منتخب هولندا: الثورة برتقالية، واليأس خيانة

محمود عصام
نشر في 2018/12/05

الصورة: Getty/Stuart Franklin

يستدعي مصطلح «الثورة البرتقالية» ذِكر بلد مثل أوكرانيا وأسماء مثل يانوكوفيتش ويوشينكو، لكن لو كنت من مجانين كرة القدم، فأول ما سيخطر في رأسك هولندا وكرويف وأسماء أخرى عدة.

بتأهله إلى نصف نهائي دوري الأمم الأوروبية، عاد المنتخب الهولندي للظهور مجددًا في التجمعات العالمية الكبرى. قدم أداءً جيدًا وتأهل متصدرًا مجموعته على حساب فرنسا وألمانيا، ليعوض غيابه عن كأس العالم 2018.

لدينا هنا سؤال يحتاج إلى إجابة: هل غياب هولندا عن كأس العالم مفاجأة؟ سؤال آخر: هل عودتها سريعًا مفاجأة؟

الإجابة على السؤالين بشكل مباشر وبسيط: لا. لا تألق هولندا جديد، ولا فشلها أيَضًا مُستحدَث.

هولندا التي اعتادت السقوط من علٍ

تُقدم مشاركات هولندا في كؤوس العالم دلالات واضحة على تاريخها المتذبذب. الكرة الهولندية، التي يتعامل معها العالم كفلسفة مستقلة، تمر غالبًا بفترات صعود تعقبها فترات فشل.

باعتباره فلسفة كروية قائمة بذاتها، لماذا يفشل منتخب هولندا في الحفاظ على مكانته؟

مع هولندا، شاهَد العالم نسخة مثالية من كرة القدم في بطولة 1974، ما عُرف باسم الكرة الشاملة، بقيادة النابغة يوهان كرويف. تلك المشاركة انتهت باحتلال المركز الثاني، وهو الأمر الذي تكرر في كأس العالم التالي عام 1978.

لكن ثاني العالم مرتين تواليًا فشل في التأهل إلى البطولة أصلًا مرتين متتاليتين كذلك في 1982 و1986، بينما لم يعبر دور الستة عشر في نسخة إيطاليا 90، رغم أنف جيل فان باستن وريكارد وخولييت، الثلاثي الذي اجتاح أوروبا رفقة فريق ميلان، تحت قيادة الإيطالي أريغو ساكي المتأثر أيضًا بالكرة الهولندية الشاملة.

أداء هولندا كان أفضل في كأس العالم 94 لكنها خرجت من دور الثمانية، ثم حلَّت رابعةً في 98 بقيادة دينيس بيركامب. وكما هي العادة، فشلت في التأهل إلى نسخة 2002 رغم وجود كلويفرت وديفيدز وسيدورف وأوفر مارس وفان در سار، وغيرهم.

تبدو الأمور قابلة للتوقع الآن: أداء سيء في كأس العالم ألمانيا 2006، يعقبه توهج في 2010 و2014، ثم فشل في التأهل إلى نسخة 2018.

حسنٌ. باعتباره فلسفة كروية قائمة بذاتها، لماذا يفشل منتخب هولندا في الحفاظ على مكانته؟ للإجابة، لا بد من العودة إلى حيث بدأت ثورة هولندا في كرة القدم.

الثورة البرتقالية: كرة القدم كنتيجة منطقية

ظهر مصطلح الكرة الشاملة استجابةً لأداء هولندا في 1974، لكن كلمة «شاملة» ذاتها استُخدمت في مجموعة كبيرة من المجالات في هولندا وقتئذ.

في كأس العالم 1974 في ألمانيا الغربية، قدمت هولندا ما يمكن أن نسميه ثورة في عالم كرة القدم: طريقة لعب سُميت الكرة الشاملة، تعتمد بشكل أساسي على السيطرة على المساحات وتوسيعها عند الاستحواذ على الكرة في سبيل الاحتفاظ بها لفترة أطول، ثم تضييق المساحات مع فقد الكرة في سبيل تقليل وقت احتفاظ المنافس بها.

تعتمد تلك النظرية بشكل أساسي على تبادل المراكز، وتطبيق صارم لمصيدة التسلل، وضغط مستمر على الخصم. لكن لماذا قدمت هولندا تحديدًا دون غيرها تلك الثورة؟

هناك قصة طريفة عن قميص هولندا البرتقالي المعتاد ذي الأشرطة الثلاثة السوداء على الأكمام، العلامة المميزة لشركة أديداس آنذاك، والذي ارتداه كل اللاعبون خلال البطولة. كلهم، إلا يوهان كرويف.

أيقونة المنتخب رفض ارتداء القميص لأنه كان متعاقدًا بشكل فردي مع شركة بوما، واضطر الاتحاد الهولندي إلى الإذعان، ووفر له قميصًا بشريطتين فقط.

كان كرويف رجلًا متمردًا، لكنه لم يكن الوحيد. لاعبو المنتخب الهولندي سافروا إلى ألمانيا الغربية رفقة زوجاتهم وصديقاتهم، اللاتي أقمن معهم. كانت تلك سابقة، طبقًا لما يذكره إدواردو غالياني في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل».

في كتابه «الهرم المقلوب»، يوضح الكاتب الإنجليزي جوناثان ويلسون أن أمستردام الستينيات كانت عاصمة تمرد الشباب. اصطبغ الفن والثقافة بطابع طليعي بشكل متزايد، وشعَّ المناخ العام بالسيريالية واللاسلطوية.

فكرة الفردية في إطار النظام كانت إحدى سمات هولندا في ذلك الوقت، ولم يظهر مصطلح الكرة الشاملة إلا استجابةً لأداء المنتخب الهولندي في كأس العالم 1974، لكن كلمة «شاملة» ذاتها استُخدمت في مجموعة كبيرة من المجالات الأخرى في هولندا وقتئذ، مثل التمدن الشامل والطاقة الشاملة، بحسب ديفيد وينر في كتاب «البرتقالي العبقري».

كانت هولندا كلها تعيش حالة تمرد، وكانت ثورة الكرة الشاملة نتيجةً لكل ذلك.

يستعرض وينر نظرية مفادها أن الهولنديين على وجه الخصوص يتقنون التحكم في المساحات، لأن طبيعة بلدهم الجغرافية المستوية، التي كثيرًا ما تُغرقها الفيضانات، تجبرهم على التحكم في المساحات كل يوم في حياتهم العادية.

ثورة التيكي تاكا: البدء من حيث انتهى الآخرون

ما حدث بعد ذلك هو ما يحدث عادةً في تاريخ تكتيك كرة القدم: نجحت الكرة الشاملة لأنها لاقت لاعبين قادرين على تنفيذها، فنيًّا وجسديًّا، إذ تتطلب الخطة قدرة بدنية هائلة لتحقيق الضغط المطلوب. لكن كان لا بد من وجود لاعبين مماثلين في الأجيال التالية، لذا كان لا بد من التطوير، كان لا بد من ثورة ثانية تنبثق من الأولى.

لكن هولندا لم تفعل هذا. إسبانيا فعلت.

بدأت هولندا الثورة ثم توقفت، لم تستغل إرثها الكروي ونوعية لاعبيها ووعيهم التكتيكي، الثورة الثانية كانت إسبانية.

القدرة على حرمان الخصم من أي خطورة عن طريق الاستحواذ التام على الكرة بتكتيك تبادل الكرة في الوسط، والقدرة على مباغتة الخصم الذي ييأس مع الوقت كونه لا يستطيع أن يحقق أي خطورة على مرمى المنافس. تلك الطريقة هي في الأساس التطور المنطقي لكرة القدم الشاملة التي نقلها كرويف من هولندا إلى إسبانيا، ليس لاعبًا، بل مدربًا.

لم تعرف إسبانيا هذا الأسلوب إلا مع تولي كرويف الإدارة الفنية لفريق برشلونة، حين قرر إنشاء أكاديمية الشباب المعروفة باسم «لاماسيا»، حيث يتدرب اللاعبون على طريقة لعب الفريق الأول ذاتها، من أجل إنتاج ناشئين قادرين علي تنفيذ ذلك الأسلوب، أصحاب قدرات فنية كبيرة يلازمها وعي تكتيكي.

أتت الأمور ثمارها وسيطرت إسبانيا على كرة القدم في العالم، بتحقيق بطولتي أوروبا عام 2008 و2012، وكأس العالم 2010 بينهما. أما برشلونة، بقيادة بيب غوارديولا خريج لاماسيا أصلًا، ففاز بكل البطولات المتاحة في ذلك الوقت.

الإسباني روبيرتو مارتينيز، الذي قاد بلجيكا إلى المركز الثالث في كأس العالم 2018، يوضح أن فريق إسبانيا الفائز بكأس العالم 2010 على حساب هولندا اتسم بالنضج التام، واللعب بنفس التكتيك الذي ينتهجه منذ خمس سنوات، أي الاستحواذ.

بدأت هولندا الثورة ثم توقفت، لم تستغل إرثها الكروي ونوعية لاعبيها ووعيهم التكتيكي. الثورة الثانية كانت إسبانية.

هولندا 2018

مهارات المدافع الهولندي الشاب ماتيس دي ليخت

قديمًا، كان المدرب الهولندي خيارًا محببًا للأندية الكبرى، أما الآن فتحول إلى سلعة قديمة لا ينظر إليها أحد.

أحد الكشافين الكبار في أوروبا كان يراقب بطولة ودية للناشئين في هولندا عام 2015، ولم يصدق كيف كان حارس فريق أياكس الشاب يركل الكرة كثيرًا بشكل طولي إلى المهاجم مباشرة، ولا يبدأ الهجمة عن طريق المدافعين ثم لاعبي الوسط وهكذا.

فقد المنتخب الهولندي هويته كفريق يتميز بالوعي التكتيكي على أرض الملعب. أصبح الاهتمام بالإمكانيات الفنية للاعبين أولوية، فهؤلاء يُباعون بأسعار عالية للأندية الأوروبية، لكن دون أن يكون لديهم الوعي التكتيكي المعروف عن اللاعب الهولندي. ماتيس دي ليخت يبدو مثالًا مناسبًا.

وعمره 17 عامًا فقط، مثَّل دي ليخت فريق بلاده للمرة الأولي عام 2016، كأصغر لاعب دولي هولندي على الإطلاق. لكن ظهوره لم يكن موفقًا، فهولندا خسرت أمام بلغاريا بهدفين وتضاءلت فرصتها في الصعود إلى كأس العالم، وكل هذا بسبب أخطاء دي ليخت.

تعرض الفتى للوم كبير، لكنه، لصغر سنه، لقي تعاطفًا كبيرًا كذلك. عمل دي ليخت على إصلاح عيوبه، وقدم أداء جيدًا للغاية جعله مطلوبًا في معظم أندية أوروبا الكبرى، وقاد هولندا إلى نصف نهائي دوري الأمم.

تبدو الأمور واضحة إذًا: فقدت هولندا مع الوقت صفة الوعي التكتيكي والفلسفة التي تقدم تطورًا يشعر به متابعو كرة القدم قبل خبرائها. أصبحت تعتمد على مستويات اللاعبين المنضمين إلى المنتخب مثل أي فريق عادي. دي ليخت، الذي بدأ مهزوزًا لصغر سنه، أسهم في عدم صعود الفريق لكأس العالم بشكل مباشر. لم يجد الشكل التكتيكي الثابت الذي يستوعب لاعبًا صغيرًا، بدلًا من إلقاء اللوم عليه. تغير هذا بالطبع بتطور مستواه، لكنه لم يحدث معه ناشئًا.

بالمثل، كان المدرب الهولندي خيارًا محببًا للأندية الكبرى قديمًا، لكنه الآن تحول إلى سلعة قديمة لا ينظر إليها أحد.

لم تفطن هولندا إلى ضرورة تطوير فلسفتها التي قدمتها لكرة القدم بقيادة كرويف، لذا تعيش على أسماء تظهر كل حين: فان باستن، بيركامب، سيدورف، ديفيدز، روبين، ثم ديباي وفان دايك ودي ليخت ودي يونغ. ربما كانت هولندا أحق بثورة برتقالية ثانية، لكن المؤكد أن هذا لم يحدث أبدًا.

محمود عصام