مخادعون صغار: لماذا ينبغي الاحتفاء بالطفل الذي يكذب مبكرًا؟
هل يستطيع طفل في الرابعة أن يختلق كذبة منمَّقة إلى الدرجة التي تجعلك تصدقها؟ هذا ما فعلته ابنتي حين سألتها عما ظننته أثر عَضَّة على إحدى يديها.
سألتها لدى عودتها من المدرسة فأجابت دون تردد يشي باختلاق كذبة بأن زميلها «عمر» عض يدها. كانت ابنتي تعرف أني لا أحب ذلك المشاكس، فكان اختيارها لضحية كذبتها موفقًا ومقنعًا حتى كدت أرى أسنانه منحوتة على يدها الصغيرة، ولعلها رأت أن الفرصة قد واتتها أخيرًا للانتقام من مجمل مضايقاته لها. لكنها عندما استشعرت غضبي وعرفت أني سأشكو الولد لمعلمتها تمادت في الكذب خوفًا من انكشاف الخدعة أو معاقبة الولد، فأخبرتني بأنه اعتذر بعد عضها، وانتهى الأمر.
ذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة، وشكوت إلى المعلمة ما حدث، فقالت لي إن عمر لم يكن موجودًا في المدرسة، وإن أحدًا لم يضايق ابنتي على الإطلاق.
اكتشفت لاحقًا أن تلك العَضَّة لم تكن سوى أثر حساسية. ابنتي الصغيرة التي نسجت كذبة معقولة جدًّا كانت قبل أشهر قليلة تقول لي: «ماما، سأختبئ وراء الباب» إذا لعبنا «الاستغماية/الغميضة»، أما إذا أرادت أن تتخابث قليلًا، فكانت تذهب لتختبئ وراء الباب دون أن تخبرني بمحل اختبائها، فأسمع قرقعة الباب مدوية دون أن تتصور أن سماعي هذا الصوت يفسد فكرة اللعبة من الأساس. لم تكن تدرك معنى الخداع.
هل يُفترض أن نفرح أم نحزن حين يكتشف أبناؤنا أن هناك شيئًا في الحياة يسمى الكذب؟ هل الكذب في تلك السن المبكرة مهارة أم سلوكًا يسترعي قدرًا من الحزم للتخلص منه في أوله؟
لم أكسر المزهرية: متى يكذب الطفل لأول مرة؟
لو طلبنا من مجموعة أطفال ألا يختلسوا النظر للعبة وراء ظهورهم، هل سيستطيعون الامتثال؟ وإن استرقوا النظر، هل سيعترفون؟
يبدأ الأطفال في سن الثانية والثالثة قول «كذبات أولية» هدفها الأساسي التغطية على أخطاء ارتكبوها، لكنهم يفشلون طبعًا في أخذ الحالة الذهنية للمستمع في الاعتبار، فتأتي كذباتهم مضحكة وغير قابلة للتصديق.في سن الرابعة تصبح «كذباتهم الثانوية» أكثر معقولية، أما في السابعة أو الثامنة من العمر، فيقول الأطفال «كذبات من المستوى الثالث» أكثر انسجامًا مع الحقائق.
ممارسة الطفل للكذب تعني أنه أصبح يفهم أن الآخرين لديهم معتقدات تختلف عنه، وليست بالضرورة صورة كربونية للواقع كما يراه هو.
الآن، تخيلوا معي لو طلب باحث من مجموعة من الأطفال ألا يختلسوا النظر إلى لعبة مخبأة وراء ظهورهم، هل يستطيعون الامتثال لذلك الأمر؟ وإن استرقوا النظر، هل سيعترفون بذلك؟ هذه التجربة حدثت بالفعل، فماذا وجد الباحثون الذين اختبروا مئات الأطفال؟
اختلست الغالبية العظمى من الأطفال النظر إلى اللعبة في خلال ثوانٍ من مغادرة الباحث الغرفة. وكذب عدد كبير منهم بشأن اختلاسه النظر، فأنكر ما لا يقل عن ثلث الأطفال ممن هم في الثانية من العمر، ونصف مَن في الثالثة، و80% أو أكثر من الأطفال الذين بلغوا الرابعة أو أكبر. ولم ترتبط النتائج بنوع الطفل أو جنسه أو دين أبويه.
يبدو أن الكذب «قدرة» تتطور مع العمر، هذا ما تقوله التجربة. لكن هل هناك أمر يدعو إلى القلق بشأن الأطفال الذين كذبوا؟
هو ضربني أولًا: افرح بطفلك حين يكذب
لا يفهم الأطفال فكرة الخداع، فلا تعجب لو كان الطفل يجد متعته الكبرى في إخبارك بمكان اختبائه حين تلعبان معًا.
الأطفال الذين كذبوا في التجربة السابقة ليسوا أشرار المستقبل، بل ببساطة أكثر ذكاءً من غيرهم.
وجد الباحثون أن الأطفال الذين اختلسوا النظر في التجربة ثم كذبوا يتمتعون بنسبة ذكاء لفظي (Verbal IQ: القدرة على استخدام اللغة لتحليل المشكلات وحلها) تفوق غيرهم بـ10نقاط، مع ملاحظة أن الأطفال الذين لم يختلسوا النظر إلى اللعبة أصلًا هم الأذكى على الإطلاق، لكنهم نادرون.
لممارسة الكذب، يحتاج الطفل إلى إعمال ما يسمى «مهارات الوظائف التنفيذية» (مجموعة من المهارات تمكننا من التركيز والسيطرة على اندفاعاتنا)، فأصحاب الوظائف التنفيذية الأكثر تقدمًا يصبحون أكثر قدرة على صياغة كذبات أفضل من غيرهم، إضافةً إلى تمتع هؤلاء بقدرة أكبر على رؤية العالم من منظور الآخرين، وإدراك أن عقولهم منفصلة عن غيرهم، وهو مؤشر دالٌّ على تطور ذهني يسميه علم النفس «نظرية العقل»، يعزز قدرة الطفل على الخداع والاختباء والكذب.
قبل بلوغهم الرابعة يعتقد الأطفال أن الجميع يتشاركون نفس المعتقَدات، وتلك المعتقدات انعكاس مباشر لما يحدث في الواقع الذي يعيشونه، فالطفل يعتقد دون شك أن أمه تعرف أين وضع لعبته مثلًا، بغض النظر عما إذا كانت حاضرة حين وضع اللعبة في مكانها أم لا. لهذا، لا يفهم الأطفال الصغار فكرة الخداع أو يحاولون حتى ممارستها، فلا تعجب إذا كان الطفل ذو السنوات الثلاثة يجد متعته الكبرى في إخبارك بمكان اختبائه حين يلعب معك الغميضة.
اقرأ أيضًا: الإجابات النموذجية على أسئلة الأطفال
عندما ادَّعت ابنتي أن عمر هو الذي تسبب في الإصابة التي رأيتها على يدها، كانت تعرف أني لم أكن حاضرة معها في الفصل، فرأت أني سوف أكوِّن معتقدي بناء على ما قالته لي، وليس الحقيقة، فاستثمرت الموقف لإيهامي بأمر يخدم رغبتها في توقيع العقاب على ذلك الطفل المشاغب. هذا الفهم المتقدم لكيفية عمل العقل نتاج عملية تطور طويلة.
يطوِّر الأطفال «مهارة الكذب» بصورة أكبر عند بلوغ السادسة أو السابعة، عندما تتطور مهارة ذهنية مهمة تسمى «الذاكرة العاملة»، تساعد الطفل على الاحتفاظ بالمعلومات بشكل مؤقت، فلكي يكذب الطفل يجب أن يحتفظ بمجموعة معلومات في رأسه لتمرير كذبته بنجاح. فعليه أن يتذكر ما يظن أن الشخص المكذوب عليه يعرفه، إضافةً إلى الكذبة التي يريد أن يقولها، وأن يسترجع كذبته إذا سُئل عنها لاحقًا.
كلما تطورت «الذاكرة العاملة» كانت الكذبة أكثر معقولية، وهذا ما توصل إليه بحث حديث بدأ باختبار الذاكرة العاملة لبعض الأطفال بين السادسة والسابعة من العمر، عن طريق سؤالهم عن بعض الأحرف التي رأوها على شاشة جهاز كمبيوتر، وبعده اختبارٌ للكذب.
الفكرة الرئيسية في الاختبار كانت وضع الأطفال في موقف يغريهم بالكذب. بدأ الباحثون بتوجيه أسئلة بسيطة إليهم، مثل: «ما الصوت الذي يصدره الكلب؟»، مع إعطاء جائزة عن كل إجابة صحيحة. يبدو الاختبار سهلًا إلى الآن، لكن ماذا سيفعل الطفل يا ترى لو سئل سؤالًا ليست له إجابة صحيحة على الإطلاق، كأن يُسأل عن اسم شخصية في فيلم كارتون لا وجود له أصلًا؟
وُجِّه ذلك السؤال فعلًا إلى الأطفال، وطُلب منهم ألا يختلسوا النظر إلى الجواب المكتوب، وغادر الباحث الغرفة.
لم يستطع معظم الأطفال مقاومة الرغبة في استراق النظر إلى الجواب، وكل من اختلسوا النظر كذبوا بشأن الغش، وفق ما كشفته الكاميرات المخبأة.
الأهم من ذلك أن الأطفال أصحاب الذاكرة العاملة الأقوى استطاعوا فبركة كذبات أكثر معقولية، فمنهم من قال: «هذا كارتوني المفضل، أشاهده كل سبت»، بل وصمدوا عندما سألهم الباحثون أسئلة كانت كفيلة بكشفهم.
كذب الأطفال سلوك طبيعي، بل وصحي ويدل على التطور النفسي الإيجابي، وفق عالم النفس «كانغ لي»، الذي عكف على دراسة الخداع عند الأطفال لعقدين من الزمن، فالطفل الذي يكذب قد طوَّر مهارات ذهنية عدة، إضافةً إلى تمتعه بقدر من السيطرة على النفس يجعله يتحكم في حديثه وتعبيرات وجهه ولغة جسده، من أجل أن تنجح خدعته.
لهذا، يقترن الكذب بالذكاء والتفرد والإبداع. ابنك الصغير الذي بدأ بممارسة الكذب مبكرًا يتمتع بمهارات اجتماعية أفضل من غيره.
أنا سوبرمان: الطفل يعيش في عالم الخيال
الكذب يعتمد على تطور العقل، فسواء كنت أخدعك أم أتعاطف معك، أحتاج أولًا أن أفهم أن لك عقلًا منفصلًا عن عقلي.
لا يولد الأطفال وفي داخلهم بوصلة أخلاقية، فهم يتعلمون عن طريق الاستكشاف والحصول على ردود أفعال من بيئتهم. وفي سن صغيرة، يجد الأطفال حافزهم في تطبيق «مبدأ المتعة/اللذة»، الذي يدفعهم إلى الحصول على مزيد مما يحبونه وتقليل ما لا يحبونه. وعلى هذا، فمعظم الكذبات التي يقولها الأطفال تكون بهدف تجنب العواقب السيئة، مثل مواجهة العقاب بسبب كسر قطعة أثاث، أو للحصول على شيء يحبونه مثل الحلوى أو المديح.
الأطفال الأصغر سنًّا لا يدركون الفرق بين الحقيقة والخيال، فهم أصحاب خيال خصب، وإذا ارتدى ابنك الصغير زي سوبرمان ستجده يعتلي الطاولات ويقفز ويحاول الطيران، وإذا ارتدت ابنتك تاجًا وفستان أميرة سترى نفسها تسكن قصرًا. الطفولة عالم خصب من الخيال الجامح والاستكشاف، وهنا تكمن متعتها. فَهْمُ الفرق بين الواقع والخيال ليس سهلًا، وبخاصة أن الواقع ربما يكون أقل إمتاعًا وإشباعًا لخيال الطفل.
يعتمد الكذب أساسًا على إدراك الطفل أن الآخرين قد يمتلكون معلومات وأفكارًا تختلف عنه. فإذا أدرك الطفل ما يعرفه غيره وما لا يعرفه، سيتمكَّن من ممارسة الكذب، وسيتمكن كذلك من استيعاب معتقدات الآخرين والتعاطف معهم.
المدهش أن الكذب والقدرات الاجتماعية يعتمدان على تطور نظرية العقل، فسواء كنت أخدعك أو أتعاطف معك، أحتاج أولا أن أفهم أن لك عقلًا منفصلًا عن عقلي. نفس المهارة التي تساعد الطفل على الكذب ستجعل منه شخصًا بالغًا أكثر تقبلًا وتقديرًا للاختلاف.
إذا كنتم لا تزالون قلقين من كذب أطفالكم، لا داعي، فالأطفال يطورون مهارة التلاعب بالحقيقة إلى صورة مقبولة اجتماعيًّا مع الوقت، لينقلب الكذب الصريح إلى مجاملات وتودد إلى الآخرين، أو ما نسميه نحن «الكذب الأبيض». أو قد يستخدم الطفل مهارته في التلاعب بالحقيقة للمناورة بهدف تحويل دفة الحديث بعيدًا عن مناطق شائكة لا يود طرقها، أو في تخيُّر ما يكشفه من معلومات أمام الآخرين لخلق أجواء اجتماعية أكثر انسجامًا.
الصدق منجاة: ماذا لو استحب طفلك الكذب؟
قصص الأطفال التي تحذر من المصير المشؤوم للكذابين، مثل «بينوكيو»، ليست وسيلة فعالة مع الأطفال.
الطفل الذي يكذب مبكرًا ذكي، لكن ما العمل لو استمرأ الكذب واتخذه أسلوبًا في الحياة؟
حينها سنحتاج إلى إثنائه، وتنصحك الأبحاث بأن تدع العصا، فاستخدام المكافآت هو الأسلوب الأفضل لتقويم الصغار، بل إن صور العقاب العنيفة، مثل الضرب، قد تؤدي إلى نتيجة عكسية. هذا ما أثبتته دراسة أجراها «كانغ لي» وعالمة النفس « فيكتوريا تالور»، حين قارنا أسلوبَي العقاب المطبقَين على أطفال في عمر ما قبل الدراسة الرسمية في مدرستين، إحداهما تلجأ إلى العقاب الجسماني والأخرى إلى التوبيخ اللفظي فقط، فماذا وجدا؟
كان الأطفال الذين يعاقَبون جسمانيًّا أكثر ميلًا إلى الكذب، بل وأعلى مهارةً في ممارسته. لهذا ينصح الباحثان بالثناء على الطفل حين يقول الحقيقة، بدلًا من توقيع العقاب عليه إذا كذب.
قد يهمك أيضًا: العاقبة والعقاب: عندما ننتقم من أطفالنا دون أن ندري
اطلب من ابنك أن يَعِدك بقول الحقيقة. ورغم بساطة هذا الأسلوب فإنه ينجح، وفق ما أثبتته دراسات عدة. بل إن عالمة النفس «أنجيلا إيفانز» وجدت أن احتمالات اختلاس الأطفال النظر إلى اللعبة في التجربة السابق ذكرها تقل إذا طُلِب منهم أن «يتعهدوا» بألا يسترقوا النظر. والأغرب أن هذا التكنيك ينجح حتى مع الأطفال الصغار الذين لا يفهمون معنى كلمة «وعد»، وكأن مجرد الاتفاق مع الطفل على أن يقول الحقيقة تفي بالغرض.
أما قصص الأطفال التي تحذر من المصير المشؤوم للكذابين، مثل «بينوكيو»، فالأفضل تركها لأنها تفشل في إثناء الطفل عن الكذب. ربما تكون القصص التي يُقابَل فيها قول الصدق بالاستحسان أفضل تأثيرًا على الأطفال، وإن لم يكن بشكل كبير.
في تجربة غريبة نوعًا ما سعت لإجابة سؤال «كم تتكلف الحقيقة؟»، مَنح «لي» مجموعة من الأطفال دولارين في حالة الكذب بشأن فعل خاطئ ارتكبوه، ومنحهم ما بين 0 و8 دولارات في حالة قول الحقيقة.
كذب أربعة من كل خمسة أطفال حين لم يحصلوا على شيء في مقابل قول الحقيقة، ولم تتغير نسبة الكاذبين إلى الصادقين تقريبًا حين ارتفع مقابل قول الصدق إلى دولارين. ازداد عدد الصادقين فقط حين رفع الباحثون قيمة ما يمنحوه لهم بمقدار 150% مما يحصل عليه الكاذبون. وكأن قول الصدق قرار تكتيكي تحكمه القيمة المالية النسبية للصدق في مقابل الكذب.
ليست هذه دعوة لرشوة الأبناء لاستخلاص الحقيقة منهم، فلا ينبغي أن يكون للصدق ثمن، لكن أهمية هذه التجربة تكمن أساسًا في توضيح مدى ذكاء الأطفال.
هل تنتظر سماع أول كذبة من ابنك؟ أو لعلك تتساءل متى كذب عليك لأول مرة؟
يمكنك أن تساعده في تطوير «نظرية العقل» التي تعطيه الدفعة الأولى، عن طريق ممارسة مجموعة من الألعاب التفاعلية وتدريبات لعب الأدوار التمثيلية.
شروع الطفل مبكرًا في الكذب لا يستدعي غضب أو قلق الآباء، بقدر ما يعطي مؤشرًا إيجابيًّا على تطور الطفل ذهنيًّا وإبداعه في إيجاد حلول لمشكلاته في حدود عالمه، الصغير لو قسناه بسنوات العمر، والشاسع لو قسناه بحجم الخيال والتطور الذي يشهده يومًا بعد يوم. لا تجزعوا عند سماع أول كذبة، وليكن اهتمامكم بتوجيه رسائل تؤكد أهمية الصدق بدلًا من التركيز على دناءة الخداع.
دينا ظافر