رمزية نجيب محفوظ: البحث عن السعادة في «حارة العشاق»

حاتم محيي الدين
نشر في 2018/10/14

الصورة: دار القلم

في سنة 1962، نشر نجيب محفوظ مجموعته القصصية «دنيا الله»، ليبدأ مساره الرمزي، ويؤكد رحلته الأدبية الثالثة التي مثَّلت فيها التاريخية الفرعونية مرحلة أولى، ثم انتقل إلى «الواقعية الاجتماعية»، ليصل إلى أوجها في «ثلاثية القاهرة»، فيبدأ رحلته الرمزية التي أحدثت ضجة عارمة مع انتشار الحديث عن «أولاد حارتنا».

كثيرًا ما تناول محفوظ موضوعات فلسفية نابعة من خلفيته الدراسية في سياقه الواقعي، من خلال وجهات نظر وتوجهات شخصياته المختلفة. لكنه فتح الأفق على الكتابة الرمزية الأقرب اتساقًا مع التفكير الفلسفي، مع كتابة المجموعات القصصية، التي غلب عليها التكثيف وطرح التساؤلات بطرق مختلفة أو طرح إجابات عن تساؤل محوري.

في مجموعة «حكاية بلا بداية بلا نهاية» التي نشرها عام 1971، أي بعد 32 سنة من نشر عمله الأدبي الأول، يتناول الكاتب في قصة بعنوان «حارة العشاق»، استخلاصًا لرحلة الإنسان في البحث عن السعادة.

في حكاية بسيطة بمظهر واقعي، يُكثِّف الكاتب مواقف شخصياته ليكشف عن شخصيات رمزية، ويستخدم أوراقه الرابحة من خلفية الدراسة الفلسفية، والكتابة الواقعية، وماضيه في الكتابة القصيرة، وتمكنه الأدبي والسينمائي على حد سواء، ليرضي عددًا من محاولات القراءة. نحاول في هذه القراءة أن نكشف مسعى السعادة في «حارة العشاق».

الافتتاح

عبد الله، موظف أرشيف خارج الهيئة، يعمل بشكل متواصل من الصباح حتى أول الليل. فقير كادح وزوج عاشق منذ خمس سنوات، قبل أن يحصل على ترقية لمركز وظيفي ينتهي فيه دوامه تمام الثانية بعد الظهر، مثل كبار الموظفين.

هذا التغير الذي طرأ على حياة عبد الله يساعده في قضاء وقت أطول في البيت مع زوجته هنية، وكذلك للتعرف إلى الحارة التي يراها لأول مرة في ضوء الشمس ليعرف أهلها ويجالسهم، ويوطد علاقته بهم، فيجذبه الحديث معهم ومخالطتهم، ويشارك في جلسة القهوة لأول مرة.

عبد الله شخصية من دون تاريخ مميز، انتقل من الشقاء إلى النعيم جاهد ليصل إلى الاستقرار، وعندما وصل إليه، عانى من أفكار مضطربة لم يعهدها من قبل.

مع زيادة معرفته بأهل الحارة وأخلاقهم، إضافة إلى تفرغه الشديد الذي لم يعتده من قبل، يغمره شعور قوي بالشك، يطل زوجته المُحِبَّة، فيبدأ بتتبعها، ويفصح لها عن أفكار تتهمها بالخيانة، ما يجعلها تترك البيت، فيرسل خلفها يمين الطلاق.

يفتتح محفوظ قصته بسرد تاريخ الشخصية المدوَّرة، ليُدخِل القارئ في عالم القصة سريعًا، ويفتح مساحة واسعة أمام الأحداث التي ستواكبها وتجاريها الشخصية الرئيسية، ليشير إلى أن التاريخ ليس هو المهم في شخصية الرواية، وإنما الحدث. هكذا تصبح شخصية عبد الله هي التي تستوعب الأحداث والتحولات، وتأخذنا الرواية إلى محور حياته وأفكاره.

ليس من الغريب أن نجد صدى الرمزية في أسماء الشخصيات عند محفوظ في عدد من أعماله، من ذلك استخدامه اسم عبد الله، لمحاولة تنكير البطل والتخفيف من حدة الشخصية الرئيسية، ومن ثم للدلالة على عمومها وانتشار أفكارها. إضافة إلى أن هنية ترادف السعادة التي يحاول البطل الوصول إليها.

عبد الله شخصية من دون تاريخ مميز، انتقل من الشقاء إلى النعيم جاهد ليصل إلى الاستقرار، وها هو ذا يصل إليه، فيعاني من أفكار مضطربة لم يعهدها من قبل، يعاني من الشك الذي سيتجسد في اتهام زوجته هنية المحِبَّة بالخيانة، ويهدد موقفُه الزواجَ الذي دام لسنوات.

الإيمان

يتدخل الشيخ مروان عبد النبي، صديق العائلة وواحد من أهل الحارة المعروفين، محاولًا إصلاح الزواج المهدد. تظهر شخصيته في البناء السردي دون تاريخ أيضًا، لكن الملامح الأساسية في الحوار الذي دار بينه وبين عبد الله، ربما يوحي لنا بما ترمز إليه شخصيته في الحكاية. يُجري الشيخ مروان عبد النبي حوارًا مع عبد الله بادئًا بالكلام عن الزوجة بهدف الصلح، ليصل إلى جوهر المشكلة، ألا وهو «الشك».

يقول عبد الله، بعدما أخبره الشيخ مروان بأن المشكلة الرئيسية في الشك هي ضَعفُ الإيمان:

- لا ينقصني الإيمان يا شيخ مروان

- ألم تعاشرها خمس سنوات كاملة، بل يزيد؟

- لا يمنع ذلك من وقوع الشر

- حدثني عن قلبك لا عن الوقائع الخارجية

- لا أنكر أني اطمأننت إليها الاطمئنان كله

- ألم يتسلل إليك الشك أبدًا؟

- نعم، لم يتسلل

ثم مستدركًا بعجلة:

- لم يكن لدي وقت للشك

يعتمد الحوار الدائر بين عبد الله والشيخ مروان على أسئلة الثاني، الذي يكشف في أثناء حديثه خلفيته التي تؤمن بأن الشك، لا يكون إلا في ظل وجود إيمان ضعيف، والحل من وجهة نظر الشيخ مروان أن الأزمة الحقيقية أزمة إيمان، أدت إلى أزمة ثقة بين الزوج وزوجته.

لذلك يفند الشيخ مروان ادعاءات الزوج حول خيانة زوجته، متمسكًا بإعادة بناء الثقة، ومعتمدًا على التشكيك في رؤية عبد الله المتَّهِمة بالخيانة، ومخلخلًا باستنتاجات عقله الشكاك. فالحدث في ذاته ليس المهم في نظر الشيخ، وإنما الرؤية الشكاكة التي ينطلق منها عبد الله، أصل المشكلة.

يتأكد استدعاء الخطاب الديني في حديث الشيخ مروان، في أثناء الكلام عن حواس الإنسان ومدى مصداقيتها كأداة من أدوات الحقيقة. إذ يقول عبد الله، بعدما أحس بضعف موقفه أمام منطق الشيخ مروان الإيماني:

- لا يمكن أن نُشكك في حواسنا

فيرد الشيخ مروان:

- حواسنا؟ عليها اللعنة تلك المرايا المشوهة التي لم تُخلق إلا لنشهد بكذبها بصدق حدس القلب

- ولكننا نحيا بها يا شيخ مروان

- نحن لا نحيا حقًّا حتى يمتلئ قلبنا بالإيمان

في النهاية، يعود عبد الله إلى رشده، ويعيد زوجته إلى البيت، ويتردد على الزاوية مستمعًا لدرس العصر مع الشيخ مروان. يمر عام كامل في الهناء والسعادة، وينجب طفلًا يسميه مروان، على اسم الشيخ.

حتى يعاوده الشك مرة أخرى، والذي يبدأ في أثناء أحاديث متفرقة مع شيخ الحارة، ليظهر بقوة. هذه المرة يشكك في أخلاق الشيخ مروان نفسه، متهمًا اياه بالانتهازية والجشع ومتابعة نساء الحارة بعينين فاسقتين، ويتهمه أيضًا بالفجور الذي يطال زوجته كالمرة السابقة، مرسًلا خلفها الطلاق الثاني.

يعود إلى الوحدة والحزن، قانعًا براحة اليأس.

العقل

يتدخل تلك المرة أستاذ يدعى عنتر، شخصية من دون تاريخ أيضًا، لكنها تكتسب من خلال الحديث عن الفلسفة موقفًا يساعدنا في فهم رمزيتها. يبدأ حديثه عن تجاوز الوحدة والحزن بالعقل كأداة من أدوات المعرفة، وعن الثقافة كأداة مهمة للوقاية من الشك الذي يُولِّد الحزن.

الأستاذ عنتر على عكس الشيخ مروان، يؤمن بأن العقل الأداة الأهم في تفنيد الشك والوصول إلى الحقيقة، بينما يتفق على أن الحواس مخادعة، وتعطي نتائج مزيفة في الغالب. يبدأ حديثه مع عبد الله عن بحث في المعنى، وكيف يمكن فهم المواقف بشكل موضوعي عقلاني.

يقول عبد الله:

لقد رأيت بعيني وسمعت بأذني

- لا تباه بأدوات الخطأ

ندت عن عبد الله ضحكة جافة وقال:

- سمعت مثل ذلك من قبل، الوغد قاله

- حقًّا؟

- لعن الحواس وأشاد بالقلب

- وإني أيضًا ألعنها، ولكن لحساب العقل

يستدعي الأستاذ عنتر البرهان العقلي في محاورته عبد الله، ليبرئ ذمة الشيخ مروان، ويحمي الزواج المهدد للمرة الثانية.

مختلفًا عن الشيخ مروان هذه المرة أيضًا، يتدخل في مناقشة التفاصيل، ويكشف الغطاء عن زيف الحواس التي يتركز عليها اتهام عبد الله، بدلًا من اعتماد الإحساس الوجداني الذي اعتمد عليه الشيخ، وانعدام وجود دليل دامغ يبرر الشك.

هكذا ينتهي الحوار برجوع هنية إلى بيتها، وينعم عبد الله بالسعادة التي يحميها العقل والوجدان والثقافة والإيمان، وتدوم أيام السرور، لتنجب هنية الطفل الثاني، وتسميه باسم عنتر الأستاذ.

الطريق إلى الحقيقة

يُفاجأ عبد الله وزوجته هنية بإلقاء القبض على الشيخ مروان والأستاذ عنتر، على يد شيخ الحارة، باسم المصلحة العامة التي تتهمهما بالإتجار في المخدرات، الأمر الذي ستهتز له الحارة، فتكثر الأحاديث في المقاهي، بين مؤيد واثق في الرجلين، ومشكِك واثق في نزاهة شيخ الحارة وعدله.

هذا الاضطراب يصيب عبد الله، وتراوده الذكريات القديمة، فيخبر زوجته بانعدام الثقة، لتترك البيت للمرة الثالثة، وتعاوده الحيرة بدرجة أشد، بعد أن تخلخلت أرضية السعادة التي بُنيت على ثقته بإيمان الشيخ مروان وثقافة الأستاذ عنتر.

ما يهم عبد الله ليس الحقيقة بقدر الإجابة الشافية والخلاص الشخصي من الشك الذي يهدد زواجه.

يرمز شيخ الحارة في القصة إلى المصلحة العامة، ويدَّعي في خطابه الذي لا يخلو من لغة علمية جافة، ما يظهر في حديثه مع عبد الله:

لا أستطيع الجزم بشيء، إني أعرف على سبيل المثال أن «أ» قابل «ب» في الساعة «د» في المكان «هـ». الواقعة مؤكدة، لكن ماذا تعني عند أهل الاختصاص؟ قد يعقب ذلك القبض على «أ» أو على «ب»، أو على «أ» و«ب» معًا، وقد لا يقع شيء البتة.

- إذا تم القبض، فهذا يعني الإدانة

- كلا...

- لكن كيف؟

- قد يُفرَج عن المقبوض عليه بعد وقت ما، وقد يتضح أن القبض على «أ» و«ب» كان بغرض الإيقاع بثالث مجهول هو «و».

- أي حيرة؟

- هو الطريق إلى الحرية

ما يهم عبد الله ليس الحقيقة بقدر الإجابة الشافية والخلاص الشخصي من الشك الذي يهدد زواجه، والذي اعتمد بدرجة مباشرة على ثقته في الشيخ مروان والأستاذ عنتر، وصدقهما، ومن ثم البراءة. ويجد في حديث شيخ الحارة الذي يتركز على المصلحة العامة، متجنبًا إبداء الرأي في المسائل الشخصية، أمرًا محيرًا، وليس له صدى في نفسه، فضلًا عن تأجيج نيران الشك والحيرة.

هذا الغرض يدفع شيخ الحارة، في نهاية الحكاية، إلى سؤال عبد الله عن مصير زواجه:

فتفكر عبد الله وقتًا، ثم قال:

لئن تكن زوجتي مذنبة بنسبة 50%، فهي بريئة في الوقت نفسه بنسبة 50%

- وإذن؟

- ولأني أحبها أكثر من الدنيا نفسها، ولأنه لا بديل عنها إلا الجنون أو الانتحار، فإنني سأسلم باحتمال البراءة

فابتسم شيخ الحارة ومضى إلى الباب. وتصافحا. ثم سأله وهو يهم بالذهاب:

وهل أنت سعيد؟

فابتسم عبد الله ابتسامة لا تخلو من حزن وقال:

بنسبة لا تقل عن 50%

يصل عبد الله في النهاية إلى مرحلة التعايش مع اللاطمأنينة، والحيرة التي كانت تقوده إلى البحث عن إجابات شافية. لكنه يعجز في النهاية عن الوصول إلى إجابة شافية، وجدها في الماضي مع الشيخ مروان والأستاذ عنتر.

اقرأ أيضًا: في مكتبة نجيب محفوظ: أبواب السحر ومدائن الغرائب

هل وصلنا؟

مرت الانسانية التي جسَّدها عبد الله في الحكاية، على محطات مختلفة للبحث عن السعادة، والابتعاد عن الشك والحيرة. قد يمكن حصرها في ثلاثة محطات: الإيمان والفلسفة ثم إلى المحطة العلمية التي مهدت وصول الانسانية إلى سبل الرفاهية، والانتقال من الشقاء إلى الاستقرار والنعيم، مثل عبد الله.

على الرغم من أن كثيرين تعاملوا مع الشك بالثقة العلمية، وهو حل يبدو أنه لقي نجاحًا كبيرًا على المستوى العام، فإن الأمر لم يكن كذلك في التساؤلات الشخصية ومشكلاتها التي تطاولها قضايا الحقيقة والشك كما في حالة عبد الله.

هذا من الموضوعات التي تناولها نجيب محفوظ بكثرة في أعماله، إذ تمحور عدد من رواياته حول مفهوم الخلاص، وكذلك في كثير من قصصه، ما يجعل قراءة «حارة العشاق» نقدًا للسعادة القائمة كانتصار للمصلحة العامة على الإجابات الذاتية أو الوجدانية، أمرًا ممكنًا.

حاتم محيي الدين