معضلة اندماج المسلمين في أوروبا: مَنْ الجاني ومَنْ الضحية؟
في صيف 2016، على شاطئ نيس الفرنسي، أَجبرت الشرطة سيدة على خلع حجابها، تطبيقًا لقانون سنّته السلطات بشأن منع الحجاب في 15 مدينة، من أجل الحفاظ على علمانية الدولة. تُظهر الصور نظرات عداء في أعين مرتادي الشاطئ، ليست بسبب تصرف رجال الشرطة، بل لارتباط ما ترتديه السيدة «المسلمة» بسلسلة عمليات إرهابية تستنزف بلادهم من آن إلى آخر.
بررت السيدة، التي استجابت لأوامر الشرطة على الفور، بأنها لم تكن تنوي النزول إلى البحر، بل أتت فقط برفقة ابنتها الصغيرة. وأكدت شاهدة عيان أن الحاضرين كانوا يصرخون حينها: «هذه ديارنا، عودوا إلى دياركم».
يتضمن الحادث في طياته مفارقة مهمة، إذ تحتضن القارة الأوروبية ثقافات عدة لتكوِّن علاقات اقتصادية وسياسية في شكل كيان الاتحاد الأوروبي، بل وتشكل الهجرة إليها تنوعًا يُضفي بُعدًا جديدًا، بينما تقف مشكلة اندماج المسلمين في أوروبا محل جدال.
لنناقش الاندماج الأوروبي-الأوروبي أصلًا
بعد الحرب العالمية الثانية التي دمرت أوروبا كلها، أخذت الولايات المتحدة على عاتقها خلال الحرب الباردة إعادة إعمار أوروبا وتوحيدها، من أجل بناء كتلة قوية لأيديولوجية رأسمالية تواجه الاتحاد السوفييتي وأيديولوجيته الشيوعية. وبعد سقوط السوفييت، كانت دول أوروبا الشرقية واضحة في رغبتها ببناء أنظمة على نفس قِيم جيرانها في أوروبا الغربية.
في ذلك الوقت، كانت دول غرب القارة قد قطعت شوطًا طويلًا في اقتصاد السوق المفتوحة والتجارة الحرة، وأسهمت في بناء دول أوروبا الشرقية التي يتعاظم فيها دور الدولة اقتصاديًّا، كي تتمكن من اللحاق برَكبِها وتكوين كيان اقتصادي متناسق.
توحيد العملة في أوروبا (منطقة اليورو) كلّل عملية الاندماج الاقتصادي.
لكن بعدما بدأت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، ظهر التفكك في أوروبا، فانقسمت القارة من جديد إلى دول كبيرة وأخرى صغيرة. بدا ذلك جليًّا حين دفعت ألمانيا فاتورة فشل السياسات المالية اليونانية، التي أدت إلى أزمة اقتصادية ضخمة، لكن تمويل ألمانيا للدول «الصغيرة» لن يستمر طويلًا من أجل عيون «اندماج» خاسر.
قد يعجبك أيضًا: كيف يهدد اليورو وحدة أوروبا؟
قد يكون عجزُ أوروبا عن إدماج المسلمين في مجتمعاتها مشكلةً ترجع إلى الأوروبيين أنفسهم، إذا ثبُت اندماج المسلمين في مجتمعات شبيهة.
في مقاله «مستقبل أوروبا بين التمزق والاندماج»، يبدو مدير معهد التدريب والبحوث في جامعة الأمم المتحدة وأستاذ العلاقات الاقتصادية الدولية والحوكمة في جامعة ماسترخت، «لوك سويت»، متشائمًا بسبب زيادة الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، لأن سياسات الدول أصبحت أكثر انحيازًا إلى مصلحتها المحلية دون النظر إلى المصلحة الإقليمية.
العلاقات الاقتصادية هي الرابط الأقوى بين الشعوب في سبيل تجنب الحروب والصراعات، لكن هذه العلاقات في طريقها إلى الهاوية كما يبدو. ويُشكِّل انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي نموذجًا في التمسك بالمصالح المحلية والحفاظ على الهوية والخصوصية، في مقابل التخلي عن المشاكل الإقليمية «المزعجة». وبالتالي لن تكون الروابط الثقافية ومسائل الهوية أفضل حالًا، حتى بين أبناء القارة الأوروبية.
يؤكد «ديميتري دوبروف»، الصحفي المعني بالشؤون الأوروبية، غياب أي عامل مشترك بين بلغاريا وهولندا على سبيل المثال من أجل إنجاح عملية الاندماج، فلا يمكن مقارنة البلدين على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، أو حتى الجغرافي.
لطالما كانت أوروبا تسوِّق السبب في نجاحها، وتشبِّه نفسها بموسيقى الجاز، فكل صوت له مكان في المقطوعة الموسيقية، حتى إن تعددت الآلات. وعلى ذلك، قد يكون عجزُ أوروبا عن إدماج المسلمين في مجتمعاتها مشكلةً ترجع إلى الأوروبيين أنفسهم، إذا ثبُت اندماج المسلمين في مجتمعات شبيهة.
اندماج المسلمين في المجتمعات الأمريكية
وفقًا لمركز «بيو» للدراسات، يقيم 3.3 مليون مسلم في الولايات المتحدة، أي ما يمثل 1% من سكان أمريكا. ويمثلون أيضًا أكثر الجاليات تعلُّما بعد اليهود، ويعمل 10% منهم كأطباء، وينخرط نحو ستة آلاف مسلم في الجيش الأمريكي.
تقرير «بيو» يشير إلى أن مسلمي الولايات المتحدة مندمجون في المجتمع بشكل مرتفع، ويشعر 80% منهم بالسعادة في حياتهم، في حين يشعر 63% منهم بغياب أي تعارض بين تدينهم والعيش في مجتمع متحضر.
حتى على المستوى الثقافي، يظهر الاندماج واضحًا في معدلات اشتراك المسلمين هناك في الأنشطة اليومية، من ممارسة الرياضة ضمن الفرق المحلية، ومشاهدة البرامج الترفيهية الأمريكية. أما على مستوى الانتماء، فأثبت التقرير أن أكثر من نصف المسلمين في الولايات المتحدة يرفعون العلم الأمريكي في بيوتهم أو مكاتبهم أو سياراتهم.
من مؤشرات الاندماج أيضًا أن 250 من حاملي الجنسية الأمريكية المسلمين فقط التحقوا بما يسمى تنظيم داعش.
يحكي الباحث في مركز «بيو»، «نافيد جمالي»، الأمريكي من أصول باكستانية، عن المعاناة التي يعيشها عمه الذي هاجر إلى ألمانيا وأنجب ولدين هناك قبل التدفق البشري جراء الحرب في سوريا، إذ لا تشعر عائلته بالانتماء لا إلى ألمانيا ولا إلى باكستان. بينما جمالي نشأ في مدينة نيويورك، ولا يشعر سوى بالانتماء إلى الولايات المتحدة، وسينشئ أبناءه على ذلك.
في رأي جمالي، الفارق بين أمريكا وأوروبا أن الأخيرة تُصعِّب عملية الاندماج على المسلمين، مما يشكل أرضًا خصبة لمزيد من «الدواعش الغاضبين».
بسبب الهجرة، وقعت دول أوروبا في صراع بين قِيم تقبُّل الآخرين وهوياتها العِرقية.
إذا كان المسلمون قادرين على الاندماج في المجتمع الأمريكي القريب من المجتمع الأوروبي في أسلوب الحياة والنظام السياسي والاقتصادي، فما سبب فشل أوروبا والمسلمين في الاندماج معًا؟
تختلف نظرة كلٍّ من أوروبا وأمريكا إلى فكرة الهجرة تاريخيًا، فالهجرة أسست وشكلت الولايات المتحدة، أما أوروبا فهي حديثة عهد بتلك الفكرة، التي يرجع تاريخها إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية فقط، حين احتاجت يد العون لإعادة إعمارها.
ساعدت سياسات تعدد الثقافات المُتّبعة في الدول الأوروبية على خلق مجتمعات موازية. على سبيل المثال: الأتراك في ألمانيا الذين هُمِّشوا، فكانت النتيجة انعزال وتقوقع وقلة فرص لتلك الفئة الكبيرة داخل المجتمع الألماني. وهكذا، وَضَعت الهجرة دول أوروبا في صراع بين قِيم تقبُّل الآخر وهوياتها العرقية.
هل اندماج المسلمين في أوروبا مهم حقًّا؟
استقبلت أوروبا المسلمين حين فتحت باب الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية بِنيَّة إعادة الإعمار، لكن الجيلين الثاني والثالث من المسلمين الذين وُلدوا في أوروبا صاروا «أوروبيين». وكما أن الإسلام مكوِّن أساسي للحضارة الأوروبية، فالمسلمون لا يتفقون على تفسير موحد لدينهم، بمعنى أنه لا يمكن التعامل معهم ككيان له صفات محددة.
في دراسة أجرتها وكالة الاتحاد الأوروبي للحقوق الأساسية، يتعرض 47% من الرجال المسلمين للاضطهاد والتمييز، إذ توقفهم الشرطة لمجرد ارتدائهم الزي التقليدي. أما بالنسبة للنساء المحجبات والمنتقبات، فـ40% منهن يتعرضن للعنصرية عند التقدم لوظائف، وأكدت 30% من النساء تعرضهن للتحرش عن طريق حركات وتعليقات مسيئة، ويتعرض 17% من إجمالي المسلمين للتفرقة بسبب المعتقَد الديني.
يقول رئيس الوكالة، «مايكل أوفلاهيرتي»، إن «كل حادث يحمل معنى التمييز والكراهية يُعيق الاحتواء المنشود ويقلل فرص توظيفهم. وإقصاء تلك المجتمعات يؤدي إلى نتائج مؤذية».
مشكلة المسلمين هي الغرب: حضارة مختلفة وشعب مقتنع بعالمية ثقافته، ويعتقد أن قوته المتفوقة لا بد أن تُنشَر في العالم.
خلال حلقة تتناول قضايا اندماج المسلمين في المجتمع الألماني، في برنامج «شباب توك» على قناة «دويتشه فيله»، سردت سيدة من الحضور، وهي طبيبة أسنان، مواقف عن العنصرية التي تعرضت لها، وذكرت تفاصيل موقف تعرضت فيه للتحرش، حتى أن أحدهم خلع عنها النقاب في الشارع، ولم يحرك أحد ساكنًا.
رد عليها موظف بحزب «البديل من أجل ألمانيا» (حزب يميني) بأن المشكلة تكمُن في عدم الثقة في لباس يُخفي معالم الوجه، وأنه لا يريد أن ترتدي النساء في ألمانيا النقاب، لكنه في الوقت ذاته لا يوافق على الاعتداء عليها.
شاركت سيدة مسلمة أخرى لا ترتدي الحجاب ولا النقاب، وسألت ذلك الموظف إن كان اعتراضه على مسألة المظهر أم العقيدة، واستخلصت أن لديه «فوبيا من العِرق العربي» لا أكثر.
في كتابه «صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي»، يشدد «صامويل هنتنغتون» على أن مشكلة الغرب ليست الأصولية الإسلامية بل الإسلام، لأنه حضارة مختلفة وشعب مقتنع بتفوق ثقافته، وهاجسه ضآلة قوته. أما مشكلة المسلمين فهي الغرب: حضارة مختلفة وشعب مقتنع بعالمية ثقافته، ويعتقد أن قوته المتفوقة لا بد أن تُنشَر في العالم.
محمود سعيد موسى