عزيزي، كلنا مجانين
حين يصادف الناس طبيبًا نفسيًا في مناسبة اجتماعية ما ينقسمون إلى قسمين: أحدهما يضع فاصلًا بينه وبين الطبيب ويأخذ حذره من الحديث معه، والآخر يجدها فرصة لفتح العديد من الأحاديث ويبدأ بسرد شكاوى واستفسارات عن تشخيصات تخص أفراد العائلة أو زملاء العمل أو أحد المعارف. ويبدو أن الناس يجدون سهولة في الكشف عن معلومات لمن يظنون أنهم قد يكونون بحاجة إلى تدخل نفسي، في حين أنهم يرفضون تقبل فكرة أن يكونوا هم بحاجة إلى هذا التدخل.
يمكننا تفهم هذا الرفض، فرغم أن الإنسان يتوق للحصول على الدعم والفهم والتواصل الإنساني، فإن الوصم يقلقه. يقلقه أن إظهاره لحقيقة نفسه يعرضه للنقد والرفض والحكم عليه. بعض الناس يتوجسون من وصم الجنون، يفكرون أنهم إذا شاركوا دواخلهم مع الطبيب النفسي سيحكم عليهم بالجنون، ويحجزهم في مصحة يحقنونهم فيها الأدوية ويجبرونهم على ارتداء ملابس تقيد حركة الذراعين. هل هذا هو العلاج النفسي؟ وما الذي يحُول بيننا وبين صحة عقلية أفضل؟ هذه المخاوف وصراعات الحياة هي ما يمنعنا من التمتع بصحة عقلية مثالية.
الكثير من الناس، بل السواد الأعظم منهم، قد يفيده تلقي الرعاية النفسية لكن هناك ما يمنعه من ذلك، وهو النظرة للطب النفسي الحديث على أنه خطة لإشباع جوع شركات صناعة الأدوية. يرى كاتب المقال الطبيب النفسي جوزيف بيير أن هذه النظرة هي أكبر تحدٍ يواجه مجال الطب النفسي في الوقت الراهن.
هنالك مسألة مطروحة على طاولة الحوار من داخل القطاع النفسي، وهي: هل يعاني قطاع الطب النفسي من أزمة فرط في التشخيص؟ طُرح هذا السؤال في ما يعد الكتاب المقدس للطب النفسي «مرجع التشخيص والإحصائيات للاضطرابات العقلية: الإصدار الخامس» (Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (DSM-5).
نطاق العلاج النفسي بات يغطي مساحة أوسع مما كان عليه في القرن الماضي. فمنذ مئات السنين كان العلاج النفسي محصورًا داخل أسوار مستشفى المجانين. أما في العصر الحالي فأصبح الأصحاء القلقون من ضمن رواد العلاج النفسي. هذا التطور بدأ مع مطلع ظهور التحليل النفسي وفرويد في القرن العشرين. في العصر الحديث صار الطب النفسي يعالج حالات أقل خطورة، مثل القلق أو الأمراض المرتبطة باضطرابات التكيف الناجمة عن ضغوط الحياة، وقد أظهر العلاج بالكلام أثرًا واضحًا في الصحة النفسية في الولايات المتحدة.
مهدت الأشكال المبكرة للعلاج النفسي الطريق لحركة الصحة العقلية، التي بدأت من عام 1910 واستمرت حتى خمسينيات القرن الماضي. آمنت هذه الحركة بفكرة وجود استعداد بدرجة معينة لحدوث درجة من درجات الاضطراب العقلي لدينا جميعًا، مع رفض فكرة الحدود الصارمة للمرض العقلي. اعتقد رواد الحركة أن الصحة النفسية ليست متعلقة بغرفة الطبيب النفسي فقط، بل موجودة في الشارع والمكتب والمدرسة، والمجتمع بأكمله مسؤول عن الصحة النفسية بتقديم المساعدة والدعم.
عدد مهول من الأعراض العصبية مصدرها الصدمة التي تعرض لها المحاربون القدامى خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي عززت من فكرة أن الصحة والمرض العقليين موجودان كطيف متواصل. بالتزامن مع نشر أول عدد من كتيب سجل الأمراض العقلية والنفسية (DSM) عام 1952، كان المعالجون النفسيون يتعاملون مع شريحة من السكان أكبر بكثير من أي وقت مضى. فمنذ الدليل التشخيصي والإحصائي الأول وحتى أحدث مراجعة، كانت الشمولية والفائدة الإكلينيكية من بين المبادئ التوجيهية، مع اتجاه المهنة نحو التعرف إلى كل الحالات التي تجلب الناس إلى الرعاية النفسية من أجل تيسير التقييم والعلاج.
في عصرنا الحالي صار العلاج النفسي عمليًا وقصير المدى، وابتعد عن التحليل النفسي التقليدي. نضرب مثلًا بالعلاج النفسي الديناميكي، الذي يتعامل مع صراعات عقلنا اللاواعي ومسببات الاضطرابات في فترات تصل إلى معدل من أسبوعي لعدة أشهر، ويهدف إلى العلاج المعرفي باستخدام أساليب سلوكية لمعالجة الانحرافات المدمرة في طرق تفكيرنا. نجحت تقنيات العلاج النفسي المبسطة هذه في توسيع قاعدة المستهلكين المحتملين للتدخل النفسي، كما وسعت نطاق الأطباء الذين يمكنهم إجراء العلاج ليشمل ليس الأطباء النفسيين وحسب، بل أطباء الرعاية الأولية وعلماء النفس والأخصائيين الاجتماعيين واستشاريي الزواج وطبيب الأسرة.
التغيير طال الأدوية أيضًا، فهناك أدوية جديدة بآثار جانبية أقل توصف للحالات الأبسط. يصف هذه الأدوية عدد من العاملين في القطاع الطبي كطبيب العائلة، وفي بعض المناطق يكون بإمكان الأخصائي النفسي وصف الأدوية، وكذلك قسم التمريض.
بالنظر إلى كتيب الطب النفسي نرى أن هذا المجال أصبح كثير التدخل في حياة الناس. هل من المعقول أن الأطباء النفسيين يظنون أن غالبية الناس مرضى نفسيون؟ تقترح الدراسات الوبائية الحديثة المستندة إلى معايير سجل الطب النفسي أن نصف سكان الولايات المتحدة أو أكثر سيصلون إلى عتبة الاضطراب النفسي في مرحلة ما من حياتهم. بالنسبة لكثيرين، تبدو فكرة التطبيع مع انتشار الأمراض العقلية متناقضة في أحسن الأحوال، وفي أسوأها توحي بفكرة وجود مؤامرة. ومع ذلك، فإن اتساع نطاق الطب النفسي كان مدفوعًا باعتقاد لدى كل طالبي خدمات الصحة العقلية والأطباء على حد سواء، بأن الطب النفسي يمكن أن يكون مفيدًا في مجموعة كبيرة ومتزايدة من المشكلات.
تَسلُّل حركة التشخيص النفسي يصبح مفهومًا أكثر بتصورنا عن المرض العقلي كشيء يحدث في سلسلة متصلة مثل معظم الأشياء في الطبيعة. لا يحدث أن نتناقش كون الأمر مرضًا أو لا في حالات كثيرة من الاضطرابات النفسية مثل الفصام، أو حالات الخرف الشديدة التي نستطيع أن نرى بوضوح أن الأمر خارج نطاق الطبيعي فيها. متلازمات أخرى كاضطراب القلق العام مثلًا تعد مثالًا جيدًا على ما قد يراه البعض مجرد مشاعر قلق. قد يشتكي المريض من عرض منفرد وليس مجموعة أعراض لاضطراب محدد، مثل الأرق أو الخمول. في حالة كهذه فالتشخيص يميل ناحية كون الأمر طبيعيًا، لكنه ليس طبيعيًا لأقصى درجة من حيث التأثير الذي يطول قدرة الفرد على أداء مهامه اليومية.
ورغم أن النظرة الدائمة إلى المرض العقلي ربما تعكس الواقع، فإنها تفضي حتمًا إلى مناطق رمادية. فلا بد من التوصل إلى تقرير "الحالة" (ما إذا كان الشخص يعاني من اضطراب عقلي أو لا) استنادًا إلى حكم الأطباء أصحاب الخبرة. في مجال الطب النفسي، هذه الأحكام تطلق اعتمادًا على مصاحبة شكوى المريض لاضطراب كبير أو ضعف في أدائه لمهامه. تُقاس خطورة المرض في المجال الطبي بتأثيره على حركة المريض، ووجود احتمال أن يؤدي للوفاة. لكن في مجال الطب النفسي يتوقف الأمر على الاضطراب الذي يتسبب به المرض وتعطيله للحياة الاجتماعية للمريض، وهي أمور شخصية للغاية. حتى أولئك الذين يقعون على الجانب الأقل حدة في طيف الأمراض النفسية، قد يمروا بقدر كبير من المعاناة والعجز. لنفترض مثلًا أن شخصًا مصابًا باكتئاب خفيف، هذا الشخص ليس عرضة للانتحار، لكنه يعيش معاناة حقيقية في حياته الوظيفية نتيجة القلق وقلة التركيز. يصاب الكثير من الناس بأعراض نفسية لا تصل في حدتها إلى الاضطراب النفسي، ومع ذلك يمكن أن يكون التدخل العلاجي مفيدًا في تخفيف هذه الأعراض.
وفي حين أن التشخيص النفسي مهم في فهم حالة المريض ووضع خطة علاجية له، إلا أن الأطباء النفسيين لا يشغلون أنفسهم كثيرًا بكون المريض مصنفًا كمريض نفسي وفقا لكتيب الطب النفسي (DSM) أم لا، أو حتى هل لديه اضطراب عقلي أم لا. يزور المريض العيادة شاكيًا من أمر ما يعاني منه، فيحاول الطبيب تقديم العون بغض النظر عن هذه الفروق الصارمة. في بعض الأحيان تكون معلومة كهذه مهمة لشركات التأمين الطبي، وفي هذه الحالة قد يرتكب الأطباء أخطاء متعمدين في سبيل تلقي المريض للرعاية الطبية المطلوبة من شركة التأمين.
هناك الكثير من الاعتراضات على الطب النفسي باعتباره اعتداء على الحياة الطبيعية، في حين أننا لا نسمع هذه الاعتراضات على بقية المجالات الطبية، فمن ينزعج من أن جميعنا في مرحلة ما من حياتنا نحتاج إلى رعاية طبية، ونتعاطى مختلف أنواع الأدوية لمرض أو لآخر، وفي أحيان كثيرة دون الحاجة لوصفة طبيب؟ إذا كنا متصالحون مع فكرة المرض العضوي وكونه أمرًا طبيعيًا تمامًا، سواء كان المرض عارضًا مثل السعال ونزلات البرد أو مزمنًا مثل طول النظر وآلام أسفل الظهر وضغط الدم ومرض السكري، فلماذا لا نستطيع تقبل فكرة أنه من الطبيعي أيضًا أن نمرض عقليًا في مراحل مختلفة من حياتنا؟
إجابة السؤال أن المرض النفسي تلاحقه وصمة ضخمة للغاية. ما يفزع الناس هو أن يعتقد الطبيب النفسي أن الجميع مجانين، وذلك لأنهم يقعون في خطأ الاعتقاد بأن جميع أنواع المرض النفسي مرادفها «الجنون». هذا الخطأ لا يقل عن اعتبار السعال مرادفًا للسل أو سرطان الرئة. وحتى نقلل من وطأة هذه الوصمة، يحتاج الطب النفسي إلى أن يدعم نموذجًا مستمرًا للصحة العقلية، عوضًا عن التركيز الحصري على الاضطرابات التي تشكل سجل الإحصائيات DSM. يعمل الطب العام ضمن رؤية مستمرة للصحة الجسدية والمرض، فما المانع من أن يعمل الطب النفسي على ذلك أيضًا؟
يأتي انتقاد وجهة النظر هذه من وجود قلق بشأن نوع التدخل الذي يقدمه الطب النفسي. إذا اتسع نطاق الطب النفسي، فهل يحدث إفراط في وصف الأدوية النفسية إلى حد كبير، كما يُزعم الآن بالفعل مع منشطات مثل الميثيل فينيدات (ريتالين) لعلاج اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة (ADHD)؟ من المثير للقلق منح أدوية لم تثبت فعاليتها لمرضى لا يدخلون ضمن نطاق تصنيف المرضى التابع لسجل الطب النفسي. في عام 2008، أجرى عالم النفس بجامعة هارفارد إيرفينغ كيرش دراسة نشرت في PLOS Medicine، مفادها أنك إذا أعطيت مضادات اكتئاب لحالات الاكتئاب الأخف حدة تكون لها نفس فعالية الأدوية الوهمية (Placebo). وبالمثل، تشير الأبحاث الحديثة إلى أن الأطفال المعرضين لخطر الإصابة بالذهان لكن لا يمكن تشخيصهم بعد، ربما يستفيدون من زيت السمك أو العلاج النفسي أكثر من الأدوية المضادة للذهان.
خلاصة الأمر أن تطبيق دواء معين على حالة معينة يتطلب دليلًا قويًا يقدمه العاملون في قسم الدراسات البحثية. تؤدي الأدوية دورها بشكل أكبر كلما كانت حدة المرض أكبر، لكن ليس علينا رغم هذا رفض الدواء الصحي والفعال للحالات الأكثر صحة. الأدوية ليست حبة نعناع نبتلعها، بل إن غالبية الأدوية لها آثار جانبية تتراوح بين البسيطة والمهددة للحياة. لذلك فالطبيب النفسي فقط هو المكلف بوصفها، وهذا سببٌ لرفض منح امتياز وصف الدواء النفسي إلى بقية أفراد الطاقم الطبي.
ومع تطوير أدوية أكثر أمانًا في المستقبل، من المرجح أن يزداد العلاج الدوائي للأفراد الأكثر صحة، تمامًا كما حدث بعد مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) التي حلت محل مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات (TCAs) خلال التسعينيات.
في المقابل، فإن التحول إلى علاج الطرف الأكثر صحة من السلسلة المتصلة يمهد الطريق ليس فقط لتحقيق أقصى قدر من العافية، بل أيضًا لتحسين الأداء الطبيعي من خلال التدخل «التجميلي». في نهاية المطاف، سيكون توافر الأدوية التي تعزز وظائف المخ أو تجعلنا نشعر بأننا أفضل من المعتاد مدفوعًا بطلب المستهلكين، وليس بالخطط الميكافيلية للأطباء النفسيين. انتشر الاستخدام القانوني للعقاقير لتغيير الحالة المزاجية بالفعل في كل مكان تقريبًا. ولكي نؤدي واجباتنا على أكمل وجه ونبقى مستيقظين وتركيزنا قوي ونلتزم بموعد التسليم في العمل، نلجأ للريتالين، أو المودافينيل (البروفيجيل)، أو كوب القهوة الصباحي، وفي المساء حين نريد الراحة والاسترخاء نتعاطى الديازيبام (الفاليوم) أو الكحول أو الماريجوانا.
إذا توصلنا لنوع من مركبات الستيرويد المنشطة للدماغ، على سبيل المثال حبوب يمكن أن تزيد الذكاء بمعدل 10 نقاط مع الحد الأدنى من الآثار الجانبية، فماذا سيكون رأي الجمهور؟ الطب النفسي التجميلي احتمال حقيقي للغاية في المستقبل، مع وجود عدد لا يحصى من الآثار الأخلاقية والمعنوية.
ختامًا، فالأطباء النفسيين لا يرون الجميع «مجانين»، كما أنهم ليسوا مذنبين لإضفائهم الطابع المرضي على الوجود الطبيعي وإعطاء الأدوية للجماهير. بدلًا من ذلك، يبذل الأطباء ما في وسعهم للتخفيف من معاناة أولئك الذين يأتون طلبًا للمساعدة، بدلًا من صدهم بعيدًا.
الخبر الجيد بالنسبة للمستفيدين من خدمات الصحة العقلية أن الأطباء ذوي الجدارة (والذين عليك البحث طويلًا حتى تجد أحدهم) لا يعتمدون على الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) ككتاب مقدس كما يتخيل البعض، وكأن مهمة الطبيب مثل الكمبيوتر الذي يتحقق من الأعراض وبعدها يحصر المريض تحت تشخيص محدد. الطبيب النفسي الجيد يعتمد على الخبرة السريرية حتى يكتسب فهمًا تعاطفيًا مع حكاية كل مريض، ثم يقدم مجموعة متخصصة من التدخلات لكي يخفف من معاناته، سواء كان يعاني من اضطراب أو يواجه صعوبات في حياته.
خديجة يوسف