لا أحد يحبني: كيف تعرف أنك مصاب بعقدة الإهمال؟

عبير درويش
نشر في 2017/03/23

الصورة: NicolasMcComber

في عام 1886، وخلال عمله في مجال الأمراض العقلية، أطلق عالم النفس الفرنسي «بيير جانيه» مصطلح «الفكرة الثابتة شبه الواعية» على أي حدث مرَضيٍّ يكمن في انفعال يتجاوز الوعي، ويعود في أصله إلى حدث سبَّب صدمةً نفسية أو خوفًا وأصبح فكرة شبه واعية، أو ربما حلت مكانه أعراض. ولاحقًا، ومع التعمُّق في الدراسات، سُمِّيت «عقدة» عن طريق عالم النفس السويسري «كارل يونغ».

هكذا حُدِّد تعريف للعقدة عام 1900 بأنها ذكريات من الماضي مشحونة بالانفعال، غير واعية، ينتج عنها مجموعة من التصرفات أو الأنماط السلوكية في مواقف معيَّنة، هذه التصرفات تعتبرها «الأنا»، التي هي مركز الشعور والإدراك الحسي في الإنسان، دفاعًا ضد مثيرات الواقع التي تتشابه مع ذكريات الماضي.

ما هي عقدة الإهمال؟

الصورة: Zhao !

حَظِيَ مفهوم «العقدة» بعديد من التقسيمات والتعريفات خلال التاريخ من مدارس مختلفة لعلماء مختلفين، لكن حسب العالم الفرنسي «روجيه موكيالي» (Roger Mucchielli) في كتابه «العقد النفسية»، فإنها تصنَّف إلى عقد نفسية كبيرة وأخرى عادية من الحياة اليومية.

للشَّرَه العاطفي علاقة طردية مع الحاجة إلى الأمان والحماية.

أحد أهم العقد النفسية ما يسمى «عقدة الحرمان العاطفي» أو «عقدة المنع» أو «عقدة الرفض»، وهي جميعها أسماء لـ«عقدة الإهمال»، يشعر فيها الفرد بأنه كائن مُهمَل متروك فاقد للحب وخائف من الابتعاد العاطفي.

بإمكانك أن ترى هذه العقدة من أشخاص يكررون عبارات مثل «لا أحد يحبني»، «أنت تهملني»، «لا أحد يكترث بأمري»، كما تُرى في أقلِّ الإشارات تلميحات إلى عدم الحب أو الإعجاب، ولا يدَّعي حامل هذه العقدة كل هذه الأحاسيس، بل يشعر بالألم بسبب مشاعره لأنه حقًّا يعتقد أن لا أحد يحبه.

يحمِل المُهمَل في نفسه شراهةً عاطفية لا يمكن مَلؤها, وحاجةً مُلِحَّة إلى الحب لا تُروَى، وينشأ لديه خوف مستمر من عدم ملءِ هذه الفوَّهة العاطفية يدفعه إلى التنقيب والبحث وراء محبوبه، وأحيانًا إلى استجوابه عاطفيًّا ليتأكد من وفائه، ومن أنه لن يخونه ويتسبب له بألم عاطفي جديد أو خيبة أمل، فالشَّرَه العاطفي يزيد بزيادة الحاجة إلى الأمان والحماية.

إن أقل الإشارات أو الأحداث تعرِّض صاحبها إلى إيقاظ ألم الحزن، كبهجة الحبيب من دونه، أو عدم انتباهه، أو انتقاده، أو حركة غير اعتيادية تصدر منه، أو لهجته القاسية إلى حدٍّ ما، أو حتى عدم حضوره إذا احتاج إليه ليسمع أخباره وقصصه، وكل مشكلة في العلاقة تقع على صدره كمرساة ثقيلة من الحزن السريع وأفكار الموت والوحدة.

ما الذي يسبب عقدة الإهمال؟ المنبع الأساسي لها هو الحرمان العاطفي خلال الفترة التي تقتصر فيها علاقة الفرد على الأم، أي بين الولادة وسنِّ عامين، فأي تقصير أو ابتعاد من الأم قد يُحدث تأثيرًا طويل المدى يؤدِّي إلى كل ما سبق.

كيف تتعامل النفس مع العقدة؟

الصورة: Buena Vista Images

تختلف العقد باختلاف أسبابها، فهناك عقدة إهمال أو عقدة نقص أو عقدة ذنب أو غيرها، وتتغير مع كل عقدة ردود أفعال «الأنا»، وتتكفل بالدفاع عن الشخصية وإحداث التوازن والتوافق مع البيئة الخارجية من أحداث أو أشخاص، وهو ما يؤدِّي إلى نتائج متفاوتة من شخص إلى آخر.

وتتنوع ردود الأفعال نحو العُقَد على النحو التالي:

1. الشكل المتوازن

تلغي فيها «الأنا» نتائج الاضطرابات الناتجة عن عقدة ما، وتصنع أو تُنمِّي سلوكًا معاكسًا ناجحًا في مكان ما يكون مُرضيًا «للأنا»، وهذا هو رد الفعل الأكثر سلامة نحو العقدة، فمثلًا نرى طالبًا هزيلًا ضعيف الجسد ينمِّي ذكاءه وقدراته في مجال آخر، مثل الرياضيات أو العلوم، وينجح فيه.

اقرأ أيضًا: تبحث عن شغفك؟ لا تقرأ هذا المقال

2. الشكل التعويضي

هذا جُهد يُبذل لنفي العقدة، وعادةً يكون في شكل معاكس لشعور العقدة، فمثلًا لو كنت تمشي في الشارع ليلًا وشعرت بالخوف ثم بدأت بالصفير والترنُّم بصوت عالٍ لتُظهِر لنفسك أنك لست خائفًا، فهذا نوع من التعويض لعقدة الخوف في هذا الموقف، أو تَخيَّل أنك مصاب بعقدة نقص، فتحاول دومًا إظهار العكس بالبهرجة والزيادة لتُظهِر لغيرك أنك لستَ ناقصًا.

رد الفعل هذا، أي العقدة في شكلها التعويضي، لا ينفي عنك العقدة.

3. الشكل التصعيدي

هو إعطاء العقدة والمشاعر قيمةً اجتماعية أو أدبية فنية، وتحويلها إلى نشاط مقبول يستطيع المصاب بها مشاركته مع المجتمع حوله، كأن يختار المصاب بعقدة حب الظهور (حب الاستعراض أمام الناس) أن يعمل في مجال عروض الأزياء، لإشباع هذه الحاجة بشكل مقبول اجتماعيًّا.

4. الحيلة الأخيرة: العقلنة الدفاعية

في شكلها المتوازن، تساعد عقدة الإهمال على تكوين علاقات إيجابية.

يحدث هنا تعديل كامل للعقدة، أو بالأحرى نفيها وتكوين نسق تصرف منطقي عقلاني يُبعد صاحبها عن المواجهة الفعلية للمشاعر المزعجة المرتبطة بالمشكلة. على سبيل المثال، شخص توُفِّي له قريب عزيز، فبدلًا من مواجهة آلام الفقد تراه ينظِّم أمور الجنازة بجدِّية ويستقبل المعزِّين، بحيث يبتعد بهذه المشاغل عن مشاعره.

قد يهمك أيضًا: لماذا تكون خيبة الأمل ضرورية للشعور بالارتياح؟

أشكال عقدة الإهمال

الصورة: Markus Spiske

وبالعودة إلى عقدة الإهمال، أو عقدة الحرمان العاطفي التي ذكرناها سابقًا، فإنها تتجلى في الأشكال السابقة على النحو التالي:

في شكلها المتوازن، تساعد عقدة الإهمال على تكوين علاقات إيجابية، مثل البحث عن إعجاب وحب الآخرين بجمع أسباب الاستحقاق والجدارة، وقد تتجه العقدة أيضًا لتنشئ للفرد علاقة خاصة مع الله، فالله وحده «الذي لا يخون ولا يترك».

وفي شكلها التصعيدي، تكون عقدة الإهمال فلسفة الوجود الإنساني عمومًا، فالإنسان أصبح مرميًّا متروكًا على حافة العالم، الإنسان فريسة للتخلِّي ولألم العُزلة، وهذا طبيعي لأنه ما يفعله العالم، ولعلنا نجد ذلك يتضح كقيمة أدبية في أعمال الفيلسوف والكاتب الروماني «إميل سيوران».

قد يعجبك أيضًا: العزلة ليست وصمة

أما في شكلها التعويضي، فتصبح عقدة الإهمال حاجةً جامحة إلى إعطاء الآخرين كل العاطفة والحب والحنان، مثلما تلعب الأم دور التضحية بالذات، إضافةً إلى عطائها المادي والعقلي والفكري لأبنائها، واهتمامها بكل ما له علاقة بهم وإن كرهوا ذلك، كل هذا يحدث بشهوة عاطفية لا تُروَى لأن يشعر الشخص بحب الآخرين مقابل «العطاء» الذي يعطيه.

أخيرًا، يمكن أن تحول العقلنة الدفاعية عقدة الإهمال بشكل خطير إلى ما يقارب العُصاب (مرض نفسي)، فيرفض صاحب العقدة كل أشكال العلاقات العاطفية حتى لا يُضطرَّ إلى مواجهة خيبة الأمل أو الشعور بالألم، وخوفًا من إهماله وإبعاده، فهو ينهي بفرح ساديٍّ كل صداقة أو امتحان صداقة أو أي تقدير يُعرَض عليه، وترى عاطفته تتحول إلى الأشياء الرمزية مع الشعور بخلودها وأمانتها.

عبير درويش