تجربة شخصية: الألم بوصفه مرادفًا للوجود

حسام هلالي
نشر في 2018/08/12

التصميم: منشور

(1)

ما من شيء قادر على تأكيد الإحساس بالذات، وإشعالها، والتيقن من حقيقة وجودها، أكثر من الألم. أنا ولا شيء آخر. ساعة الوجع هي أفدح ما يُشعر المرء بالوحدة. إثباتٌ إكلينيكي للكوغيتو (مبدأ الشك): «أنا أتألم، إذًا أنا موجود»، وجود محصور في صورة حتمية غير قابلة للمشاركة.

هذه الأنا التي قد نتغاضى عنها دون عمد أحيانًا في لُجَّة اليومي، ونتناساها عند التماهي مع الآخرين. تزيح كل ما دونها بصورة فائقة الأنانية عند أول انتكاسة باثولوجية، سواءً كانت حريقًا مشتعلًا في شرايين مريض يتعرض للعلاج الكيميائي، أو محض التهاب في اللثة، وكذلك الانكسارات الفادحة للعشاق الخائبين من دون أمل.

أيًّا تكن بساطة الداء الذي تنتفي معه ضرورة الخلاص الذي يوفره الموت، فإن واقع الجسد وإدراكه لهشاشته أمام حتمية الانصياع لأعصابه المُستثارة، هي ما يحيل كل مذابح الإبادة الجماعية إلى هراء بعيد. سراب فكري. يقضي بعنف نرجسي مضاد على ترف التضامن مع آخر لا نشاركه جهازه العصبي.

ما الذي تعنيه كلمة دارفور بالنسبة إليَّ وأنا مصاب بالملاريا في أمان الخرطوم؟

تلك الاستحالة البيولوجية التي تجعل ألمنا شيئًا بالغ الفرادة لا يمكن لأي قدرٍ من التعاطف، أو من ناحية أخرى، لفداحة الكوارث النائية، أن تقلل من وطأته. لهذا كان اختيار الموت بالإقدام على الانتحار هو مواصلة لأنانية الألم، بحيث لا ينهيه تمامًا، لكنه يزيحه بجملته عن صاحبه، ليصاب به من تورطوا في حب الفقيد الراحل، العاجزون تمامًا عن تهدئته بالمسكنات أو بالواجب الإنساني للعيادة.

عندما أخبرتني «ملينا»، آخر النساء اللواتي أحببتهن بإخلاص، بأنها خانتني ذات نزوة مع امرأة أخرى، معترفة بعجزها عن التورط في أي التزام «مونوجامي»، أصبت بإعياء الصدمة. صدمة مضاعفة: نرجسية وأخرى «جندرية». لم يقلل من وطأتها أن شريكتي في جسدها ليست ذكرًا، وكان توقيت اعترافها الكنسي الرامي إلى الخلاص من الذنب قاتلًا، فأنا لم أكن الكاهن فحسب، بل الضحية، بعد أن تكبدتُ رحلةً برية شاقة من الخرطوم حتى قوندر في إثيوبيا.

بت عشيتها على فراش قذر أمام نقطة عبور الحدود، كي أصحبها بعد انتهاء عطلتها في إثيوبيا عائدًا بها إلى مدينتي البائسة. أخبرتني بالأمر وأنا مستغرق في بهجة مشاهدة فرقة من الراقصات الحبشيات تحت تأثير نبيذ العسل، فخرجت لأتقيأ كل ما شربت أمام كنيسة مجاورة في الليلة اليتيمة التي قضيتها هناك، وبدأتُ تدريجيًّا في الإصابة بالحمى طوال الطريق العائد إلى الخرطوم، ليتخطى ألمي العاطفي حدود المجاز، فتتحول خطتنا الرومانسية لقضاء ما تبقى من أيام إجازتها المعدودة إلى سهرات من العناية الطبية في مدينة تحرم عشاقها من أبسط حقوق الخصوصية.

لكن الضربة القاصمة كانت تنتظرني بعد شهرين، عندما حسمت ملينا أخيرًا ميولها الجنسية وقررت رميي تمامًا في باحة الصداقة الصافية من مباهج الإيروتيكا وآلامها المشتهاة، أو ما يُتعارف عليه بـ«الفريند زون» (Friendzone)، متجاهلةً إحساسي النرجسي بالعار لأن قضيبي دائم الانتصاب كان السبب في عزوفها عن جنس الرجال برمته، مع إصرار أناني على الاحتفاظ بي كرفيق لا تمل صحبته، لا لشيء إلا لأنني كنت بالنسبة إلى ملينا أجمل من مجرد «إكس-بوي فريند» (Ex-boyfriend).

«2»

كان الأمر موجعًا، رغم أنه لم يكن ألمًا جسديًّا قابلاً للتشخيص الفسيولوجي، ولم أستطع التخلص منه إلا عندما تلاقت ميولي الانتحارية المغرقة في الميلودراما مع دعوة مفاجئة لزيارة بغداد، فأي بلد يمكن له أن يحتوي مضامين الألم بكل تنويعاتها أكثر من العراق؟

التاريخ الدموي غير القابل للتعافي كان ماثلًا في كل زاوية: إرث دكتاتورية صدام وقبضته الحديدية، الحروب الأزلية لبلاد ما بين النهرين من نبوخذ نصر حتى أبو بكر البغدادي، والمجازر التي تتلو كل الانتفاضات المجهضة جنوبًا وشمالًا، وأخيرًا كارثة الغزو الأمريكي، والسلسلة المتناسلة من التناحر الطائفي والإرهاب الديني التي أعقبته، وحولت أقصر الجولات إلى جحيم من نقاط التفتيش في «دار السلام» المحاطة دومًا بهاجس الموت وراء أسوار الإسمنت.

هل كان كل هذا قادرًا على التخفيف من ترف شعوري بالألم من علاقة عاطفية فاشلة؟ زيارتي لقصر صدام حسين في تكريت، والذي شهد مذبحة داعش لطلاب قاعدة «سبايكر»؟ الألف جثة التي أُلقيت بشكل مغولي في مياه دجلة الحمراء؟

بشكل فائق الأنانية والتفاهة معًا أتجرأ على القول: لا.

قد يمتلك الزمن بتراكميته وهول خلوده تلك القدرة على الإلهاء، ولكن إلى أي مدى؟ وعلى أي نوع من الألم بالتحديد يمكن للدهر أن يصلح ما يعجز عنه العطار؟ هل قلبتُ الآية، فنفيتها وعكسها؟

واجهت ذلك الشعور الصادم بقدرة الألم على الخلود ما إن قررت بزي جنائزي أسود زيارة كربلاء، وكل ما يحمله التراث الشيعي من مَلكة متفردة في اجترار الآلام كل عاشوراء. بصورة تتفوق على مكانة قيمة الألم في العقيدة المسيحية، باعتبار صلب المسيح آلامًا حصرية شعر بها يسوع وحده في سبيل التضحية، فيما كان الألم في عقيدة التشيع يسير في اتجاه عكسي، يسببه المسلمون لأنفسهم للخلاص من ذنب تركهم لمسيحهم أمام مصيره وحده.

كان دليلي، الفنان التشكيلي السعودي (للمفارقة)، يشير بآلية صارمة ونحن نسير باتجاه المرقد إلى مواضع طريق الآلام الذي خاضه الإمام الحسين أمام الجيش الأموي: هنا قُطعت ذراعه اليمنى، هنا ذُبح ابنه الرضيع، هنا قُطعت رأسه قبل إرسالها إلى دمشق (عاصمة دموية أخرى). ومع استمرار شعور الشيعة بذنب يهوذا بصورة جماعية، يستمر اجترارهم لهذه المذبحة بصورة مازوخية: «كرنفال من الألم»، يترافق في اللطميات مع الشفرات الحادة والسلاسل والسواطير التي يجرح بها المذنبون رؤوسهم وجذوعهم في عزاء دموي أبدي، يستنجدون فيه بالألم للخلاص من ألم داخلي أمَرَّ، ما يحيل إلى فكرة مفادها انحطاط قيمة الألم الجسدي عند المحب اليائس في مقابل آلام الضمير.

إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا التعاطف الإنساني مع مأساة غابرة بإخلاص؟

لم أكن شيعيًّا، ولا حتى سنيًّا، لحسن الحظ. لكنني امتلكت القدر الكافي من الإنسانية للتعاطف مع هذه المأساة التي لطالما تتجدد. في كل مرة يقرر فيها أموي جديد أن يتخلص بأنانية مفرطة من حياته بين جموع هؤلاء المتألمين. هجوم انتحاري آخر على أحد مراقد آل علي يؤكد لعنة الدم، ليخلصهم من آلامهم إلى الأبد. لكن، ولمفارقة اختيار الانتحاري أن يموت بقنبلة بمحض إرادته، فإنه يُقتَل دون أن يشعر بأي مقدار من الألم، وهو ينهي بشكل عقائدي مضاد على حياته معهم، في هذا المحفل الجماعي للآلام السرمدية.

«3»

يتكرر السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا التعاطف الإنساني مع مأساة غابرة بإخلاص؟ حتى أول شعور بفداحة ذاتية الألم الخالص الخاص.

استيقظتُ في أحد صباحات هذا الصيف ولعابي ممزوج بالدم، لم يكن ألم لثتي الملتهبة إلا استيقاظًا من سباتٍ عميق، عندما قرر طبيب أسناني القاهري قبل سنوات معالجة أحد أضراسي المعطوبة بقتل عصبه، وغرس مسمار معدني في شظاياه المتماسكة. عطب بدوره نتيجة الصدأ، ولم يكن ذلك جرم الطبيب الوحيد، فقد استطاع بكفاءة منقطعة النظير غرس المسمار بشكل مائل أخطأ فيه جذر الضرس.

بعد فتحي لفكي أمام طبيبين مختلفين، قضيتُ أسبوعًا من الآلام أتناول خلاله المضادات الحيوية لعلاج الخُرَّاج، ومن ثَمَّ، الجلوس على كرسي ساعة الحقيقة، وفغر فمي لثلاث ساعات عصيبة، لم تتمكن فيها أربعة حقن من المخدر على إنهاء يقظة أعصابي، فيما استعصى ضرسي المتهشم على الخلع أمام طبيبتي العراقية، التي سرعان ما طلبت يد العون من زميلها السوري، فقرر أخيرًا حقني للمرة الخامسة في قاع الفك، وخوض معركة مع ضرس متمسك، رغم تهشمه، بجذوره في فكي الجريح.

خرجت بعدها مسطولًا من هول المخدر، وقد تخلصتُ نهائيًّا من أي إحساس بالنوستالجيا والرغبة في العودة إلى أزمنة المجد الغابر التي لم يكن لأي من ملوكها العظام، بكل ما عاشوه من نعيم، التمتع بترف المورفين.

لَشَدَّ ما كانت بهجتي وأنا متخلص من آنية الوجع، رغم إدراكي التام لفداحة الجرح الغائر في فمي، للدرجة التي أحدث فيها عنف الطبيب وأدواته الحادة جرحًا في طرف شفتي، كأي مدان بالإصابة بـ«الهربس»، سرعان ما استيقظ ألمه معي في الصباح التالي، مضاعفًا ألم فقداني لضرسي. ألمٌ لم تكن المسكنات قادرة على القضاء عليه تمامًا، بل تأجيله والتخفيف من وطأته حتى حين. ألمٌ أمات كل التزاماتي ومشاعري ورغباتي ليصبح مركز الكون بالنسبة إليَّ هو الفجوة الدامية في فمي.

كنت أعاني من قلة النوم، وبعد مغامرة خرقاء في معاقرة الخمر أدت إلى إصابتي بأوجاع مضاعفة ومختلفة الأشكال في بقعة لا تتجاوز البوصة، أيقظتني وأنا أئن في غرفتي الخالية إلا من مصيري، لدرجة لم أستطع فيها التجاسر إلا بقرار الخروج إلى الشارع الخالي في ساعات الفجر المبكر والمشي بضآلة بين ناطحات السحاب الغائمة، بوجه عابس لا تحسن ملاقاته، بينما تهمس فيروز في أذني: «إذا ما بكينا ولا دمعنا لا تفتكروا فرحانين».

لم يكن مرضًا قاتلًا، كنت مدركًا لهذا بطبيعة الحال. كانت حفنة من الكائنات تافهة الصغر استطاعت بمعجزة الأعصاب أن تهز كيانًا من اللحم والدم يزن 80 كيلوغرامًا، بصورة تجعل هول حجم المجرات عدمًا في مقابل هذا الألم المستمر، لتكشر أنانيتي بأنيابها المعطوبة، وتطالب الصحف ووكالات الأنباء بنشر بيانات التضامن مع مأساتي الفادحة، وترك كل أفراد أسرتي وأصدقائي وزملائي لمشاغلهم التافهة، والقدوم في مواكب حاشدة لتعلن تأييدها جهودي المضنية في مكافحة تسوس الأسنان الغاشم.

كنت بالتأكيد أمتلك الغرور الكافي للتعبير عن ذلك، إلى أن جاءت اللحظة التي جوبهت فيها بحقيقة أن اثنين من أصدقائي الذين يعيشون في دبي مصابان بالسرطان، وأن عليَّ التواصل معهما بفم متورم، يتصارع مع ألمه إحساس مباغت بالعار، بالخجل من الشكوى أمام شخص قد لا تعنيه الآلام التي يتكبدها خلال العلاج (لا من المرض نفسه) على تفادي احتمالية الموت.

«4»

لم يكن من المقبول وصف علاقتي بوليد النقر بالصداقة، ذلك الصحفي الناشط في حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة، الذي كانت جل معرفتي به تتلخص في لقاءات مهنية مع زوجته يسرا فؤاد، الناشطة النسوية النبيلة، وزياراته لشريكي في السكن بالخرطوم.

إلى أن أخبرني شريكي ذات يوم بإصابة وليد بالسرطان، لتقذفني فداحة مصابه إلى قائمة أصدقائه بدافع التعاطف. الأمر الذي أراحني في البداية عندما قرر الانتقال للعلاج في دبي، إلى أن دارت الأيام وانتقلتُ أنا بدوري للعمل في نفس المدينة، لأواجَه بالتزامات الصداقة الحقيقية مع مريض مغترب.

تولَّد لدي شعور ملتبس ومتناقض، فمن ناحية اقتضت الصداقة السؤال عنه، بسلوك بالغ الرعونة أمارس فيه السخرية المستمرة معه لا لشيء إلا لتعزيز أصالة صداقتي وخلوها من التعاطف المجرد مع حالته المرضية. ومن الناحية الأخرى، بذلت كامل جهدي للتغيب عن مواعيد جلسات العلاج الكيميائي التضامنية، لا لشيء إلا لإحساس أناني وبارد للتخفيف من وطأة التعلق بشخص يواجه الموت، رغم كل تلك الصلابة التي يعبِّر بها عن تفاؤله هو وزوجته بالشفاء. التفاؤل الذي عزز لدي الإنكار، وأن كل ما يواجهه وليد من آلام طوال هذه السنوات سينتهي بصورة مُرضية لأننا نمتلك جرأة الأمل.

لم يكن ذلك نابعًا من فراغ، فقد تورطتُ في مواجهة مماثلة خلال سنوات الدراسة الجامعية في القاهرة، في ذلك الفصل الدراسي الذي قرر فيه زميلي «بولا» الامتناع عن حضور محاضرات الأونكولوجي (علم الأورام) في الكلية، لا لشيء إلا لأنه قرر بنفسه المرور بالتجربة مصابًا بـ«اللمفوما»، وكأنه يعرب بفصاحة ألمه عن أنه ليس بحاجة إلى الدراسة النظرية لأعراض السرطان لأنه ببساطة مصاب به، فليس المجرب كالطبيب.

واصلتُ الإحساس بالإنكار، حتى وأنا أشاهد عن قرب تساقط الشعر من رأس بولا ووجهه، وتوقفه عن مشاركتي تدخين الشيشة في المقهى المجاور لمنزله في شارع سليم الأول. واصلنا الضحك والتذرع بالأمل وسعة رحمة الله اللامتناهية، إلى أن قرأت بصورة صفيقة نعيًا مقتضبًا له مصحوبًا بصورته في منشور على صفحته بفيسبوك، وأنا أدخن الشيشة بمفردي في السيدة زينب.

هرعت إلى بيته وأنا أُكذِّب ما قرأته، مدفوعًا بإحساس بالغ بالتقصير لأنني لم ألتقِ منذ أشهر صديقًا محتضرًا يسكن في الحي المجاور لبيتي، لأواجَه بحضور كثير من الناس في بيته إلا هو، فسقطت في الصالة مشاركًا في عويل مريع.

مشهد التابوت الذي حوى جثمان بولا، والقداس الذي أعمتني عن إبصاره الدموع، حتى دفنه تحت صليب المقبرة، وأنا أتجرع ألم الذنب، لا لشيء إلا لأني عرفت بوفاة صديقي وجاري من صورة على فيسبوك. كل هذا ظل ماثلًا وأنا أتواطأ بجبن ضد صداقتي بوليد، التي لم يزد من فداحتها إلا تعرفي إلى دنيا.

عبر فيسبوك أيضًا، وبرسالة قصيرة مشتركة، عرفتني ناشرتي كرم يوسف إلى دنيا كمال، بوصفها كاتبة موهوبة أوقعها مصيرها المصري المشترك معي للعمل في نفس مجالي: الإنتاج التلفزيوني، في نفس المدينة دون أن نتصادف، رغم زيارتها المهنية للسودان، ووقوعنا في نفس دائرة المعارف القاهرية المشتركة التي جعلت اسمي مألوفًا لديها.

تحمستُ لصداقة أدبية جديدة مع كاتبة تشاركني الهموم نفسها، لكنها بقدر أفدح لا تشاركني الألم، فقد مرَّرت، بعبارة خجولة ومقتضبة عندما سألتها عن سبب «حمدلله عالسلامة» التي كتبتها كرم لها، معلومةَ أنها تُعالَج من السرطان.

ما كان للأمر أن يشكل عبئًا على جبني المعهود في مسألة التعلق لولا وقوعي في غرامها منذ لقائنا الأول، مع كل ذلك القدر البالغ من الجمال المصحوب بالتواضع الجم، والأريحية المرحة التي لا تخلو من سخرية من مدى تفاهة العالم. الصفات التي يندر أن يجمعها كاتب ناجح ومتحقق، لا ينتظر مثلي لأربعة سنوات نشر كتابه الثاني.

يفوق كل هذا واقعيتها المفرطة والكتوم للشكوى، وانعدام شخصيتها من تلك المركزية التي تتمحور فيها وقائع حياتها حول الشعور بالألم، والتعبير النرجسي عنه. كأن سرطانها مجرد نزلة برد عابرة، لا يمكنها النَّيل من هذا الجسد الباهي الموشَى بالأوشام، وتحديدًا من طائر العنقاء المحلق على ظهرها، وكلمات أم كلثوم الصادحة من ساعدها، تلك الرسوم المحفورة بألم متفنن لا يجابه آنيته إلا تفاهته الكامنة في المقارنة مع ألم الخلايا المتكاثرة دون توقف، والتي لم تدفع دنيا إلى التوقف عن التدخين بعناد جبار، باعتبار الانصياع المطيع للشهوة ما هو إلا انتصار خالص للرغبة في الحياة، لفرحة الدنيا، حتى آخر نفس.

وقعتُ في الفخ، ورأيت إحجامها عن التصريح بالألم مبررًا لإنكاره كأن لم يكن، معززًا بذلك التعمد في التعاطي الاعتيادي بوصفه علامة على انعدام الشعور بالشفقة، ذلك الإحساس الكريه الذي لا يصح أن يكون دافعًا للصداقات بأي وجه من الأوجه. تعاملتُ مع دنيا كنِدٍّ مكافئ، تتساوى أوجاعه مع همومي اليومية الساذجة، بل وتتضاءل أمامها.

بكرم فائق، وبعد معرفتها بشروعي في عمل روائي يزحف نحو تمامه ببطء سلحفاة عرجاء، دعتني دنيا إلى جلسات جماعية للكتابة الروائية مع صديقين آخرين من كُتاب دبي المغتربين جغرافيًّا ووجدانيًّا. كان أحدهما السبب في حصولي على وظيفتي الحالية في هذا الفضاء النيوليبرالي الذي لا يفسح، إلا في أضيق الأحوال، فجوة للتمتع بترف ممارسة الفن والأدب، لكنني أخذتُ أتذرع بغرور من ضيق نفسي من ممارسة الهواية التي صرت أمتهنها كوظيفة بدوام كامل، خصوصًا بعد أن اتهمتني مازحةً بـ«العلوقية»، ذلك التهاون الذرائعي الكسول والممتلك لقدرة لانهائية على إيجاد المبررات لانعدام الإرادة في التحقق، الذي لا أنكر اتِّسامي به الآن.

لكني واصلتُ التقليل من شأن وظيفتها كمنتجة تلفزيونية لا تتكبد مشاق الكتابة بصورة يومية كمهمات مهنية، بل، وللتعجب من غضبها مني، متجاهلًا بشكل أخرق حقيقة أن كل ما أواجه من مشاغل وهموم وأعباء لا يرقى، في أفدح الأحوال، للمقارنة بإصرار مريض مزمن يصارع الموت على ممارسة العمل الذي سيخلده، بشكل يحيل أي عذر آخر في حالتي إلى علوقية صرفة.  

«5»

لم أزعم يومًا أنني أمتلك جَلدًا على احتمال الوجع، ربما لقلة إصاباتي، فلا أذكر في طفولتي آلامًا أكثر من حقن التطعيم، الوجع الاستباقي لتفادي احتمالية وجع أفدح، أو كما كانت تقول جدتي: «وجع ساعة ولا كل ساعة».

باستثناء ذلك الجرح في فخذي الأيمن الذي أحدثه في لحظة غفلة مسمار ماكر على سريري، ظلت طفولتي المدللة، بوصفي الطفل الأول في العائلة، محاطة بقدر بالغ من الحماية من الإصابات، للدرجة التي دفعت والدي إلى حرماني طويلًا من لعب كرة القدم في الشارع، أو حتى ركوب دراجة ثنائية العجلات.

لم يحدث هذا مع أخواتي، لكنه لم يحرمني من ألم التضامن. بكيتُ بذعر عندما سقطتْ أختي رهام على وجهها عند زاوية حادة من طاولتنا الرخامية في الصالون، بطريقة كادت تؤدي إلى فقء عينها لولا مقدار ملليمترين من الحظ.

لم أستطع تمالك نفسي وأنا أراها تنزف من تحت عينها، لدرجة دفعتْ أمي إلى إعطائي القدر نفسه من الاهتمام الذي نالته رهام في أثناء نقلها إلى المستشفى.

بثلاث شفرات دارت مروحة السقف في منزل خالد العبيد، زميل والدي في الحزب، خلال توديعنا لأسرته الراحلة إلى القاهرة بصورة مؤقتة قبل هجرتهم النهائية إلى أستراليا.

كانت سرعتها أيضًا متوسطة عند الرقم ثلاثة، لكن هذا لم يمنعها من مواجهة مصير غادر، كان سيودي بسقوطها فوق أختي الرضيعة وقتها، مرام، لولا تدخل الحظ مجددًا. فقبل سقوطها بلحظات داخت مرام إلى حد البكاء وهي تلاحق بعينيها السرعة التي تطارد بها شفرات المروحة، وما إن هممتُ بحملها من ذراعي عزت (زميل شيوعي آخر لوالدي ورفيق لاحق لصعلكتي القاهرية) حتى مرت الشفرات ذاتها على ذراعيه الخاويتين، بعد أن تخلصتْ من قوة اندفاعها النيوتينية فوق مسند المقعد.

لكن الأمر لم ينتهِ دون إحداث إصابة، بعد أن تهاوت المروحة عموديًّا باتجاه جمجمتي بشكل أحدث دويًّا هائلًا أدى إلى إسقاطي مرام على عتبة الصالة.

بعد أن قصرت مسافة السقطة، وما إن لامست ركبتاي الأرض، هرع جميع الحاضرين لالتقاط الرضيعة المفزوعة، وأخذت أمي تقلبها للتأكد من خلوها من أي إصابات، قبل أن يكتشفوا بغفلة فائقة مني وأنا غارق في أدرينالين الفجاءة أن سيل الدماء الذي انفجر على الموكيت كان قادمًا من جمجمتي.

جرح كلف أطباء الطوارئ ثمانية غرز لمنع فرار الأفكار البلهاء من رأسي، وأنا أحدق بوحدة فائقة في السقف الأبيض. وحدة لم يشفع لها إحاطة كل ذلك القدر من الأطباء والممرضات وكادر الحزب الشيوعي في غرفة العمليات، إضافة إلى والدي وأختي، فيما كانت أمي تتأكد في غرفة الأشعة من سلامة عظام مرام من الكسور.

الندوب هي ذاكرة الجراح، والأثر الذي تبقيه على الجسد حتى بعد التئامها، وكأن الذاكرة وحدها لا تكفي لتدوين نَصِّها العنيف.

مضى 10 سنوات على تلك الحادثة، امتلكنا فيها ترف الضحك على إصابتي بفوبيا مراوح السقف، وخروجي الفوري من أي غرفة يقرر شاغرها الإصابة بالحر، فقد ظل امتلاك أجهزة تكييف في كامل الشقق القاهرية التي تناوبنا على استئجارها ضربًا من التبذير.

هاجرنا إلى القاهرة مع إصرارٍ من والدتي على أن تكون محطتنا النهائية في سيرة الاغتراب الأُسري الطويلة. أطلتُ خصل شعري الذي طالما قلل من إفريقية ملامحي بصورة أخفت بنجاح الندبة غير المجازية على رأسي، التي لم تظهر للعيان إلا في المرات النادرة التي قررتُ فيها حلاقة شعر رأسي كاملًا.

10 سنوات ظل والدي فيها مقيمًا في الحجاز لا يزور القاهرة إلا لمامًا، بصورة جعلت وجوده في ذاكرة أختيَّ الصغيرتين (وئام ومرام) مؤقتة، ومحصورة في إجازات الصيف والمكالمات الهاتفية والحوالات البنكية والهدايا، ما حوَّل سلوك والدي التربوي مع فتاتيه الصغيرتين إلى سلسلة بائسة من الدلال المفرط النابع من الحنين إلى الاستقرار مع عائلته في حيز جغرافي واحد، الأمر الذي عزز مرارة الحرمان الذي لطالما عانيناه أنا ورهام لأننا عشنا طفولة عادية مع والد دائم الحضور.

10 سنوات لم تخلُ من غرف الطوارئ، فخلال زيارتين متتابعتين لوالدي، مارستْ وئام سلوكها المعهود المتسم بالرعونة وهي تعبِّر عن فرحتها بقدوم أبي. في المرتين قفزت بصورة شيطانية لتحدي قوانين الجاذبية من فوق الفراش لترتطم بالأرض، وتصاب بخدشين متجاورين فوق جبهتها، وتتخلص بقدرة عظيمة من فرحة الأب العائد، وطمأنينة الأم، لتحصل وحدها على الاهتمام الأناني النابع من فظاعة الألم.

الندوب هي ذاكرة الجراح، والأثر الذي تبقيه على الجسد حتى بعد التئامها، وكأن الذاكرة وحدها لا تكفي لتدوين نصها العنيف، فتتخطاها إلى مسام الجلد بهشاشته المتوقعة أمام الزوايا الحادة.

كان لي منها نصيب غائر على رسغي الأيمن: جرح أول تركته وئام بمخلبها خلال مزحة تبادلتها مع إنجي، ابنة جيراننا، التي هرعت أختي للدفاع عنها بخيانة منقطعة النظير لشقيقها، لتترك أثرًا دائمًا في يدي يحمل بصمتها، وفوقه بأقل من بوصة جرح آخر، شهد أكبر حادث لتحدي قوانين نيوتن، كانت بطلته مرام هذه المرة.

«6»

نجونا سالمين من الأخطار الأمنية التي صاحبت اندلاع الثورة في مصر، وكان لي نصيب بالغ من الحظ في كل المشاركات المتواضعة في اشتباكات الشوارع مع قوات الأمن المركزي أو متظاهري الإخوان المسلمين في الشهور اللاحقة.

لكن حادثًا غير متوقع هز كامل بنايتنا ذات ظهيرة هادئة من إبريل، بشكل دفع والدتي إلى الضحك وهي تقتحم عليَّ غرفتي لتخبرني بضرورة توجهي إلى المصعد وإنقاذ مرام الخائفة من العطل الميكانيكي المعتاد الذي حبسها في بين الطابقين الثالث والرابع.

توجهتُ بطمأنينة متباطئة صوب باب الشقة، فيما غاب عن علمي مواصلة ربيع البواب لتوانيه عن تولي مهمته البسيطة في الجلوس بكسل عند مدخل البناية، تاركًا عبء متابعة أعطاب البناية لزوجته الحامل، التي تكاسلت بدورها عن صعود الدرج إلى الطابق الثالث لفتح باب المصعد المتوقف وإنقاذ أختي، وأعطت المفتاح إلى ابنها الصغير، الذي كان اسمه للمفارقة حسام.

حسام آخر أصغر من تحمل المسؤولية، لكنه استبدل بي شكلًا مميتًا ومتعجلًا، معزَّزًا بوصول أختي الأخرى وئام، التي بدأت في مساعدة مرام على القفز من المصعد بصورة خطأ وخالية من الخبرة. فبدلًا من مواجهة الأرضية، قررتْ مرام بدافع الخوف أن تنزل بظهرها، لتنزلق ساقاها داخل الهوة السحيقة لبئر المصعد، وتسقط من ارتفاع ثلاثة طوابق.

كان هذا في اللحظة نفسها التي وصلتُ فيها متأخرًا لإنقاذ الموقف، فالتقط بصري بالكاد في تلك الوهلة فائقة الرعب مشهدَ ذراعيها الممدودتين للإمساك بالفراغ، ويتلاشى البصر خلف احتمالات الهلع التي خلَّفها دوي سقوط جسدها في القاع، وصرخة وئام التي دوى صداها طويلًا في شعورها المعذب بالذنب، فيما هرعتُ أنا على الدرج صارخًا «مرام» بشكل يائس، يطالب الزوايا المظلمة لقاع المصعد بأي صدى إجابة.

ثوانٍ بلغتْ في رعبها أبد الدهر. ومع وصولي إلى الطابق الأرضي غرقتُ في الأدرينالين، وكانت الاحتمالات المحفوفة بالفقد قد تغلبت عليَّ ورمتني للضباب، وأنا مجابَه بباب المصعد الموصد، وقد غاب عن ذهني أن المفتاح الوحيد للباب كان السبب في سقوطها من الطابق الثالث.

ومع انعدام ثقتي في القَدَر وقدرته الفائقة على الخيانة، تهيأتُ لإمكانية أن يعمل المصعد فجأة ويقرر النزول لتهشيم ما تبقى من جثة أختي الصغرى التي جابهتُ شفرات المروحة بجمجمتي لصونها قبل سنوات عشرة. ومع ذلك الخليط من الخوف والعجز والغضب، التفتُّ ناحية النافذة الزجاجية لعلبة الكهرباء ولكمتها حتى تهشمت من فورها، وأغلقتُ بخبرة مكتسبة للتو الذراع المعدني لبطارية المصعد، إلى أن هبط الحسام الأرعن الآخر بالمفتاح، لتصلني نجدة الفرح وأنا أسمع أنات الألم الصادرة من قاع بئر المصعد المظلم، فقفزت، بعد أن مرت سنوات من اللحم والعظم على ذلك الجسد بالغ الخفة الذي أسقطتُه على أرضية شقة خالد العبيد.

نسيتُ كل ثقله لحظتها وأنا أنتشل أختي من أكوام القمامة المتساقطة على مر السنوات، من أيدي أطفال تخلصوا عبر حافة المصعد من علب العصير وأكياس البطاطس، فأنقذت بأعجوبة عظام مرام من التهشم التام. لم أهدأ إلا بعد أن تمددتْ على بلاط الأرضية وهي تئن من الألم، ليتحمل آخرون عبء الاتصال بالإسعاف.

كسر في كعب الساق اليسرى، وشرخ في الكتف الأيمن، وأسابيع من آلام ما بعد الجراحة وقَيْظ الأسر في الجبس هو ما عانته مرام.

وبينما كان طبيب برتبة عقيد في مستشفى الزيتون العسكري للعظام يباشر ترميم عظامها داخل غرفة العمليات، برمزية سخيفة تزامنتْ مع ترميم زملائه في المجلس العسكري الحاكم للشرخ الهائل في هيبة دولة ما بعد الثورة، جلستُ بجوار والدتي وأنا أتمتع بسعادة بالغة من ذلك الشعور الطفيف بالألم الذي أحدثته شظية زجاجية دامية في رسغي الأيمن، ليقيني ساعتها أن أنين الشعور بالألم كان يعني استمرار الحياة، فالسكون وحده ما يرادف الموت.

«7»

رأيتُ في ما يرى النائم أني أقضي أمسية حالكة في أحد أحياء غزة، بينما تجتاح القطاع قوة من جيش الدفاع الإسرائيلي. وتحت نيران القصف المتواصل داخل إحدى البنايات، توقف دوي المدافع من الوصول إلى أذني، بين أعمدة الدخان وصراخ السكان.

جاءت دنيا بمرحها المعتاد وابتسامتها تفوح بالبشارة، بعد أن قررتْ مشاركتي هذه المغامرة الطوباوية المستحيلة. وباللا اعتيادية المعهودة لأوهام اللاوعي، دخلتْ دنيا الحمام لأخذ دش بطمأنينة غامرة، وخرجتْ متلحفة بفوطة بيضاء، متجاهلةً أهوال المعركة الدائرة في الخارج، وتربعتْ فوق غسالة لتسحبني بتلك الحركة الرومانسية العنيفة، محتفظةً بابتسامتها وهي تخبرني بأنها تماثلتْ تمامًا للشفاء.

قبلتُها، واستيقظتُ ما إن قررتْ أضراسي أن توقظ ألمها وتذكرني بوجودها. لكني على عكس الأسبوع الماضي، فتحتُ فمي بابتسامة، وقد أنساني الأمل النابع من حلم سعيد آنيَّة آلامي الأنانية التافهة.

حسام هلالي