غيم أوفر: كيف ستجلب «نينتندو» ألعاب الفيديو إلى الواقع؟
في عصر ثورة التكنولوجيا، خلقت الهواتف الذكية والألعاب الحديثة حالة من العُزلة والفردية، وأصبح مشهد الأصدقاء الجالسين معًا وكل واحد منهم ينظر في شاشة هاتفه مألوفًا للغاية. وفي محاولة لكسر هذه الحالة، أطلقت شركة «نينتندو» (Nintendo) منصة ألعاب جديدة لتدفعنا مرة أخرى للنظر بعضنا إلى بعض.
ورصد مقال على موقع The Atlantic محاولة الشركة اليابانية لإبعاد الأعيُن عن الشاشات، وإعادة الألعاب الجماعية بالمعنى الحقيقي.
العودة إلى عصر رعاة البقر
يقف الأب إلى جوار ابنه ذي التسع سنوات، وفي يد كلٌّ منهما عصا التحكُّم في جهاز الألعاب «نينتندو». تعمل العصا كمسدس الآن، ولاحقًا ستتحول إلى سيف محارب ساموراي ياباني وربما مضرب «بينغ بونغ». يلتفت الابن إلى شاشة التليفزيون لمتابعة اللعبة، لكن موظف شركة «نينتندو» يوقفه مشيرًا إلى والده ويقول: «لا تنظر إلى الشاشة، انظر إليه»، ثم يضيف: «انظر إلى عينيه».
على الشاشة يظهر رجلان من رعاة البقر يقفان متواجهَين ويد كليهما متحفزة على سلاحه. ينظر الطفل إلى عيني والده بثبات في انتظار تعليمات بدء اللعب، تتشبَّث أصابعهما بعِصِيِّ التحكم، يغلِّف الجوَّ صمتٌ، ثم: «أطلق النار».
يهتف موظف «نينتندو» فيضغط الابن سريعًا على زر الإطلاق، يحاول الأب اللحاق به لكنه يعلم أنه تَأخَّر بالفعل. يسقط أحد راعيي البقر على الشاشة أرضًا، الابن كان أسرع. يمسك الأب صدره مدَّعيًا الألم، فيبتسم الابن وتظهر السعادة في عينيه.
لا تنظر إلى الشاشة
طرحت «نينتندو» أحدث منصَّاتها للألعاب في مطلع شهر مارس 2017، جهاز «سويتش» (Switch)، الذي يجمع بين مميزات الأجهزة المحمولة ومنصَّات الألعاب التي تتصل بشاشة، ويمكن متابعة اللعب عليه في أي مكان.
لكن اللعب في أي مكان ليس فقط هدف الشركة من جهاز «سويتش»، بل أن ينظر اللاعب إلى عينَي خصمه في أثناء ممارسة اللعبة، لا إلى شاشة التليفزيون كما هو الحال عادة.
في أثناء العرض التقديمي للجهاز، أعلنت الشركة عن نظام يُدعى «1-2 سويتش»، يضمُّ مجموعة من الألعاب تعتمد جميعها على عدم النظر إلى الشاشة، بل إلى اللاعب الذي أمامك، منها لعبة «رعاة البقر» السابقة.
تجرِبة اللعبة شيء والقراءة عنها شيء آخَر بالطبع، ويذكر كاتب المقال أنه مارس إحدى الألعاب مع شخص لا يعرفه، ويمكنك تخيُّل أن تقف أمام شخص مجهول تمامًا لك، ينظر كلاكما إلى الآخر بترقُّب في انتظار تعليمات اللعبة، سواءً كانت تجرِبة إطلاق نار أو مباراة «بينغ بونغ». على الشاشة تظهر عبارة «لينظُرْ كلاكما إلى عينَي الآخر»، لتفوِّت الفرصة على أي عامل يمكن أن يُفسِد تجرِبة اللعبة. ومع مزيد من الأدوار يبدأ الحاجز بين اللاعبَيْن في الذوبان.
قد يعجبك أيضًا: جيل الألعاب الإلكترونية: ليعلم محبو «الغيمز» أنَّ في البدء كات «الأتاري»
هكذا كنا نلعب
قبل توغُّل التكنولوجيا كثيرًا في حياتنا، كان مُعظَم الألعاب يعتمد على التفاعل المباشر بين مجموعة من الأشخاص، وكان من الطبيعي أن تجد من يضعون لمساتهم الخاصة على الألعاب التقليدية لتصبح ملكًا لهم، كأن يُضِيفوا شرطًا جديدًا إلى اللعبة أو حتى يغيِّروا اسمها، وليس غريبًا أن تجد في كل بلد عربي شكلًا خاصًّا لنفس اللعبة، مثل «الاستغماية» في مصر أو «الغميضة» و«الخشيشة» في الخليج.
لم يكن مُستغرَبًا أن يُحضِر أحد اللاعبين صديقًا جديدًا على المجموعة ليشاركهم اللعب، ما دام يمتثل للشروط. البهجة فقط كانت عنوان اللعبة، وحتى الخلافات، الحاضرة بالتأكيد، تُحَلُّ سريعًا ليستمرَّ اللعب. أما الآن فأصبح المرء يمارس ألعابًا مع أشخاص افتراضيين لم ولن يراهم أبدًا.
قد يهمك أيضًا: أجهزة الفيديو تنقرض.. احتضن أشرطتك وابكِ
محاولات تطويع التكنولوجيا
خلال السنوات العشر الأخيرة ظهرت محاولات للربط بين التكنولوجيا والألعاب التفاعلية مع الاستغناء عن الشاشات، لكن معظمها لم يتعدَّ مراحل التجريب، أو العرض في المعارض الدولية للألعاب.
اللعبة التي نجحت في كسر القاعدة السابقة على منصة «بلاي ستيشن» كانت «Johann Sebastian Joust»، التي تعتمد على أن يتحرك اللاعبون وهم يحملون عِصِيَّ التحكُّم في أيديهم، وفي أثناء هذا تُشغَّل مقطوعة موسيقية على الجهاز يتغير إيقاعها بين بطيء وسريع باستمرار، وعلى اللاعبين مواصلة التحرك وفقًا لإيقاع الموسيقى، مع محاولة دفع عِصِيِّ تحكُّم اللاعبين الآخرين لإخراجهم من اللعبة، والفائز هو من يحافظ على الإيقاع وعلى عصا تحكُّمه حتى النهاية.
يؤكِّد «دوغلاس ويلسون» (Douglas Wilson)، أحد مصمِّمي اللعبة، أن تحريرها من قيود الشاشة اللازم وجودها في كل الألعاب الإلكترونية جذب شريحة أكبر من اللاعبين ممَّن لا يفضِّلون ألعاب الفيديو على الإطلاق.
اقرأ أيضًا: هكذا حطمت التكنولوجيا المسافات والقدرات المحدودة في الجنس
«نينتندو»، تاريخ من البُعد عن الشاشة
مثلما دخلت «نينتندو» عددًا ضخمًا من البيوت بألعابها، ومثلما غزَت شاشاتِ الهواتف الذكيَّة، تحاول الآن أن تكسب أرضًا جديدة بتقديم ألعاب تحسِّن بها العلاقات الاجتماعية.
في حواره مع جريدة «نيويورك تايمز»، ذكر «شيغيرو مياموتو» (Shigeru Miyamoto)، مبتكر لعبة «سوبر ماريو» (Super Mario) الشهيرة، أنه حذَّر أكثر من مرة من اعتماد الألعاب الحديثة على التليفزيون، ووصف تلك الألعاب بأنها «عالة» على الشاشات.
لهذا ليس على غريبًا على الشركة اليابانية أن تحاول دائمًا الخروج عن الشكل التقليدي لأجهزة الألعاب، فبدايات «نينتندو» كانت بعيدًا عن عالم الفيديو غيم، إذ انطلقت عام 1889 بلعبة ورق (كوتشينة) تُدعى «هانافودا» (Hanafuda)، وأوراق اللعب كانت، ولا تزال، واحدة من أفضل الألعاب الجماعية.
في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، قدمت الشركة لعبة «Light Telephone»، التي كانت عبارة عن زوجين من الأجهزة على شكل كاميرا فيديو محمولة، وكل واحد يعمل كجهاز إرسال واستقبال، ويحول الصوت إلى ضوء. مرة أخرى، تعتمد اللعبة بشكل أساسي على تَواجُه اللاعبَين دون عوائق بينهما تعترض طريق الضوء.
تتلخص فلسفة «نينتندو» في البحث عن حلول إبداعية باستخدام تكنولوجيا معتادة.
بالتأكيد ليست كل ألعاب جهاز «نينتندو» الجديد تعتمد على التفاعل مع اللاعبين الآخرين، ولكن يبقى نظام «1-2 سويتش» هو أفضل ما قدمته الشركة في إعلانها عن الجهاز.
علينا، بدلًا من بناء مزيد من العوالم الخيالية الضخمة على الشاشات، أن نلتفت إلى السحر الحقيقي، السحر الآتي من تفاعل الأشخاص معًا في أثناء الألعاب. ففي حين تُنفَق ملايين الدولارات سنويًّا لمحاولة محاكاة الصفات البشرية عن طريق الآلات، قرَّرَت «نينتندو» الذهاب في الاتجاه المعاكس، وجعلت الإنسان نفسه جزءًا من التكنولوجيا. هذا هو ما تجيده الشركة، تطويع التكنولوجيا الموجودة لصناعة شيء جديد.
«غونبي يوكوي» (Gunpei Yokoi)، أحد أهم مطوِّري ألعاب الشركة، لخَّص فلسفة «نينتندو» في محاولتها «البحث عن حلول إبداعية باستخدام تكنولوجيا معتادة»، لكن الجديد هذه المرة أن اللاعبين أنفسهم صاروا هُم التكنولوجيا.
في مواجهة مع الواقع الافتراضي
بمقارنة بسيطة مع أحدث صيحة في عالم التكنولوجيا، تقنية «الواقع الافتراضي» (Virtual Reality)، نجد أنها تفعل عكس ما تقدِّمه «نينتندو»، إذ تقدم جهازًا يغطِّي عينَي اللاعب ويفصله تمامًا عن العالَم الخارجي.
في عام 2016، أطلقت عدة شركات منها جوجل وفيسبوك وHTC منتجاتها الخاصة لألعاب الواقع الافتراضي. كثيرون تَحمَّسُوا لتجرِبة دخول العالَم الافتراضي بشكل كامل، والبعض خشي استخدامها، لكن مبيعاتها لا تزال ضعيفة.
كيف سيستقبل الجمهور جهاز «سويتش»؟ هل بمزيد من الفتور أم أنهم سيجدون فيه عودةً إلى ما افتقدوه طويلًا؟
تقول الكاتبة «سوزان سونتاج» (Susan Sontag) إن «كل الحدود أصبحت افتراضية، وصار بالإمكان فصل كثير من الأشياء عن مكانه التقليدي. الآن، كل المطلوب هو وضع الشيء في إطار مناسب له». بالمنطق نفسه انفصلت الألعاب عن التليفزيون إلى الموبايل، فهل تكون وجوه اللاعبين هي الشاشة الجديدة؟
اقرأ أيضًا: مسلسل «Westworld» يثير التساؤل: هل نعيش في واقع افتراضي؟
هل نقدر على مواجهة بعضنا؟
نجحت «نينتندو» مع إطلاق جهاز «Wii» في إزاحة اللاعبين عن مقاعدهم ودفعهم للحركة.
يذكر كاتب المقال أنه تَوَقَّف قليلًا قبل بدء اللعب على جهاز «1-2 سويتش» لإزالة بقايا طعام عالقة بين أسنانه، ثم انتبه إلى أن هذه البقايا قد تلعب دورًا في تشتيت خصمه، وأدرك أنه أصبح جزءًا من اللعبة، وصار عالَم اللعبة يخصُّه.
بالطبع سيمارس اللعبةَ أشخاص يعرف بعضهم بعضًا، ولن تكون تجربتهم مع شخص مجهول تمامًا مثل الكاتب، والسؤال الآن: في عصر صارت الفردية فيه سمةً غالبة، هل سيحب اللاعبون مواجهة بعضهم بعضًا والنظر مباشرةً في أعين خصومهم؟
في مغامرتها مع جهازها «Wii» عام 2006، نجحت «نينتندو» في إزاحة اللاعبين عن مقاعدهم ودفعهم إلى ممارسة كثير من الحركة مع الألعاب. المردود كان إيجابيًّا إلى حدِّ بيع مئة مليون جهاز في دول العالم، وهو رقم لم تصل إليه أي منَّصة ألعاب أخرى منذ ذلك الحين، فهل تنجح في مغامرتها الجديدة كذلك؟
نجحت أو فشلت، لا بد أن تكون محاولة «نينتندو» دافعًا لإعادة التفكير في كيف صارت حياتنا ملتصقة بالشاشات، سواءً للعب أو التواصل، أو حتى للعمل.
أندرو محسن