اعترافات اللحم: لماذا يعود فوكو بعد موته بـ30 عامًا؟
مات الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» تاركًا وراءه عددًا من الأعمال غير المكتملة. لكن منذ أيام قليلة ماضية، صدر جزء رابع من آخر أعماله «تاريخ الجنسانية»، بعد 34 عامًا من وفاته.
الفيلسوف الفرنسي الآخر «رولان بارت» نادى في عام 1968 بضرورة «موت المؤلف» كتعبير مجازي عن المسافة التي يجب أن يبعدها المؤلف عن كتبه بعد نشرها، لكنه لم يقصد نسيان المؤلف ولا التقليل من شأنه، بل اعتبرها خطوة نحو تحرير النص من سُلطة المؤلف.
إلا أن بارت لم يخبرنا عمّا يجب أن نفعله عندما يموت الكاتب تاركًا أعمالًا غير مكتملة لم تخرج إلى النور بعد: هل نتركها مختبئة داخل الأرفف؟ هل نشر أعمال لم يوافق أصحابها على نشرها في أثناء حياتهم عمل غير أخلاقي؟
ماذا ترك لنا فوكو؟
أعلنت دار «غاليمار» نشر الجزء الرابع غير المكتمل «اعترافات اللحم» من سلسلة كتب «تاريخ الجنسانية»، التي نُشر آخر جزء منها عام 1984، وهو العام نفسه الذي أصيب فيه فوكو بالإيدز، ومات به في يونيو من نفس العام.
بدأ فوكو حياته الأكاديمية باحثًا ينتقد السلطة في الدولة البرجوازية الحديثة، ويسعى إلى معرفة كيفية عمل تلك السلطة وتفكيكها بعدسات ماركسية، ولم يكن من الأكاديميين الذين ينتقدون السلطة من داخل المكتبات والغُرف الجامعية، بل كان ناشطًا ثوريًّا كذلك، معروفًا بين الثوار في باريس.
في صيف 1953، قرأ فوكو كتاب «Untimely Meditations» لفريدريك نيتشه، الذي يتضمن فصلًا بعنوان «On the Use and Abuse of History for Life»، ويتناول فيه نيتشه استخدام الأكاديميين للتاريخ في معرفة ما كان يحدث في الماضي فقط، بدلًا من تحليله واستخراج أفكار وأمثلة يمكننا من خلالها معرفة ما يجري في الحاضر.
فوكو: فيلسوف القوة والسلطة
بدايةً من هنا، اتجه فوكو إلى دراسة التاريخ، فكتب في عام 1961 كتاب «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، بحث فيه الطُرق التي تعاملت بها الدولة مع المرضى النفسيين على مدار التاريخ، فطبّق أفكاره عن تفكيك السلطة التي تُمارَس على المرضى النفسيين على مدار التاريخ.
ثم انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن تاريخ عقاب السلطة للمواطنين على مر التاريخ، وفكرة السجون في الدولة الحديثة، وذلك في كتاب «المراقبة والمعاقبة» عام 1975. وكان عمل فوكو الأخير ثلاثة مجلدات عن «تاريخ الجنسانية»، بدأ فيه عام 1976 حتى توفي.
تناول فوكو في كتاب «تاريخ الجنسانية» التوجهات الطبية في فهم الجنس، ورأى أننا مع بدايات القرن الثامن عشر، دخلنا عصر «علموية الجنس»، أي وضع الجنس على طاولة البحث العلمي.
نظر فوكو بحنين إلى الثقافات القديمة في الصين واليابان وروما، حيث التركيز على زيادة المتعة الجنسية بدلًا من تصنيفها وتشريحها طبيًّا كما يحدث الآن، الأمر الذي أدى إلى فقدان العفوية، وحصر تصورات البشر عن الجنس في ما أُنتِج من أبحاث علمية.
ركز في الحديث عن الجنسانية على فهم تشكيل السلوكيات الجنسانية في المجتمعات الغربية الحديثة، إذ نظر إليها كتجربة فريدة تاريخيًّا تبحث في جينيالوجيا الذات الراغبة، والعودة إلى بدايات التقاليد المسيحية والفلسفة اليونانية القديمة أيضًا، وكان يصطدم بسؤال «لماذا يُشكِّل السلوك الجنسي والأنشطة الممتعة المتعلقة به انشغالًا أخلاقيًّا؟».
ما دامت مخطوطات فوكو في يد أكاديميين، فإن نشرها سيمكِّنهم الاستعانة بها واستخدامها على نطاق أوسع.
بدأ فوكو دراسة جينيالوجيا الرغبة الإنسانية منذ العهد اليوناني الكلاسيكي حتى القرون الأولى المسيحية، ووزعها على ثلاثة أجزاء، بدأت بالتمهيد للفكرة في كتاب «إرادة المعرفة»، ثم انتقل إلى «استعمال المتع» في الفكر اليوناني الكلاسيكي، والتأثيرات التي حلت به عن طريق الفكر الطبي والفلسفي، والذي صاغ بخصوصه أربعة محاور للتجربة:
- العلاقة بالجسد
- العلاقة بالزوجة
- العلاقة بالغلمان
- العلاقة بالحقيقة
ثم انتقل إلى «الانشغال بالذات»، وحلل فيه بعض النصوص اليونانية واللاتينية التي تعود إلى القرنين الأولين من العهد المسيحي.
ثم أخيرًا كتب مسودات بخط يده للجزء الرابع، وهو «اعترافات اللحم»، عالج فيه تجربة الشهوة الجسدية في القرون الأولى المسيحية، ورفض أن يُنشر أي أعمال له بعد وفاته.
قررت أسرة فوكو نشر كتاب «اعترافات اللحم» بعد التفكير في بيع أرشيف الفيلسوف الكبير عام 2013، الذي يتضمن مخطوطات بخط يده، وبعض المخطوطات التي سيتولى تصحيحها الباحثون في المكتبة الوطنية الفرنسية، ولذلك قرر وريث فوكو «دانيال ديفيرت» أنه ما دامت تلك المخطوطات في يد أكاديميين، فإن نشرها سيمكِّنهم الاستعانة بها واستخدامها على نطاق أوسع
يقول «هنري بول»، ابن أخ فوكو، إن هناك ثلاث مخطوطات مكتوبة بخط يد الفيلسوف الفرنسي، بعضها غير كامل وبه بعض الأخطاء في الكتابة، لكن يمكن مقاربة تلك المخطوطات بكتابات فوكو السابقة وإعادة صياغتها لإصدار الكتاب.
يرى «فريدريك غروس»، محرر أعمال فوكو، أنه «بعد صعود حركة MeToo# المناهضة للتحرش الجنسي، أصبحت المرحلة الحالية مناسبة لنشر هذا العمل الأصيل والكبير».
لكن ما أهمية هذا الكتاب في الأوضاع الاجتماعية الحالية؟
فوكو يواكب التوترات الاجتماعية الحالية
منذ بداية الألفية، وهنالك اتجاه متواتر في الأبحاث حول حقلَي الجندر، أو الدراسات الجنسانية، والجنس من حيث الجوانب الاجتماعية والبيولوجية، وزادت الحركات النسوية المناهضة للممارسات المجتمعية ضد الإناث في العالم.
في عام 2017، أثيرت قضية التحرش بعنف، وانتشرت الحركات المناهضة للتحرش الجنسي في كثير من البلدان، وانتقل الحديث إلى الوسط الفني، إذ فاز فيلم «Spotlight» بجائزة أوسكار أفضل سيناريو، وهو الفيلم الذي يتحدث عن تحقيق صحفي يفضح الاعتداءات الجنسية التي تورط فيها رهبان الكنيسة الكاثوليكية، وكان للفيلم صدى في الأوساط الفنية والثقافية.
العالَم الرئيسي في هذه الموضوعات هو «جسد الإنسان» بوصفة مساحة سيطرة وعلاقة معقدة، وهو المبحث الذي يطرح نفسه الآن بقوة على الساحة الفكرية، بعدما كان مغيبًا تمامًا ومهمشًا من دوره في تشكيل سلوكيات البشر وتفاعلهم مع بعضهم بعضًا.
كانت كتابات فوكو عن الجنس والجنون والموت والسلطة والمراقبة والعقاب والسجن، إلخ، تصب في منحى علم اجتماع الجسد، فبنية الفرد الاجتماعي المكونة من روح وجسد خاضعة للبِنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية، التي تخضع لسلطة السياسة أو الدين أو كليهما.
يُعد كتاب «اعترافات الجسد» داعمًا لدائرة البحث التي تحتاج الآن، أكثر من أي وقت مضى، إلى نظرة فوكو، التي تُرجِع الأشياء إلى ضرورة تفكيك علاقات القوة.
وفقًا لـ«ستيوارت إلدين»، أستاذ العلوم السياسية في جامعة وارويك الإنجليزية، فإن الكتاب الجديد ينقسم إلى ثلاثة أجزاء أساسية: يناقش الجزء الأول مفهوم «أفروديت» التابع للثقافة اليونانية القديمة، ويُشتَق اسمه من إلهة الحب والشهوة، التي تعبِّر عن المتعة أما الجزءان الثاني والثالث فيتناولان فكرة العذرية والزواج في المسيحية.
يوضح إلدين أن «هذا الكتاب سيكون مفتاحًا لسلسلة الجنسانية»، وأهميته تأتي من أفكار فوكو التي تتناول الحياة بجوانبها التاريخية والواقعية، ومناقشته أفكارًا سبق وناقشها في سلسلة كتبه السابقة، مثل الطب النفسي والسجون والمراقبة والحياة الجنسية، والتي لا تزال مُلحّة إلى اليوم.
كان فوكو على الطرف النقيض والمضاد من نيتشه، ينتظر فرصة سانحة ليعلن بدوره موت الإنسان أمام السلطة، وليس العكس.
يشغل موضوع الجسد حيزًا كبيرًا في عصر ما بعد الحداثة الذي نعيش فيه، لِما يواجهه الجسد من تحديات عدة، مثل الميول الجنسية المتغيرة وقضايا المثلية، وكذلك الاهتمام المتزايد بقضايا الاغتصاب والتحرش والاعتداء الجنسي، إضافةً إلى التطور الطبي الذي نال الأرحام واستأجرها ولقّحها صناعيًّا.
كل تلك القضايا تُلقي بظلالها على البنية الاجتماعية، وتُحدِث تغييرات مستمرة في علاقة الجسد بالمجتمع، والجسد بالسياسة، والجسد بالثقافة، والجسد بالنفس البشرية، وغير ذلك.
تقديم فوكو للجسد يُعد منظورًا مغايرًا في الوقت الذي كانت فيه الأنظار موجهة أكثر إلى الروح. فمثلما أعلن نيتشه موت الإله في كتابه «هكذا تكلم زرادشت»، الذي فتح الباب على مصراعيه للوجوديين، كان فوكو على الطرف النقيض والمضاد ينتظر فرصة سانحة ليعلن بدوره موت الإنسان أمام السلطة، وهو ما لا يفسر فقط طغيان البنية السلطوية على الذات، وتماهي الإنسان أمام هذه البنية الطاغية التي تصنع وجوده (وهي القوة المؤثرة على أفعاله وسلوكياته)، بل تفسر أيضًا خضوع الجسد كبناء سيكولوجي وبيولوجي لسيطرة البِنى وممارساتها عليه.
تطرُّق فوكو في الكتاب الأخير إلى جسد الإنسان في المسيحية ربما يفتح الباب لرؤية موت الإنسان على يد كهنة ورهبان الكنيسة الكاثوليكية، ويفتح نافذة جديدة للبحث عن علاقة الأديان بالجسد والسلطة الواقعة عليه.
إسلام كرّار