضي عام على اعتقاله في أحد السجون الإسرائيلية لمدة أشهر، بدعوى إلقائه الحجارة على قوات الاحتلال الإسرائيلي.
تجربة مريرة تركت في نفس الطفل كريم حسين آثارها النفسية التي يصعب على الزمن نسيانها، وجعلت منه شخصًا جديدًا.
بعد منتصف إحدى الليالي، وفي أثناء غرقه في نوم عميق، فوجئ كريم بمجموعة كبيرة من الجنود يوقظونه من النوم ببنادقهم الرشاشة: «وضعوني في إحدى المركبات العسكرية المتوقفة أسفل منزلنا، قبل أن يقيد يديَّ أحد الجنود بقيود بلاستيكية، ويضع عصابة على عينيَّ. دفعوني بقسوة، وانهال الجنود عليَّ بأرجلهم وأيديهم، وشتموني بألفاظ نابية. كنت أستطع فهم بعضها فقط لأنها لم تكن بالعربية».
يحكي الطفل لـ«منشور» أنه فور وصوله إلى أحد مراكز الشرطة الإسرائيلية، أنزلوه من الجيب برفقة جندي إسرائيلي عمد إلى خفض رأسه للأسفل، ووضعه في غرفة صغيرة خافتة الإضاءة، فجلس على كرسيٍ بلاستيكي بعد أن أزال الجندي العصابة عن عينيه، وفك القيود البلاستيكية عن يديه.
فور أن خرج الجندي، فوجئ كريم بصوت لم يعلم مصدره يأمره بأن يخلع ملابسه على الفور ويبقى بالملابس الداخلية: «فعلت ذلك وعدت إلى الجلوس على الكرسي، لكني شعرت بأن درجة حرارة الغرفة تنخفض شيئًا فشيئًا لتميل إلى البرودة. حينها أيقنت أنني دخلت المرحلة الأولى من التعذيب النفسي والجسدي».
يتابع كريم: «بقيت داخل الغرفة ما يقرب من الساعة، حتى دخل الغرفة شخص يرتدي لباسًا مدنيًّا. جلس في مواجهتي، وأشعل سيجارة، وسألني: كم مرة ألقيت الحجارة على قوات جيش الدفاع الإسرائيلي؟ فأجبت: مرة واحدة فقط. لسعني بسيجارته في صدري، فصرخت. أعاد السؤال، فكانت إجابتي بأنها أول مرة. أعاد حرقي بالسيجارة لأعترف قسريًّا بما يخالف الحقيقة».
صغر سن كريم، حتى يكاد يبلغ المراهقة، لم يشفع له أمام المحققين الإسرائيليين: «دخل محقق آخر وانهال عليَّ بالأسئلة والاتهامات الباطلة. ظل يصفعني طوال فترة التحقيق، التي استمرت أكثر من ثلاثة ساعات. قال لي أحد المحققين: ستُحال صباح الغد إلى المحكمة العسكرية، وسيُحكم عليك بالمؤبد لتمضي ما تبقى من عمرك في السجن».
كثير من الأطفال الفلسطينيين يواجه الاعتقال في السجون الإسرائيلية، رغم مخالفة حبس الأطفال للقوانين الدولية.
يضيف الطفل: «في الصباح التالي ذهبت إلى محكمة سالم العسكرية قرب جنين، والتقيت محامي الدفاع لعدة دقائق، وكانت أول مرة أشاهده فيها. بعد عدة جلسات صدر حكم نهائي بحبسي ثلاثة أشهر، ودفع غرامة مالية قدرها خمسة آلاف شيكل».
كان كريم أصغر الموجودين في الزنزانة، إلى جوار أكثر من 30 محتَجزًا فلسطينيًّا. إضافة إلى ذلك، منعت إدارة السجن عائلته من زيارته حتى الإفراج عنه.
الأطفال في سجون إسرائيل: تعذيب وإهانات
لم يكن كريم حالة خاصة ولا استثنائية، بل إن الاعتقال أمر يواجهه كثير من الأطفال الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، رغم مخالفة حبس الأطفال للقوانين الدولية.
المادة 77 من البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف، الصادر في يونيو 1977، والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والأطفال، تنص على أنه «يجب أن يكون الأطفال موضع احترام خاص، وأن تُكفَل لهم الحماية، ويجب على أطراف النزاع أن يمدوهم بالعناية والعون. ويجب وضع الأطفال، في حالة القبض عليهم أو احتجازهم أو اعتقالهم، في أماكن منفصلة عن تلك التي تُخصص للبالغين».
ليس ببعيد عن ذلك ما حصل مع الطفل المقدسي أحمد مناصرة (13 عامًا وقتها)، الذي انتشرت صوره في كل وسائل الإعلام العالمية وهو ممدد على الأرض وسط بقعة كبيرة من الدماء في أحد شوارع مدينة القدس خلال العام 2016. أصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية حكمًا بحبسه 12 عامًا ودفع غرامة مالية، بتهمة طعن صبي إسرائيلي.
مناصرة نموذج لأطفال آخرين معتقلين داخل السجون الإسرائيلية، وُجهت إليهم أحكام تعسفية، كالطفل فوزي الجنيدي (16 عامًا وقتها)، والطفلة عهد التميمي، التي حُكِم عليها بالحبس ثمانية أشهر ودفع غرامة مالية قدرها خمسة آلاف شيكل.
ظهر الطفل مناصرة في فيديو مسرب خلال جلسة تحقيق امتدت لعشر دقائق مع ثلاثة محققين إسرائيليين، يرتدي ملابس السجن ويجلس أمام محقق يصرخ فيه طوال الوقت، ويجبره على الاعتراف. يستجيب الطفل تحت ضغط المحققين ويعترف، رغم ترديده المتكرر بأنه لا يتذكر شيئًا، وأنه في حاجة إلى طبيب.
في بداية الاعتقال، يتعرض الأطفال الفلسطينيون للتفتيش مجردين من ملابسهم، ثم يُحتَجزون في أماكن تفتقر لأدنى المقومات الآدمية.
يوجد أكثر من 500 طفل فلسطيني معتقل في السجون الإسرائيلية باتهامات باطلة وأحكام عنصرية، ويُمارس ضدهم مختلف أنواع الإهانات والتعذيب الجسدي والنفسي، إذ يضعهم المحققون الإسرائيليون في الحبس الانفرادي بهدف انتزاع اعترافات منهم.
يحدث كل ذلك على خلفية موافقة لجنة وزارية إسرائيلية، في 22 نوفمبر 2015، على إصدار قانون بمحاكمة الأطفال دون سن 14 عامًا بالسجن إذا «ارتكبوا جرائم ذات خلفية قومية»، في إشارة إلى مقاومة الاحتلال. وبموجبه يُقدَّم الأطفال من سن 12 عامًا إلى المحاكمة، ويُحتجزون في مراكز تأهيل حتى سن 14 عامًا، وبعدها يُنقلون إلى السجون العادية.
مراحل اعتقال الأطفال الفلسطينيين
اعتقال الأطفال على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي يمر بثلاث مراحل:
- مرحلة الاعتقال
فيها يُعامل الأطفال كمجرمين، ويُقتادون إلى عربة عسكرية حيث يضربهم الجنود ويشتمونهم بألفاظ نابية، مخالفين بذلك القوانين الدولية حتى قبل أن يودعون الأطفال في أحد معسكرات الجيش الإسرائيلي لاستجوابهم والتحقيق معهم.
في بداية الاعتقال، يتعرض الأطفال الفلسطينيون للتفتيش مجردين من ملابسهم، ثم يُحتَجزون في أماكن تفتقر لأدنى المقومات الآدمية، فلا تتوفر فيها الإنارة المناسبة، ولا تدخلها أشعة الشمس، وتنتشر فيها الحشرات، ويُحرَم نزلاؤها من التعليم والرعاية الصحية، ويعانون من نقص الطعام والأغطية والملابس، وحتى يُمنعون من زيارة أهاليهم في غالبية الأحيان.
- التحقيق
فيها تنهال على الطفل الفلسطيني مزيد من الاتهامات والانتهاكات اللفظية والجسدية عن طريق محققين إسرائيليين، وهي من أصعب المراحل التي يمر بها المعتقل، سواء كان قاصرًا أو من البالغين.
يتعرض الأطفال خلال التحقيق لتعذيب نفسي وجسدي لانتزاع الاعترافات منهم، وتُفرَض عليهم عقوبات شديدة وصارمة، مثل الحبس الانفرادي، والحرمان من النوم، ووضع عصابات على أعينهم وتقييد أيديهم، وتهديدهم بالكلاب البوليسية والاغتصاب.
- المحاكمة
تُمدَّد فترة احتجاز الطفل بعد التحقيق عدة أيام دون علم محاميه، ودون أن يعرف الطفل حتى أسباب التمديد والتهمة الموجهة إليه.
في النهاية تُوجَّه للطفل أي تهمة باطلة ولائحة اتهام، فيُحال إلى المحكمة العسكرية، التي تنتهي جلساتها بإصدار حكم نهائي، دون أدنى مراعاة أن المتهم طفل ويجب أن يخضع لقانون محاكمة الأطفال القاصرين والأحداث.
لاقى اعتقال إسرائيل للأطفال الفلسطينين شجبًا دوليًّا، لكن الإدانة تظل حبيسة التصريحات.
وفق اتفاقية «مناهضة التعذيب»، الصادرة في 1985، فإنه «يُقصَد بالتعذيب كل عمل ينتج عنه ألم جسدي أو معنوي من أجل انتزاع اعتراف». وتُعَد إسرائيل طرفًا من قانون المعاهدات لعام 1969، والذي ينص على أنه «لا يجوز لأي دولة أن تسن في تشريعاتها الوطنية أي قانون يخالف الاتفاقيات الدولية».
المادة 37 من اتفاقية حقوق الطفل، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20 نوفمبر 1989، وصدقت عليها إسرائيل في 1991، تنص على أن الدول الأطراف تكفل أن «لا يتعرض أي طفل للتعذيب أو لغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، ولا تُفرض عقوبة الإعدام أو السجن مدى الحياة بسبب جرائم يرتكبها أفراد تقل أعمارهم عن 18 سنة دون وجود إمكانية للإفراج عنهم، وألا يُحرَم أي طفل من حريته بصورة غير قانونية أو تعسفية»، وهي قوانين دولية لا تلتزم بها إسرائيل مطلقًا.
شجب دولي دون نتيجة
لاقى اعتقال إسرائيل للأطفال الفلسطينين شجبًا دوليًّا، لكن الإدانة تظل حبيسة التصريحات.
دعت بريطانيا إسرائيل، في نهاية مارس 2018، إلى تحسين معاملتها للأطفال الفلسطينيين المعتقلين في سجونها، وطالبتها ببذل جهود أكبر للدفاع عمَّن يخضعون لمسؤوليتها.
وتقدمت عضو الكونغرس الأمريكي «بيتي مكولوم»، في 13 نوفمبر 2017، بمشروع قانون يدعو إلى تعزيز حقوق الإنسان عن طريق إنهاء قانون الاحتجاز العسكري الإسرائيلي للأطفال الفلسطينيين، في سبيل منع الأموال الأمريكية من دعم اعتقال الجيش الإسرائيلي المستمر لهؤلاء الأطفال وإساءة معاملتهم.
يسلط التشريع الضوء على نظام الاعتقال العسكري الإسرائيلي للأطفال الفلسطينيين، ويضمن عدم تقديم أي مساعدة أمريكية لإسرائيل بسبب انتهاكها لحقوق الإنسان. ويحث التشريع الكونغرس على ألا يغض الطرف عن المعاملة السيئة الجائرة والمستمرة للأطفال الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي.
لكن مشروع القانون لم يمر.
ربما لم يُنهِ الإفراج عن الطفل كريم حسين مأساة مئات الأطفال المعتقلين داخل السجون الإسرائيلية، الذين ينتظرون الحرية بفارغ الصبر، لكنه يبعث إليهم بأمل الخروج من المعتقلات قريبًا.
إبراهيم عبد الهادي