مكتبة محمود درويش: أثر الشاعر لا يزول
يحب محمود درويش مسرحيات «يوربيدس» وشكسبير، وموسيقى موتسارت، والنبيذ، وفصل الخريف، ومرحلة بيكاسو الزرقاء، وغموض الشعر الناضج، يحب أيضًا السمك المقلي، والبطاطا المسلوقة، والمحاورات الذكية، والعنب، ومدينة حيفا.. والقهوة.
في طفولته، كان الرسم موهبته الأولى. في ظروف أخرى كان يمكن أن يكون رسامًا شهيرًا، لكن لم يملك والده مالًا يتيح له إمكانية أن يشتري أدوات الرسم: «آلمني ذلك كثيرًا، فبكيت وتوقفت عن الرسم، وعندها حاولت التعويض عن الرسم بكتابة الشعر. كتابة الشعر لا تتطلب نفقات مالية».
لم يقترب محمود من فرشاة الرسم في ما بعد، عندما توافرت الإمكانيات المالية، لم يعد حلمه الوقوف بفرشاة الألوان ليرسم لوحة، تحول حلمه، هو الشاعر، إلى كتابة الرواية، لكنه ظل حلمًا مؤجلًا أيضًا. كان يتمنى أن يكتب رواية واحدة، عن البيوت التي سكنها، وتنقل بينها، ربما باعتبارها وطنه الأصغر في المنافي المتعددة التي مر عليها.
عن بيوته ومكتباته وعن كتبه، احدث محمود درويش خلال لقاءات عديدة جمعتنا دون أن أزور مكتبته، ثم كانت زيارتي لها بعد وفاته عام 2008، في أربعينه.
بيوت الشاعر ومنافيه
بيته الأول في البروة هدمه الاحتلال، غرفة صغيرة في حيفا فُرضت عليه الإقامة الجبرية فيها، لم يكن يغادرها بعد غروب الشمس. غرفة أخرى في مدينة جامعية في موسكو، «أول مدينة كبيرة يعيش فيها، اكتشف معالمها على مهل، ولكنه اكتشف أيضًا أنها ليست فردوس الفقراء كما قالوا له». في القاهرة سكن في غاردن سيتي، في العمارة ذاتها التي أقام فيها توفيق الحكيم. فتَنته القاهرة، فهي أول مدينة بالنسبة إليه يتكلم أهلها العربية.
في بيروت سكن شارع جان دارك في شارع الحمرا الشهير. وفي باريس سكن في «7 ميدان الولايات المتحدة»، وعندما تركها اختار عمان العاصمة الأردنية، لأنها كما يقول «مدينة هادئة، شعبها طيب، وقريبة من فلسطين، وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب، أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان».
اقرأ أيضًا: في مكتبة علاء الديب: رشفة أخيرة من «عصير الكتب»
محمود درويش: القراءة أو الموت
في عمان، لم يستأجر الشاعر كما فعل في المدن التي سكنها من قبل، وإنما امتلك بيتًا للمرة الأولى. علم أحد المقاولين أن محمود درويش يبحث عن بيت يستأجره، أراد أن يهديه له، ولكن الشاعر رفض الأمر بقوة، ومع تدخلات الأصدقاء، اشترى محمود البيت بسعر التكلفة. كان البيت في الطابق الرابع لشارع هادئ (الطرة) بمنطقة عبدون في وسط المدينة. حارس العقار مصري، قرر أن يغادر البيت بعد موت محمود، كما قال للمقربين منه: «لم يعد لي أحد هنا، سأرحل».
«التهمت كثيرًا من الكتب وأنا في سن مبكرة جدًّا دون أن أستوعب ماذا أقرأ، لكن كانت القراءة تنقلني إلى عالم آخر».
شقة محمود الأردنية بسيطة، صالون متسع لاستقبال الضيوف، بجوار الباب مصحف فاخر، أهداه له شخص عربي بارز. يعشق محمود صوت عبد الباسط عبد الصمد، ويقرأ كثيرًا سورة الرحمن، هذه السورة أخذت محمود كما كتب في «في حضرة الغياب»: «إلى الإيمان المصحوب بالطرب، فتحب الله وتشقى من قلق السؤال الأول: مَنْ خلق الله؟».
بجوار المدخل مرآة دمشقية وكرسي عربي. وهما، مع المكتب، الأشياء الوحيدة التي حرص على أن ينقلها معه من شقة باريس، بالإضافة إلى بعض الكتب. إضاءة الشقة اشتراها محمود من خان الخليلي في القاهرة، وتتوزع عشرات الوسائد العربية في الشقة، خاصة أسفل المرآة.
تضم الشقة أيضًا بعض اللوحات التشكيلية البسيطة المرتبة بعناية، أمامه مكتبة ليست بالضخامة، ولكنه احتفظ فيها بالكتب التي لا يستطيع الاستغناء عنها. وكان قد تبرع قبل رحيله مباشرة للمكتبات الأردنية بأكثر من ألفي كتاب بعد أن قرأها، عرض على الأصدقاء في البداية اختيار ما يريدون منها، ثم تبرع لإحدى المكتبات بما تبقى.
لم تكن الكتابة تمثل عذابًا لصاحب «لماذا تركت الحصان وحيدًا»، كان عذابه أن لا يقرأ، كانت القراءة في طفولته تمثل تعويضًا عما سماه «التيه» الذي واجهه هو وأسرته، عندما وجد نفسه دون بيت، مهجَّرًا، تائهًا في الصحراء في رحلة المنفى إلى لبنان ثم العودة سرًّا إلى قرية أخرى غير التى وُلد فيها.
«وجدت عزائي وتعويضي عن هذا التيه بالقراءة المبكرة، التهمت كثيرًا من الكتب وأنا في سن مبكرة جدًّا، دون أن أستوعب ماذا أقرأ، لكن مجرد أن أقرأ كانت القراءة تنقلني إلى عالم آخر، إلى عالم مضاد للعالم الذي أعيش فيه، وتعطيني تعويضًا عن الخسائر الكبرى التي لحقت بنا».
أولى مكتبات درويش «بخط اليد»
كانت أول مكتبة امتلكها محمود درويش «منسوخة» بخط اليد. يوضح شقيقه أحمد: «اضطر أبي الفلاح العريق أن يعمل في المحاجر حتى نستطيع أن نعيش، ويستطيع أن يوفِّر لقمة الخبز والكتاب. هذه الحياة لم تستمر، انتقلنا إلى (جديدة) لأنها قريبة من البروة، كما أن أغلب سكان البروة التي تهدمت سكنوها. في كل هذه الظروف كان لا بد أن نتسلى، وكانت التسلية الوحيدة المتاحة أمامنا هي الكتاب».
«كنا نتطلع إلى العالم الخارجي من خلال الكتاب، بذلك أقبلنا بنهم على القراءة. في تلك الفترة لم تكن هناك أية مكتبة، كنا نستعير الكتب من أصدقائنا، وقرأنا بهذه الطريقة سيرة بني هلال، والزير سالم، وسيرة عنترة.. وغيرها».
ولأن الكتب يجب أن تعود إلى أصحابها، كان محمود ينسخ بعضها، نسخ أشعار نزار قباني والسياب، والبياتي. «نأخذ الكتاب ونكتبه في الدفاتر حتى يمكننا أن نحتفظ به». وفي شهور السجن القليلة (1965)، كاد يُجن لأنه غير مسموح له بالقراءة. كتب إلى شقيقه أحمد رسالة من الزنزانة: «لم أقرأ سوى كتابًا واحدًا سُمِحَ لي بإدخاله معي هو كتاب (همس الجنون) لنجيب محفوظ».
اقرأ أيضًا: انقراض الأدب العربي: هل يُغني فيسبوك وتويتر عن قراءة المتنبي ونجيب محفوظ؟
مكتبات وديوان للمتنبي لشاعر منفي
في رحلته بين المنافي المتعددة كان يترك خلفه مكتبته. فقط كان هناك كتاب وحيد يحرص على أن يحمله معه في تنقلاته: «ديوان المتنبي». لا يتردد درويش في أن يصف المتنبي بأنه «أعظم شاعر في تاريخ اللغة العربية، وهو ما يبدو لي تلخيصًا لكل الشعر العربي الذي سبقه، وتأسيسًا لكل ما لحقه. كل ما أردت أن أقوله قاله هو في نصف بيت: على قَلَقٍ كأنّ الرَيح تحتي».
دافع درويش عن المتنبي ضد من اتهمه بأنه شاعر بلاط: «لم يُفهم جيدًا، عندما اتُّهم بأنه شاعر بلاط، لم يكن في ذلك العصر، ولا في كل العصور العربية السابقة، لم يكن المديح عيبًا إطلاقًا».
«برأيي أن المتنبي لم يَمدح أحدًا، ولم يمدح سلطة الدولة، بل كان المتنبي يؤسس سلطته الشعرية. كان يستخدم القوة الشعرية من أجل تأسيس سلطة للشعر، وبالتالي كان سيف الدولة هو المتنبي. هو كان يرى نفسه، لم يكن يرى سيف الدولة، واستعمل كافور استعمالًا عابرًا من أجل توسيع نفوذ سلطته الشعرية، فالمتنبي ليس شاعر بلاط إطلاقًا، هو سلطة الكلام، وكل شاعر يطمح إلى تأسيس سلطته الجمالية واللغوية، و إلا فلماذا يكتب؟».
أشعار المتنبي، وشروحها أيضًا، تحتل منتصف المكتبة مع أجزاء عديدة من سلسلة «ذخائر العرب» الشهيرة التي كانت تصدر عن دار المعارف، «رسالة الغفران» للمعري، جزء من ديوان أبو نواس الصادر في سلسلة «الذخائر»، كتاب «جمهرة أشعار العرب»، كتاب «مصارع العشاق»، تجاوره دواوين كثير عزة، زهير بن أبي سلمي، طرفة بن العبد، حسان بن ثابت، ابن سهل الأندلسي، الخنساء، حاتم الطائي، عمر بن أبي ربيعة، الحطيئة، ابن قزمان القرطبي، الحلاج، إضافةً إلى «من الشعر المنسوب للإمام علي» لعبد العزيز سيد الأهل، و«الأدب الصغير والأدب الكبير» لابن المقفع.
الثقافة العربية في قلب مكتبة درويش
على الرف الأعلى من المكتبة توجد عدة مصاحف، وكتب خاصة بألفاظ القرآن، بجوارها الأعمال الكاملة لطه حسين، الذي يراه درويش «أهم عقل عربي في العصر الحديث»، ويراه أحيانًا «أجرأ مفكر عربي في القرن العشرين»، وعبر عن ندمه الشديد أنه لم يلتقهِ في رحلته القاهرية في السبعينيات.
تحضر كتب التصوف في مكتبة درويش، ابن عربي وكتابه «فصوص الحكم» بهوامش وتعليقات أبو العلا عفيفي، بجواره «المواقف والمخاطبات» للنفري.
على الرفوف الأخرى نقرأ العديد من العناوين: «المثنوي» لجلال الدين الرومي (المجلدان اللذان ترجمهما محمد عبد السلام كفافي)، «تفسير القرآن» لابن عربي، وله أيضًا كتب «التجليات» و«رسائل ابن عربي»، وكتاب «ابن عربي حياته ومذهبه» المستشرق الإسباني «أسين بلاثيوس»، وبجوارهما «مذكرات بابلو نيرودا».
في رف آخر نجد هذه الكتب: «ديوان ابن عربي»، «كليلة ودمنة»، «الشاهنامة»، «ألف ليلة وليلة» بأكثر من طبعة، ثم كتاب وليد خالدي «قبل الشتات: تاريخ مصور للفلسطينيين».
في رف ثالث نجد طبعات مختلفة لألف ليلة وليلة، ثم «رسائل ابن حزم الأندلسي» في ثلاثة مجلدات، وكتابي ابن قتيبة «أدب الكاتب» و«الشعر والشعراء».
لن تغيب كتب التصوف، يحضر بقوة ابن عربي في رف آخر من أرفف المكتبة، نجد كتابه «فصوص الحكم» بهوامش وتعليقات أبو العلا عفيفي. بجواره «المواقف والمخاطبات» للنفري، ثم كتابا أبو حيان التوحيدي «الإمتاع والمؤانسة»، «الإشارات الإلهية»، وفي الرف نفسه نجد كتاب «رسائل الجاحظ» في أربعة مجلدات تحقيق عبد السلام هارون، ثم نسخة من كتاب قاسم حداد «أخبار مجنون ليلي» بلوحات ضياء العزاوي.
أمام هذا الرف توجد عدة كتب حديثة من بينها «الاستشراق وما بعده» لإدوارد سعيد، و«إعجاز أحمد» ترجمة ثائر ديب، و«مرايا العابرات في المنام» لجمانة حداد، وعددان من مجلة «نقد»، خُصص الأول منهما لنازك الملائكة، والثاني عن محمود درويش نفسه، وبعض الكتب بالإنجليزية منها «الأمة والدولة» لتميم البرغوثي.
ثَمَّة رف آخر خصصه درويش لكتابات أخرى عن التصوف والأدب الأندلسي: نجد ديوان «الموشحات الأندلسية»، «تاريخ الأدب الأندلسي» للدكتور إحسان عباس، «شطحات الصوفية» لعبد الرحمن بدوي، «معجم ألفاظ الصوفية»، «العقلية الصوفية»، مجموعة مصنفات شيخ إشراق تجاور المجلدات التسع لكتاب أبو حيان التوحيدي «البصائر والذخائر».
لن نعدم الكتب الحديثة أيضًا، سنجد كتاب سوزان برنار «قصيدة النثر»، و«الغائب» لعبد الفتاح كليطو، و«حرقة الأسئلة» لعبد اللطيف اللعبي، و«تاريخ الثورة الروسية»، فضلًا عن أجزاء كتاب «النبي المسلح: تروتسكي»، وعدة نسخ من ترجمة صبحي حديدي لكتاب «تعقيبات على الاستشراق» لإدوارد سعيد، وموسوعة «أساطير العرب» لمحمد عجينة، يجاوره كتاب «حفريات في الأدب والأساطير» للمؤلف ذاته.
درويش وهيكل
أعمال محمد حسنين هيكل جميعها متراصة في أحد أرفف المكتبة، وهي مهداة لدرويش من هيكل نفسه، إذ جمعتهما علاقة صداقة عميقة منذ أن جاء درويش إلى القاهرة للمرة الأولى في بداية السبعينيات. يحكي أحمد درويش أنه كان في زيارة لأخيه في باريس خلال نهاية الثمانينيات، وتلقى محمود مكالمة من هيكل يدعوه فيها إلى الغداء، وعندما سأل محمود أين المطعم؟ أجابه هيكل: في لندن. وبالفعل، سافر درويش من باريس إلى لندن للقاء هيكل وتناول الغداء معه.
كتب درويش مقالًا شهيرًا بعنوان «ربيع الديكتاتور، خريف الغضب»، يقدم فيه قراءة لكتاب هيكل «خريف الغضب» يدافع عنه أمام حملة الهجوم الشديدة التي تعرض لها بسببه، معتبرًا أن «محاكمة الفترة الساداتية هي محاكمة ضرورية، وثورية، لمعرفة اتجاه المفاوضات الدائرة بين وضع عربي يعذبه العجز عن أن يكون شبيهًا لإسرائيل في علاقتها بأمريكا، وبين سراب قادر على تجريد الطرف العربي من أي سلاح، حتى سلاح الحلم».
ويضيف: «الأصنام كثيرة في الساحات والعقول، فليتقدم الكاتب، ولينهر الخديعة المهيمنة، فإن خريف الغضب سيجتاح ربيع الديكتاتور».
كُتب هيكل تتجاور مع إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية: «مذكرات عوني عبد الهادي»، وكتابات محمد عابد الجابري: «بنية العقل العربي» و«تكوين العقل العربي»، ويجاورهما كتب «الشيخ والمريد» لعبد الله حمودي، «ونظرية الرواية والرواية الغربية» لفيصل دراج، و«الحرية والطوفان» لجبرا إبراهيم جبرا، وبعض إصدارات دار توبقال لمحمد بنيس وعبد الفتاح كليطو وهشام شرابي، فضلًا عن كتاب الطيب تزيني «من التراث إلى الثورة»، ورواية «التلصص» لصنع الله إبراهيم، بجوار السيرة الذاتية لإدوارد سعيد «خارج المكان»، وكتاب «أسير عاشق» لجان جينيه.
الشعر في المكتبة
رفُّ كامل خصصه درويش لدواوين الشعراء العرب الكبار، وحرص على تجليد هذه الأعمال بلون واحد: الرمادي، ويضم «لزوميات أبي العلاء المعري»، ودواوين الشريف الرضي وأبي تمام والبحتري وابن حمديس وديك الجن والعباس بن الأحنف.
حرص درويش على الاحتفاظ بأعمال شعرية إنجليزية لشعراء أجانب، منها «أوراق العشب» لوالت وايتمان، وليم بتلر ييتس، الأعمال الشعرية الكاملة لشكسبير، أوكتافيو باث، يانيس ريتسوس، تي. إس. إليوت، الشاعر البولندي تشيسلاف ميلوش، إضافةً إلى «ديريك والكوت»: «الأكثر قربًا إلى درويش، أو شاعره المفضل في اللغة الإنجليزية»، «بل أفضل من يكتب في هذه اللغة»، كما قال بنفسه قبل رحيله.
وفي رف آخر سنجد أعمال «إزرا باوند» كاملة، ثم كفافي، أودن، يانيس ريتسوس، جورج سيفيريس، بول تسيلان، أوديسيوس إيليتس، جورج سيفيريس، إيليتيس، الشاعر الإيطالي أوجينيو مونتالي، رينيه شار، سان جون بيرس، وهناك أيضا قصائد مختارة للشاعر توني هاريسون، جورج باركر، تشيموس هايني، شيمبوريسكا.
آباء درويش الشعريون
«كان لوركا ينشد، يقول إن الشعر يحتاج إلى ناقل، يحتاج إلى كائن حي، سواء كان هذا الناقل مغنيًا أو منشدًا».
ضمت المكتبة أيضًا أعمالًا لناظم حكمت، أحد ثلاثة آباء تأثر بهم درويش في بداياته، مع «بابلو نيرود»، الذي احتفظ درويش بأعماله في ترجمتها الإنجليزية والعربية أيضًا، وكذلك في لغتها الأصلية الإسبانية رغم أنه لا يجيدها. وقد كتب عنه قصيدة لم يضمها في أيٍّ من دواوينه بعنوان: «ذاهبون إلى القصيدة»، من أجوائها:
«نيرودا! تُغنّي أمْ تروِّض غابةً
تمشي على الإيقاع أم يتجوّل البركانُ فيكَ
وحارسُ البستان يختزن الأفاعي خلفَ صوتكَ.
إن جمهوريةً أخرى تُعيد قصيدة أخرى إلى أفراحها...
لكن شطآن القصيدة لا تُدجّنها البحيرةُ»
أما الأب الثالث فهو «لوركا»، الذي كتب عنه قصيدته الشهيرة: «عفوًا زهور الدم يا لوركا»، وكتب في عام 1986، في الذكرى الخمسين لرحيل لوركا، نصًّا نثريًّا بعنوان: «خمسون عامًا بلا لوركا»، يرصد فيه تجربة الاستماع إلى مغنٍّ إسباني متخصص في غناء لوركا.
يكتب درويش: «كان لوركا ينشد. كان لوركا يقول إن الشعر يحتاج إلى ناقل، يحتاج إلى كائن حي، سواء كان هذا الناقل مغنيًا أو منشدًا. وكان لوركا يمتحن حاسة الذوق، ويمتحن القصيدة ذاتها بالإلقاء. كان يبحث عن العلاقة المباشرة بين الصوت والقلب، فالشعر ليس فنًّا بصريًّا، لا بد من إذن. لا بد من جَرْس».
في المكتبة أيضًا أعمال «الخشخاش والذاكرة» لباول تسيلان، «توقيعات» لسيوران، فضلًا عن الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط، وأمل دنقل، وصلاح عبد الصبور، ويوسف الخال، وأعمال سعدي يوسف وبول شاوول وعباس بيضون، وديوان واحد لأدونيس «مفرد بصيغة الجمع»، وأعمال متفرقة لكل من: شربل داغر، علي جعفر العلاق، غسان زقطان، طاهر رياض، محمد بنيس، سيف الرحبي، سامر أبو هواش، سليم بركات، أحمد دحبور، عبد الكريم قاصد، حسن عبد الله.
ويكسر إيقاع هذه المجموعة المتناسقة كتاب «سعد الشيرازي: أشعاره العربية».
اقرأ أيضًا: رسائل أمل دنقل العاطفية: الشاعر يمارس طفولته ببراءة وحرارة وصدق
الرواية والتشكيل في مكتبة محمود درويش
في الحجرة المواجهة للمكتبة، يضع محمود درويش مكتبًا أنيقًا وصغيرًا، كتب عليه معظم أعماله، ربما منذ «مديح الظل العالي» حتى ديوانه الأخير.
تحتل الأعمال الكاملة لديستوفيسكي رفًّا كاملًا في مكتبة درويش، بينما يستأثر إدوارد سعيد وحده برفين من رفوف المكتبة، تضم كل ما كتبه «صاحب الاستشراق» من كتب بالإنجليزية التي كان درويش يجيدها إجادةً تامة، وهو ما ينطبق على أغلب ما كان يقرأ من روايات، ويحتفظ كذلك برواية «عوليس» لجيمس جويس، وكثير من الروايات الإنجليزية.
تحتل كتب الفن التشكيلي مكانة كبرى أيضًا، فهناك أعمال لسلفادور دالي وماتيس (لهما أكثر من كتاب يضم أعمالهما)، ورودان، وكليمت، وغوغان، ومختارات من الفن الصيني الحديث، وبيوت سيدي بوسعيد، والتطريز الفلسطيني.
نجد أيضًا نسخًا من كتاب «الكاماسوترا»، والأوديسا، و«حياة الحيوان»، وعديد من الكتب عن الفن الأندلسي: مسجد قرطبة وقصر الحمراء، أعمال فاتح المدرس، عبد الرحمن منيف ومراون قصاب «رحلة الحب والحياة»، عبقرية الحضارة العربية، يافا عطر مدينة.
في الحجرة المواجهة يضع محمود درويش مكتبه: مكتب أنيق، وصغير، من الأشياء القليلة التي حرص أن ينقلها معه من باريس، كتب عليه معظم أعماله، ربما منذ «مديح الظل العالي» حتى ديوانه الأخير.
في الحجرة يضع محمود لوحات خطية لعمله «أحمد الزعتر»، أسفله مكتبته الموسيقية، وجميعها اسطوانات ممغنطة وقليل من شرائط الكاسيت. أم كلثوم في المقدمة، يسميها «إدمان الوحيد»، ثم اسطوانات محمد عبد الوهاب، ومارسيل خليفة، وخالد الشيخ وأمل مرقص من الأسماء الجديدة، وعشرات الاسطوانات للموسيقي الكلاسيكية (يعشق موتسارت)، وكان مندهشًا أن آرييل شارون أيضًا يسمعه، وكثيرًا ما كان يردد أمام أصدقائه بسخرية: «نسمع المقطوعة نفسها أنا وشارون، وربما أيضًا نحب الشاعر نفسه».
بجوار المكتب مكتبة أخرى تضم الموسوعات والقواميس، «لسان العرب» في مقدمتها، أول كتاب يفتحه صباح كل يوم عشوائيًّا «على كلمة ما تُجري عليها تدريباتك الذهنية، ويُفرحك أن لا تعرف أنك لا تعرف»، ويعود إليه مرة أخرى بعد أن يتناول قهوته الصباحية، «ليحفظ أبياتًا من الشعر مصاحبةً لتنوع استخدام الكلمة»، كما يقول في كتابه «في حضرة الغياب».
تضم المكتبة أيضًا مجلدات «قصة الحضارة» لويل ديورانت، «البداية والنهاية» لابن كثير، «تاج العروس»، «الأغاني» للأصفهاني، «الموسوعة البريطانية»، «تاريخ الطبري»، فضلًا عن «قاموس لاروس» الفرنسي، وقاموس «المنهل»، وقواميس للعبرية التي كان يجيدها إجادةً تامة حديثًا وكتابة، ونسخ من أعماله الأخيرة الصادرة عن دار رياض الريس.
على مكتب درويش دواية حبر، لم يكن يكتب سوى بأقلام الحبر، وأوراق عديدة ومتناثرة، وجرائد، وبعض الأوراق الشخصية، ومسوَّدات لأعمال.
وفقًا للأصدقاء، ليس لدى محمود أوراق شخصية كثيرة، كانت هوايته تمزيق كل ما لم يكتمل حتى لا يطلع أحد على أسرار عملية الإبداع لديه، ولم يحتفظ بأيٍّ من الحوارات الشخصية التي أجريت معه، أو المقالات النقدية التي كتبت عنه، بل لم يحتفظ أو يعلق أي صورة شخصية له.
ورغم وسامته، كان يكره أن يشاهد نفسه في التلفزيون عندما يظهر في برنامج أو تُنقل له أمسية شعرية مسجلة، وإذا أصر الأصدقاء على مشاهدته، كان يترك لهم غرفة المكتب التي احتفظ فيها بالتلفزيون إلى أي غرفة مجاورة.
كان محمود درويش متابعًا جيدًا للأخبار باللغات التي يجيدها، كان يحرص على الاستماع إلى نشرات الأخبار العبرية، مثلًا، لأن ما يُقال فيها يختلف كثيرًا عما يُقال في النشرات العربية، وهو كان حريصًا على معرفة «ما يقوله العدو» أو «طريقة تفكيره»، وكان أيضًا عاشقًا لأفلام الأبيض والأسود، ومباريات كرة القدم التي كان يتتبعها في القنوات المختلفة.
في الشقة احتفظ محمود درويش كذلك بالأوسمة والنياشين والجوائز التي حصل عليها، وقد أهداها شقيقه إلى متحف محمود درويش في رام الله.
في مكتبته، بعد رحيله بصحبة الأصدقاء، قال لنا غانم زريقات، أحد أقرب أصدقائه إليه، إن درويش كان منشغلًا في أيامه الأخيرة بسؤال كان يطرحه على أصدقائه: «لماذا خلق الله للإنسان مليون شعرة وقلبًا واحدًا؟»، لكنه «لم يصل إلى إجابة».
في الطائرة التى حملته إلى هيوستن لإجراء جراحة القلب المفتوح، حمل معه ثلاثة روايات مترجمة، لم يكن يريد، كما قال لرفيق الرحلة الأخيرة أكرم هنية، أي قراءات معمقة. تصفح مجلة «الكتب وجهات نظر» وجريدة «الهيرالد تريبيون»، وتحدث عن مغنيه الأثير محمد عبد الوهاب.
محمد شعير