«كفاية، حرام»: لماذا ملَّت النرويج كثرة الانتصارات؟
«كفاية.. حرام»، هكذا يهتف جمهور كثير من الرياضات في بعض الدول العربية للسخرية من الفريق المنافس عندما يتلقى هزيمة ثقيلة أمامهم، لكن الآية انقلبت في النرويج، إذ أصبح الهتاف ذاته لسان حال الجماهير، بل والقائمين على الرياضة أنفسهم، بعد أن حطموا الأرقام القياسية في عدد الانتصارات في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية.
عرضت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية تقريرًا تناول جانبًا غير تقليدي من مسألة الانتصارات الرياضية، فحين تجاوزت انتصارات المنتخبات النرويجية حدًّا معينًا، لم يفقد الانتصار معناه فقط، بل ظهرت آثار سلبية لتلك الانتصارات المتكررة، ما جعل الفائزين أنفسهم يعيدون التفكير في الطريق الذي يسلكونه.
لماذا تخشى النرويج الانتصارات؟
حصدت المنتخبات النرويجية في دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية 2018 في بيونغ تشانغ بكوريا الجنوبية 39 ميدالية، من بينها 14 ميدالية ذهبية، رغم أن عدد سكان النرويج يتجاوز خمسة ملايين نسمة بقليل. منتخبات عملاقة مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية لم تتمكن من الصمود في طريق تحقيق النرويجيين إنجازًا ستذكره سجلات التاريخ الرياضي لفترة طويلة.
كان من المتوقع بعد إنجاز بهذا الحجم أن تملأ الجماهير المحتفلة الشوارع والميادين في النرويج، ملتحفين الأعلام ومطلقين الألعاب النارية، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وهو ما يوضحه معلق رياضي نرويجي لكاتب المقال بقوله: «نريد الفوز دائمًا، لكن الاعتدال مكون أساسي في ثقافتنا».
ربما يبدو هذا مقنعًا، لكن وراء هذا السبب الظاهري تقف مخاوف من أن تستحوذ النرويج على بطولات رياضات بعينها، ما يعني إلحاق الضرر بهذه المنافسات.
تزداد المخاوف بشكل كبير في ما يتعلق برياضة تزلج اختراق الضاحية التي يعشقها شعب النرويج منذ قرون، وتتوفر ميزانية ضخمة مخصصة لمارستها، إضافة إلى الرعاة والممولين، إذ يخشى النرويجيون أن يؤدي احتكارهم الانتصارات في هذه الرياضة إلى القضاء على حماس شعوب الدول الأخرى لها.
تؤكد هذا اللاعبة الأوليمبية البولندية «جوستينا كووالتشيك»، التي نافست في رياضة تزلج اختراق الضاحية في أولمبياد بيونغ تشانغ، التي ترى أن فوز النرويج بخمس ميداليات في التزلج يصعب المنافسة على الدول الأخرى مثل بولندا.
فوز النرويج = خسارة الرياضة
لا يمكن لدولة واحدة أن تحتكر الفوز في رياضة ما، قد تكون هولندا قد فعلت في التزلج السريع، وكذلك أمريكا في كرة السلة، لكن الأمر يختلف بعض الشيء مع النرويجيين، الذين يطمحون إلى جذب جمهور من جميع أنحاء العالم إلى رياضة تزلج اختراق الضاحية، وذلك لن يتحقق إلا باكتساب الجمهور عبر شاشات التلفزيون.
تُذاع منافسات تزلج اختراق الضاحية في مناطق واسعة من أوروبا خلال عطلة نهاية الأسبوع في الفترة من نوفمبر إلى منتصف إبريل من كل عام، وترتفع معدلات المشاهدة التلفزيونية عندما تحقق المنتخبات الأوروبية نتائج طيبة تضعها داخل المنافسة، والعكس بالعكس. لذلك منذ 2011، عندما بدأ التفوق النرويجي في اللعبة، انخفضت مشاهدة المنافسات بنسبة 40%، بحسب ما ذكره «جورج كابول» مدير التسويق في الاتحاد الدولي للتزلج.
يوضح كابول لكاتب المقال أنه عند رؤية لاعب منتخب بلادك ينهي السباق في المركز الـ23، يقلل ذلك حماسك لمتابعة المنافسة، فالنتائج هي كل شيء.
ازدهار لعبة تزلج اختراق الضاحية يحتاج إلى ظهور أبطال محليين، وبخاصة من الدول ذات الكثافة السكانية مثل ألمانيا، التي يتجاوز عدد سكانها 82 مليون نسمة، لا أن تفوز النرويج بـ15 ميدالية، ويحصل أقرب منافسيها على 4 ميداليات فقط. هنا تكمن المعضلة، فالجمهور بطبعه يريد الفوز في رياضته المفضلة، في حين أن الفوز الدائم سيدمر رياضته المفضلة هذه.
قد يعجبك أيضًا: كيف نتعلم الخسارة بكرامة وشرف؟
النرويج: نسعى لرفع مستوى المنافسين
عندما صوَّت الشعب في 1905 لاختيار ابن ملك الدنمارك لحكم النرويج، لم يحتج إلى تعلم اللغة المحلية لكسب الشعب في صفه، بل تعلم رياضة التزلج.
بطبيعة الحال، لن تستطيع النرويج أن تمنع أبطالها من الفوز بالمنافسات، لكنها تحاول رفع مستوى المنافسين من جميع أنحاء العالم وفقًا لخطة مدتها سبع سنوات، عن طريق دعوة لاعبي المنتخبات المنافسة إلى معسكر تدريبي لمدة أسبوع، وتوفير معسكر منفصل لمدربي منتخبات كأس العالم، والسماح للجماهير بحضور هذه المعسكرات التدريبية.
«إيريك روست»، رئيس اتحاد النرويج للتزلج، يقول: «نعلِّمهم أسباب نجاحنا، فنحن نشعر بالمسؤولية تجاه المجتمع الدولي، ونريد الانفتاح عليه ونقل خبرتنا إليه».
لكن قضاء أسبوع واحد في النرويج لن يكفي بالتأكيد لنقل قائمة طويلة من عوامل النجاح إلى الدول الأخرى، فبعض تلك العوامل يستحيل نقله، ببساطة لأنه يتعلق بطبيعة البلد ذاتها، فالنرويج قليلة الكثافة السكانية، ولديها مساحات شاسعة مغطاة بالجليد، ما يشجع الأطفال على ممارسة تلك الرياضة وعشقها.
بسبب ذلك، تجذَّر حب التزلج في ثقافة النرويج، حتى لدى العائلة المالكة، فعندما صوَّت الشعب عام 1905 لصالح الانفصال عن السويد، واختاروا ابن ملك الدنمارك لحكم البلاد، أسدى المغامر النرويجي «فريدجوف نانسن» نصيحة غالية للملك الجديد، حين قال له إنه كي يكسب قلوب شعبه، ليس عليه أن يدرس لغتهم، بل أن يتعلم رياضة التزلج، وقد كان ذلك بالفعل.
عشق، تمرين، دعم: مثلث النجاح النرويجي
يأتي إيمان شعب النرويج بالطبيعة في بلادهم كأحد عوامل التفوق الرياضي المبهر، ويبرهن على ذلك انتشار ثقافة إقامة المعسكرات في الهواء الطلق. واستغلت المحطة التلفزيونية «NRK» تلك الثقافة لتقديم تجربة فريدة من نوعها، إذ عمدت عام 2011 إلى تثبيت كاميرا في مقدمة قارب، وراحت تبث على الهواء مباشرة مَشاهد لمدة 134 ساعة فقط للمناظر الطبيعية.
أتاح عشق الطبيعة في النرويج الفرصة لظهور نحو ألف نادٍ رياضي صغير يديرها في الغالب متطوعون، لكنها تقدم تعليمًا حقيقيًّا لرياضة التزلج، حتى أن واحدًا من أبناء تلك النوادي محدودة الميزانية صار بطلًا أوليمبيًّا في كوريا الجنوبية، هو «جوهانس كلايبو» البالغ من العمر 21 عامًا، وحصل على ثلاث ميداليات ذهبية رغم أن أحدًا لم يسمع به على الإطلاق قبلها بعام ونصف، فاجتماع عوامل ثقافة عشق رياضة التزلج، والتمرين الجاد، والدعم المالي، لا يحدث إلا في النرويج.
في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية 2018، شعر الرياضيون النرويجيون بارتياح عندما أحرز أبطال الدول الأخرى انتصارات، فالعدَّاءة النرويجية «ماريت بيورغن»، التي تحوز 14 ميدالية أولمبية، عندما حلَّت ثالثة في الدورة الأخيرة وحصلت منافستها الأمريكية على الذهبية والسويدية على الفضية، قالت وقد بدت السعادة عليها: «بالطبع نكافح من أجل الحصول على الذهب، لكن من الجيد أن نرى أمريكا على منصة التكريم، فهذا مهم من أجل الرياضة».
أيمن محمود