«#أنا_أيضًا» والشمولية الجديدة: النسوية المعاصرة على طريق القدس
بات من الواضح أن الجدل الذي أطلقته حملة «MeToo#» يتجاوز قضايا النسوية بحد ذاتها، ليطرح أسئلة أكبر عن طبيعة العالم المعاصر وأهم الأيديولوجيات والقوى التي تعيد صياغته، والتي تثير بشكل طبيعي ردات فعل متفاوتة من قطاعات وشرائح اجتماعية متنوعة.
هذا المقال لن ينتقد الحملة بحد ذاتها، فقد كُتِبَ الكثير في هذا الصدد، وباتت مختلف الحجج ووجهات النظر واضحة لمعظم المتابعين. ولكنه سيعمل على رصد اتجاه متصاعد في أدبيات مؤيدي الحملة، يتحدث عن «تغيير تاريخي» لا سبيل إلى إيقافه، لن يؤدي إلى تحول في المؤسسات أو الحيز العام فقط، بل إلى تغيير في أساليب التفكير والسلوك الفردي أيضًا، بما يوصلنا إلى «عالم أفضل».
على المعسكر الآخر، صار من الشائع اتهام أنصار هذه الحملة و«الصوابية السياسية» عمومًا باتباع نهج «ما بعد حداثي» في مواجهة الأشكال المستقرة للقانون والعقلانية المؤسساتية. لكن ما هو مكان سرديات «التقدم التاريخي» حقًّا في الأدبيات التي تُنسَب عادة إلى «ما بعد الحداثة»؟
إلى الأمام، لا رجوع
في عمود لها في موقع «Spiegel Online» بعنوان «صراخ الرجال»، تتحدث الكاتبة الألمانية السويسرية «زيبيلي بيرغ» عن رد الفعل الذي أثارته الحملة في أوساط بعض الرجال غير القادرين على فهم التحول التاريخي الكبير الذي يشهده المجتمع، فهذه الحملة جزء من سياق تاريخي أكبر يقلب علاقات القوة القديمة التي كانت لمصلحة الرجال البيض المغايرين، وهو تحول لا يمكن إيقافه، ومن أعراضه الجانبية «صراخ الرجال» هذا.
تقول بيرغ: «لا سبيل إلى عودة ذلك الوضع المريح لجزء واحد فقط من المجتمع، العصر الحجري أيضًا لم يستطع أن يحافظ على نفسه. في وقت ما سيسود الذكاء بين النوع البشري، ويتجسد في القدرة على إدراك أن المجتمع المتساوي هو، بكل المنظورات، الوضع المريح للجميع».
يمكننا أن نجد وجهة نظر مشابهة في مقال للأستاذة لمى أبو عودة على موقع «الجمهورية»، تقول فيه: «إنهم الشباب والشابات القادمات من عالم المتع الجنسية، من يتحدثن عن الإجحاف والعنف الذي يلحق بالبالغين في هذا العالم، وهم من يصرخن: انتهى ذلك الزمن. من الأفضل للكبار اليوم أن يصغوا لما يقوله الشباب كي لا يبدوا سخفاء، وفي الوقت نفسه عليهم أن يودِّعوا النظام الجنسي القديم وخطاباته التحررية التي شبُّوا عليها».
كلا المثالين، على اختلاف سياقيهما، يستنبط نوعًا من الوعي بتقدم تاريخي خطِّي يزيح فيه الجديد القديم نحو ما هو أذكى أو أكثر عدالة أو أشد شبابًا ونضارة، إنه صوت قاطرة التاريخ التي لا يمكن إيقافها.
قد يبدو من المثير للانتباه أنه ما يزال لمثل هذه التصورات مكان محوري في «ليبرالية» مطلع القرن الحادي والعشرين، بعد التجارب المريرة للقرن العشرين ونزعته التاريخانية المنتشية. يمكننا في هذا السياق أن نتذكر «عصر الفضاء» في الستينيات ونهاية الخمسينيات، إذ عمّ نوع من التفاؤل التاريخي بالتقدم الإنساني وقدرته على تحطيم كل الحدود، وانتشرت نكتة شهيرة عن بابا الفاتيكان الذي قال لرائد الفضاء السوفييتي «يوري غاغارين» في لقاء متخيل: «أعرف أنك لم تجد الله عندما صعدت إلى الفضاء، لكن أرجوك لا تقل هذا لأحد كي لا تكون نهاية المسيحية».
هذا التفاؤل الذي كان له ما يدعمه حقًّا انكسر بشدة منذ منتصف السبعينيات، وبدلًا من الصورة المتخيلة للبابا الخائف أمام رواد الفضاء، صُدِمَ العالم بالصورة الواقعية للحَبر الأعظم الذي يقتحم المعسكر الاشتراكي في عقر داره، مُدَشنًا ما يسمى «عودة الدين». التفاؤل بالتقدم الخطي التاريخي انتهى بصعود الهويات الدينية بعد عقد واحد فقط من الزمان، وعودة كل ما كان يعتبر رجعيًّا ومتخلفًا. ومن وقتها صار كثير من المثقفين أكثر حذرًا في تعاطيهم مفهوم التاريخ ودراسة تغيراته.
يستلزم الإيمان بالتطور الخطي للتاريخ نحو وجهة معينة، أو بعبارة أخرى «التاريخانية»، وجود منظور متكامل عن التاريخ الإنساني بوصفه حكاية ذات مغزى ينتقل فيها البشر بفضل إرادة معينة، سواء كانت إرادة الله أو العقل أو التاريخ نفسه، من مرحلة إلى أخرى، عادةً ما تكون أكثر سموًّا ورقيًّا، وفي فترة من الفترات يكون هذا الانتقال الدرامي في سيرورة التاريخ حتميًّا، ولا يمكن رده أو إرجاعه إلى الوراء.
«تاريخ الخلاص» المسيحي (Heilsgeschichte) هو نموذج التاريخانية الأصلي: تاريخ البشرية ما هو إلا أحداث ممهدة لخلاص البشرية من خطيئتها الأصلية عن طريق صلب المسيح، وبعثه مجددًا، وإيمان البشر به، وما يكابدونه في سبيل هذا الإيمان.
مع بروز سياسات الهوية التي من المفترض أنها قائمة على أصول فلسفية ما بعد حداثية وما بعد بنيوية، صارت «الحكايات الصغرى» هي السردية الكبرى الجديدة.
بعد ذلك أنتجت المثالية الألمانية نماذجها الفلسفية للتاريخ الخلاصي. وجاءت بعض قراءات الماركسية لتحاول إنتاج المفهوم «العلمي» و«المادي» لعقيدة الخلاص، إذ اليوتوبيا الشيوعية تأتي في ذروة مسيرة التاريخ بوصفها مُكافِئًا للنعيم المسيحي. بالطبع لم تكن اليوتوبيا المنتَج المتوقع الوحيد لتاريخ الخلاص، فإذا سارت الأمور بشكل خاطئ لسبب ما، يمكن أن تحل الدستوبيا بواقعها المخيف. وقد تجسد هذا في المقولة الماركسية الشهيرة: «الاشتراكية أو البربرية».
لعبت فلسفات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية دورًا كبيرًا في تفكيك عقيدة الخلاص بشكلها الحديث، فقد شكك الفيلسوف الفرنسي «جان فرانسوا ليوتار» في كتابه «الوضع ما بعد الحداثي» في السرديات الكبرى ذات الطابع الخلاصي، ورأى أن عدم قدرتها على بناء المشروعية في فضاء لغوي ومعرفي أكثر تشتتًّا، هو ما يطبع حال ما بعد الحداثة، وحاول بدلًا من ذلك التركيز على السرديات الصغرى، أي خطابات المهمشين والمستبعدين والمتمردين الذين لا يسردون حكاية تاريخية متكاملة بقدر ما ينغمسون في شؤونهم الصغيرة التي كان يحتقرها العقل السائد.
اليوم، ومع بروز سياسات الهوية التي من المفترض أنها قائمة على أصول فلسفية ما بعد حداثية وما بعد بنيوية، صارت «الحكايات الصغرى» هي السردية الكبرى الجديدة. الأغرب أننا بدأنا نرصد ميلًا إلى التاريخ الخلاصي في خطابها: نحن نعيش في عصر تنتصر فيه الأقليات والهويات المعرضة «للتهميش»، وتتقدم نحو عالمها الخالي من «التمييز»، بعد عصور من تَحَكُّم الرجل الأبيض والكولونيالية والمركزية الغربية التي يمكن أن نضعها مكان «الخطيئة الأصلية»، وذلك بالطبع سيكون له أثمانه، ومنها «صراخ الرجال».
النسوية على طريق القدس
مسيرة التاريخ الخَطِّية لها دائمًا آثارها الجانبية، فما دمنا نعرف الوِجهة العامة للتاريخ، ونتصرف على أساسها للوصول إلى الهدف الأسمى، فسنضطر بالتأكيد إلى التضحية ببعض الحقوق والحريات، وإلى فرض تسلط «منتج» يمكِّننا من الوصول إلى ما نطمح إليه.
كتب الصحفي المصري شادي لويس بطرس مقالًا ينتقد فيه آراء الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك» عن حملة MeToo#، جاء فيه: «بالطبع تمتلك حملة مناهضة التحرش، والصوابية السياسية إجمالًا، إمكانات قمعية. لكن تلك الجوانب القمعية تظل عَرَضًا جانبيًّا لمحاولات الضبط، ولا يمكن استئصالها بالكامل. فتاريخ بشري طويل ومستمر من معاناة النساء وانتهاكهن بصور متعددة، من بينها الانتهاك الجنسي، كفيلٌ بأن يدفعنا إلى التضحية ببعض من النشوة الذكورية».
القمع إذًا مجرد أعراض جانبية يمكن اعتبارها ثمنًا زهيدًا على طريق الهدف الكبير. أسلوب التفكير هذا ليس غريبًا جدًّا بالمناسبة. في سوريا مثلًا، يوجد فرع مخابرات شهير قُتِل فيه كثير من المعارضين تحت التعذيب اسمه «فرع فلسطين»، فقمع النظام السوري طالما بُرِّرَ بوصفه أعراضًا جانبية للهدف الكبير «لا يمكن استئصالها»: تحرير فلسطين، وبعث الأمة العربية بعد «تاريخ طويل» من إذلالها على يد الاستعمار والصهيونية.
حزب الله اللبناني برّر تدخله في الحرب السورية بأن بوصلته لتحرير القدس تدفعه إلى القتال في المدن والقرى السورية، أما الأطفال القتلى فهم على ما يبدو «أعراض جانبية»، أو مسار جانبي على طريق القدس الطويل.
بالطبع لا تدفع حملة MeToo# نحو القتل والتعذيب، إلا أنه لا توجد جهة في التاريخ الحديث حاولت فرض نظام شمولي إلا واستخدمت لغة مشابهة لتبرير قمعها، فمحاولة فرض نمط من الممارسة الجنسية «الصحيحة»، وجعل العلاقات تحت رقابة الدولة والمجتمع، أي ما يسميه بطرس «التضحية بالنشوة» التي يصفها بـ«الذكورية»، تُقدّم بوصفها مجرد ثمن لا بد من دفعه في سبيل تمكين التاريخ من التقدم نحو غايته المنشودة.
ستجد حججًا كهذه في العصر الستاليني في روسيا، وأيام «القفزة الكبرى إلى الأمام» و«الثورة الثقافية» في الصين، وكذلك المكارثية في أمريكا.
لكن الغريب أن بطرس لا يستشهد في نصه بستالين أو «ماو تسي تونغ»، بل بـ«ميشيل فوكو»: «ما يغيب عن جيجك هنا عمدًا هو الطبيعة المنتِجة للسلطة وقيودها، ففي التحليل العميق لعلاقات القوى ومواقعها التي مهدت لها أفكار فوكو، لا يقتصر الأمر فقط على تبيان الجانب القمعي من ممارسات السلطة، بل يمتد إلى جوانبها المُنتَجَة».
«لا تقع في غرام السلطة»: إنها واحدة من أشهر وصايا فوكو، بل لعلها وصيته الوحيدة.
هذه ظاهرة تَطبع كثيرًا من كتابات مؤيدي سياسات الهوية هذه الأيام، وهو استعمال مقولات تُصّنف عادة بأنها «نقدية» تجاه الهوية والتاريخانية لدعم أفكار هوياتية وتاريخانية، وسنعود إلى الحديث عن هذه الظاهرة لاحقًا.
السلطة الحديثة، بحسب ميشيل فوكو، لا تعمل فقط من خلال أجهزتها القمعية، بل من خلال دورها في إنتاج الذوات، بوصفها سياسة حيوية (Biopolitics)، وقد انصب اهتمام فوكو على تتبع آليات السلطة الحيوية في المجتمع الحديث. بهذا المعنى، يمكن أن نستخدم آليات السلطة الحيوية للوصول إلى هدفنا التاريخي من خلال الخلق السلطوي لذوات جديدة تتفق مع السياسة «الصحيحة».
فكرة معقولة من منظور تاريخاني وشمولي، وإن كانت تحول فوكو النقدي إلى مفكر سلطوي. «لا تقع في غرام السلطة»: إنها واحدة من أشهر وصايا فوكو، بل لعلها وصيته الوحيدة.
أمُّنا الحكومة
بما أننا نتحدث عن «السلطة المنتجة»، فمن المفيد الاطلاع على تبريرات الحكومة السويدية لفرضها قانون «نعم تعني نعم»، الذي يرى أي ممارسة جنسية اغتصابًا إذا لم تُعطَ موافقة لفظية أو إيمائية صريحة على الفعل الجنسي، ويبتكر تهمة جديدة هي: «الاغتصاب بالإهمال»، أي أن الاغتصاب، الذي من المفترض أنه فعل عدواني متحفز، صار من الممكن أن يقع نتيجة الإهمال.
بغض النظر عن كل انتقاد ممكن لهذا القانون، فقد نتجت بسببه صعوبات قانونية، إضافة إلى التشكيك في جدواه. فإذا كانت الحكومة تدّعي أن القانون سيُبقي على احترام قرينة البراءة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، فكيف يمكن إثبات الموافقة بـ«نعم» على الفعل الجنسي؟ وخصوصًا أنه يحدث على الأغلب في الحيز الخاص، ودون وجود شهود.
إجابة رئيس الحكومة السويدية «شتيفان لوفين» ركزت على «المعنى البيداغوجي» (التعليمي) للقانون في تصويب الممارسات الجنسية، وتحديد معنى الطوعية في الجنس. فللقوانين عنده أهمية في التأثير في القيم والمواقف الاجتماعية. القانون السويدي إذًا ذو قيمة تربوية قبل كل شيء.
لا يخفى على كثيرين أن مكتبات الدول الاشتراكية القديمة كانت تعج بكتب تتحدث عن «تربية الجماهير» و«التثقيف الحزبي» للشعب. وهو ما عُد من أهم مسؤوليات الدولة العقائدية الاشتراكية. حكومة الحُمر والخضر (ائتلاف الأقلية المكون من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر) في السويد اليوم، والتي من المفترض أنها المثال الأبرز على الليبرالية المعاصرة في عهد ما بعد سقوط جدار برلين، ترى أن من أولى مهماتها تثقيف الشعب، وتغيير المواقف الاجتماعية بما يتفق مع «قيم النسوية»، وترى ذلك من صميم واجباتها كدولة اجتماعية (Sozialstaat).
الدولة إذًا صارت بشكل معلن غير محايدة أيديولوجيًّا، وتعمل على أيديولوجيتها بشكل تبشيري، وتربط هذا بدورها الاجتماعي بوصفها دولة توفر التأمين الاجتماعي لموطنيها. الحكومة السويدية أجمل هدية ممكنة لليبيرتاريين المعادين للنزعة الاجتماعية، وتؤكد للأسف نقدهم المبالغ فيه لدولة الرفاه ومخاطرها المتخيلة.
تدخُّل الدولة (والمؤسسات والإعلام وحشود مواقع التواصل) في تفاصيل الحياة الحميمية للأفراد، ودخولها إلى غرف نومهم، وعملها على صياغة قيمهم ومواقفهم حتى في ما يتعلق بتفاصيل رغباتهم الفردية وطرق تواصلهم والتعبير عن رغباتهم وقبولهم ورفضهم، لا يقتصر على القانون السويدي، بل هو توجه عام في حملة MeToo#.
النساء طبعًا هن الفئة الأكثر تعرضًا لسياسة «الطفلنة»، فهن دائمًا ضحايا وعاجزات، وغير قادرات على قول «لا».
فبعد أن أكد أنصارها طويلًا أنها لا تتعلق بالجنس، بل بالسلطة، جاءت حادثة الكوميدي الأمريكي عزيز أنصاري ليتضح معها أن الأمر لا يتعلق برقابة الجنس فحسب، بل بتحديد قالب «الممارسة الصحيحة»، لدرجة أن بعضهم تحدث عن «الجنس الأخلاقي». أما تهمة أنصاري فلم تكن التحرش أو الاغتصاب، بل على ما يبدو «سوء السلوك الجنسي».
يستعمل الفيلسوف النمساوي «روبرت بفالر» مصطلح «Infantilisierung» لوصف أسلوب تعامل الصوابية السياسية (البوليتيكال كوركتنس) مع الأفراد في المجتمع، وهو يعني حرفيًّا تحويل الناس إلى أطفال، أو سحب الأهلية منهم، واعتبارهم غير مؤهلين لمواجهة ظروف الحياة، ولا بد دومًا من حمايتهم وفرض الوصاية عليهم عن طريق مراقبة اللغة والفنون وأساليب السلوك.
النساء طبعًا هن الفئة الأكثر تعرضًا لسياسة «الطفلنة» هذه، فهن دائمًا ضحايا وعاجزات، وغير قادرات على قول «لا»، بل إنهن هشات لدرجة أنهن لا يعرفن أنهن تعرضن للاعتداء إلا بعد أسابيع. وأحيانًا بعد سنوات. المصادفة الطريفة أن مستشارة الأمن القومي الأمريكي السابقة «كوندوليزا رايز» استعملت الصيغة الإنجليزية للمصطلح في نقدها الحذر لحملة MeToo#، إذ قالت: «دعونا لا نحول النساء إلى أطفال» (Let's not infantilize women).
«مونيكا فروميل»، أستاذة الدراسات القانونية وعلم الجريمة في جامعة كيل الألمانية، لاحظت أن القانون السويدي يخالف المادة الثامنة من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية، التي تؤكد حرية الإنسان في تشكيل حياته الخاصة والأسرية، ولذلك ليست بولندا أو المجر الدولتين الوحيدتين اللتين يجب محاسبتهما لانتهاك القوانين الأوروبية، بل ربما السويد أيضًا.
إذا أضفنا إلى كل هذا حال الرقابة الاستباقية التي باتت تفرضها بعض دور النشر على الكتب، وإزالة بعض الأعمال الفنية من التداول بدعوى أن مبدعيها متهمون بالتحرش، بمعنى جعل معيار الأهلية الأخلاقية للفنان أساسيًّا في تلقي العمل الفني، وكذلك محاسبة التراث الإنساني بأثر رجعي، والدعوة إلى إزالة الأعمال الفنية من المتاحف، ومحاولة تحديد ما يجب على النساء أن يرتدين من ملابس، فيمكننا أن نعرف إلى أين تقودنا «السلطة المنتجة» إلى التاريخانية الجديدة.
خطيئة «ما بعد الحداثة»
رأينا مما سبق أن التطورات في الحركة النسوية المعاصرة وسياسات الهوية عمومًا تحمل سَمتًا شموليًّا تاريخانيًّا، يجعلها أقرب إلى الحركات الشيوعية القديمة من حيث المنظور العام، فلماذا ينسبها كثيرون عادةً إلى تيارات ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، وتُربَط بأسماء «دريدا» و«ليوتار» و«بورديار»، بل وحتى ميشيل فوكو؟
مطالبات حذف قرينة البراءة في قضايا التحرش والاغتصاب تجعل الحقيقة مرتبطة بجنس قائلها، فالضحية المؤنثة صادقة دومًا لمجرد أنها أنثى.
الإجابة الأقرب أن سياسات الهوية تؤمن بنسبية الحقيقة وسياقيتها، وترفض وجود مبادئ وحقوق كونية، وتربط المعرفة بالسلطة، وتجعلها مجرد «خطاب».
اتضح هذا بشكل خاص من الناحية القانونية مع حملة MeToo#، إذ يمكننا أن نجد في الخطابات النسوية الأكثر تطرفًا ميلًا إلى جعل تعريف واقعة التحرش والاغتصاب يتم بمعايير ذاتية، ترتبط بجنس قائله. فما تعتبره المدعية اغتصابًا، أيًّا كان شكله وظروفه، هو بكل بساطة اغتصاب، في تناقض قانوني ومنطقي فاضح: فالتعريف الذاتي الأحادي غير المحدد بمعايير موضوعية خارجية للفعل يجب أن يولِّد رد فعل موضوعي جماعي محدد من خلال العقوبة، سواء جاءت عبر المحاكم أو من خلال التشهير والنبذ الاجتماعي.
إلا أن هذه الإجابة وحدها لا تكفي، فأدبيات «النظرية»، وبخاصة أعمال المفكرين الفرنسيين المتأثرين بالمنهج البنيوي وما بعده، أكثر غِنًى من اختصارها بهذه الناحية، إضافة إلى أنها بصيغتها الأصلية لا تخدم كثيرًا سياسات الهوية، لأنها أساسًا قائمة على نقض مبدأ الهوية. فإذا طبقها الهوياتيون على خطاباتهم، سيكتشفون أن «المرأة» و«المسلم» و«الأسود» و«المثلي» هم أيضًا تركيبات مصطَنَعة، وما تجانُسها وجمعيتها المزعومة إلا من فعالية السلطة وثنائياتها الضدية.
لذلك، من الأجدى تفكيك مفهوم «المرأة» من أساسه، بدلًا من المزيد من جوهرته وإلصاق سمات الضحية الأبدية به.
إضافة إلى أن المفكرين الفرنسيين كانوا بعيدين جدًّا عن أن يفرضوا أفكارهم على الآخرين بالقمع والرقابة. يكفي للمرء أن يقرأ بيان «مقدمة لحياة لا فاشية» ليدرك هذا، وهي المقدمة التي كتبها ميشيل فوكو لكتاب «ضد أوديب» لـ«جيل دولوز» و«فيلكس غوتاري»، وانتقد فيها الجو السائد في الجامعات والأوساط الطلابية وحركات اليسار عقب ثورة الشباب عام 1968، حين كان من الصعب أن ينتقد أحد فرويد أو ماركس.
جانب من الإجابة يكمن في تأثير ما يسمى بنظرية التقاطعية (Intersectionality)، التي طورتها المفكرة الأمريكية «كيمبرلي كرينشو»، التي تؤكد في بحثها التأسيسي «رسم خرائط الهوامش: التقاطع، وسياسات الهوية، والعنف ضد النساء الملونات»، أنه إذا كان من الصحيح أن الهويات مبنية اجتماعيًّا بفعل السلطة، فهذا لا ينفي أهميتها السياسية، بل العكس، فعلى الهويات المضطهدة أن تستثمر في سياسات الهوية وتصلِّبها لخوض المعركة الاجتماعية، وأن تزيد من الفرز الهوياتي وتضاعفه، من خلال الأخذ بعين الاعتبار كل الفروقات التي تفرضها تقاطعات الجنس والعرق والميل الجنسي داخل كل هوية عامة. فلا يمكن مواجهة التمييز والدفاع عن الأقليات في حال أنكرت وجود الأقليات التي تود تحريرها. هكذا رأت كرينشو أنها ربطت بين «نظرية ما بعد الحداثة والسياسات المعاصرة».
يمكننا أن نميز بسهولة الطابع الخلاصي لهذه «السياسات المعاصرة»، إذ يحلّ العرق والجنس والميل الجنسي، وكل تقاطعات الهوية على الجسد، محل الطبقة الاجتماعية واستلابها، وتصبح عاملًا محفزًا لدفع قاطرة التاريخ نحو يوتوبيا الخلاص، حيث يعيش الضحايا والأقليات السعيدة. أما ما تستلزمه هذه العملية من قمع و«عوامل جانبية لا يمكن استئصالها»، فليست سوى «ثمن زهيد» لضرورات قلب الهرم الأبوي السلطوي لمصلحة الضحايا الأبديين.
إلا أننا يجب أن لا نبالغ في أهمية النظرية التقاطعية، فعلى الرغم من هيمنتها على أقسام كاملة من الجامعات الأمريكية ومؤسسات «مكافحة التمييز»، ورغم وجود عشرات المنح الأكاديمية التي تُرصَد لدراستها حول العالم، فإنها تبقى محصورة في أوساط بعض الناشطين النخبويين من أكاديميي الطبقة المتوسطة العليا. وإذا كانت قد تمكنت من فرض جو شمولي في الجامعات، فإن تفسير تعميم هذا الجو خارج أسوار الحرم الجامعي يحتاج إلى ما هو أكثر من رصد تطور النصوص والحركات التقاطعية.
سيادة الجو الشمولي الحالي لا يمكن تفسيرها بعامل وحيد أو بفكر معين، بل هي نتيجة تطورات تاريخية وأنماط متعددة من التفكير والممارسة، باتت الشكل الأساسي للضبط الاجتماعي في عصر ما بعد الحرب الباردة، وتقدمت بشدة بفضل العولمة.
إذا كان للشموليات القديمة ما يبررها في سياقها التاريخي، باعتبارها نتيجةً لصراعات اجتماعية عظمى، وفي بعض الأحيان تعبيرًا عن المصالح المتضاربة لكتل اجتماعية هائلة، فإن الشمولية الجديدة عقيدة نخبة ضيقة مستفيدة من واقع العولمة الحالي، وغير مضطرة إلى دفع أي أثمان لفرض تسلطها، وهي بالتأكيد لا تعبِّر عن مصالح الفئات التي تدّعي الدفاع عنها، فهذه الفئات أولًا أشد تنوعًا من أن تتطابق مع التعميمات التنميطية للفرز الهوياتي، مهما يكن «تقاطعيًّا»، وقضاياها ثانيًا مختلفة جدًّا عن المطالب الثقافوية والهوياتية للنخب المترفة.
ما نستطيع تأكيده هو أنه بالإمكان نقد النزعة التاريخانية التي تجعل هذه التطورات قدرًا لا يمكن رده، وفصلًا حتميًّا من التقدم الخطي للتاريخ، وهذا قد يستلزم استعادة بعض الملامح النقدية من فكر ماركس وفوكو، وإرجاعهما إلى أفق الحداثة والتنوير، مهما تكن مآخذنا النقدية عليهما، وأيًّا كانت مسؤوليتهما غير المباشرة في تقديم المنظورات الشمولية.
على الأقل لأن تطبيق مناهجهما على الشموليين الجدد، سواء من حيث وضعهم الطبقي أو تموضعهم ضمن علاقات السلطة أو أساليب هيمنة خطابهم، سيُفضي إلى نتائج لن تسرهم بالتأكيد. تكفي هذه الكلمات من مقدمة فوكو المناهضة للفاشية المذكورة أعلاه لبيان شيء من هذا: «كونك ضد-أوديبي أصبح نمط حياة. كيف يمتنع المرء عن أن يكون فاشيًّا، حتى، وبخاصة، عندما يعتقد في كونه مقاتلًا ثوريًّا؟ (...) تصيُّد لكل أنواع الفاشية، من الأنواع الهائلة التي تحيط بنا وتسحقنا، إلى النوع الصغير، الذي يؤسس الصرامة المستبدة لحياتنا اليومية».
محمد سامي الكيال