انحسار الذائقة وطغيان التكرار: النقد والتاريخ في الأكاديميا الخليجية
نقدُ المنشورِ بجميع صوره من الكتب والرسائل العلمية والمقالات المحكَّمة وظيفةٌ ينبغي أن تلازم كل باحث ومتخصص وعالم. النقد ليس أمرًا مبتدعًا لكي نسلط الضوء عليه، إنما هو حقيقة مشاهَدة، كُتب فيه الكثير من الكتب وشرحته بمفاهيمه المتعددة، فرجل الشارع وربما حتى الأمي يعرف أن هناك مفهومًا يسمى «النقد»، تسرب إليه من ثقافته اليومية وخبراته المختلفة، لكنه قد يجهل تفاصيله وتعريفاته العلمية الدقيقة.
لماذا النقد والأكاديميا، ولماذا الخليج والتاريخ؟ أما بالنسبة للشق الأول فجوابه أن النقد لا يموت مهما تطورت الحياة، وأما الأكاديميا تحديدًا فلأنها بدأت تستحكم على الأقل في ما أعرفه من الأوساط. بالنسبة للتاريخ والخليج فهذان جزءان من حياتي اليومية، ولعل خبرتي ومعرفتي بهما أكبر من خبرتي في أي شيء آخر في هذه الحياة.
في كتب مناهج البحث للباحثين والمؤرخين العرب نجد تخصيصهم جزءًا منها للنقد، فالمؤرخ حسن عثمان على سبيل المثال في كتابه «منهج البحث التاريخي» قد خصص الفصل الرابع وفصولًا أخرى لمسألة النقد، وفصّل فيه تفصيلًا جميلًا من خلال تعريف أهمية النقد ومراحله، وعرف القارئ بنقد الأصول وبالنقد الإيجابي والسلبي من خلال أمثلة مختلفة. كذلك الناقد الأدبي عثمان موافي نشر كتابًا عنوانه «منهج النقد التاريخي الإسلامي والمنهج الأوروبي»، ناقش فيه الكثير من المفاهيم، وشرح نقد المضمون، وفند مسألة نقد المتن ومضمونه وغيرها من المسائل في المنهج.
لم يتوقف جهد الباحثين العرب عند ذلك، بل حاولوا وصل تراثنا الحالي بتراث المسلمين الأوائل من خلال إثبات وجود مناهج نقد تاريخية عند المؤرخين المسلمين الأوائل، كما فعل أيمن فؤاد سيد في كتابه «الكتابة التاريخية ومناهج النقد التاريخي عند المؤرخين المسلمين». هذه أمثلة فقط من عشرات بل مئات الكتب في مناهج النقد التاريخي عند العرب والمسلمين، ومثلها في العدد والجودة في لغات العالم الأخرى.
تراجع مستوى النقد العلمي والأكاديمي لِما كتب عن التاريخ في الخليج العربي بشكل ملحوظ، خصوصًا في السنوات العشر الأخيرة. هذا التراجع أوجد نوعًا من التساهل في كتابة التاريخ الخليجي عند المتخصصين وغير المتخصصين كذلك. فمن نتائج هذا التساهل انحدار مستوى كتابة التاريخ، وبعد الكثير من المؤلفات عن أبسط قواعد المنهج العلمي، بل ثمة كتب لا تتبع أي منهج في الكتابة التاريخية. قد يتساءل بعضهم: وهل نقد المكتوب في التاريخ الخليجي كان موجودًا ثم تراجع؟ الجواب نعم، كان في منتصف القرن العشرين وحتى بدايات القرن الحالي نوع من أنواع النقد العلمي المعلن والمكتوب بين الباحثين والمؤرخين.
فعلى سبيل المثال ما كتبه المؤرخ سيف الشملان في نقد المؤرخ عبد العزيز الرشيد، إذ ذكر في مقدمة كتابه «من تاريخ الكويت» أن الرشيد رفع ذكر بعض الخاملين، وغض الطرف عن مآثر رجال آخرين، كما أنه «حشر في كتابه بعض الموضوعات التي ليست من التاريخ»، وبعدها شكر الشملان عبد العزيز الرشيد على جهده. رد عبد الله الحاتم وهو مؤرخ كويتي على نقد الشملان للرشيد في كتابه «من هنا بدأت الكويت»، وانتقد الشملان مدافعًا عن عبد العزيز الرشيد فقال: «إننا نعتب على الأستاذ سيف المرزوق الشملان عند تعرضه في مستهل كتابه ... لنقد كتاب تاريخ الكويت ... لأنه (أي الرشيد) اعتمد في جل حوادث تاريخه على النقل والرواية، وهذا بزعم الأستاذ سيف عيب تاريخي ... ونحن في الوقت ذاته نرى الأستاذ سيف يستقي كل مقومات كتابه منه».
هذا النقد المطبوع والذي كان قاسيًا خصوصًا من طرف عبد الله الحاتم في وصفه للشملان بصفات قبيحة شخصية، وإن كانت على سبيل التساؤل، كان له في إطار النقد العلمي لمنهج الشملان في النقد، وكذلك فعل الشملان مع الرشيد له الإطار النقدي ذاته للمنهج.
هذا من جانب المؤرخين غير الأكاديميين، أما على المستوى الأكاديمي فمتمثل في ما نشره عبد الله العثيمين رحمه الله في نقده ميمونة الصباح (وكلاهما أستاذ جامعي متخصص في التاريخ الحديث) عندما كتبتْ تاريخ الكويت. نشر العثيمين المقال في جريدة القبس الكويتية عام 1989، ثم ضمَّنه في كتابه «محاضرات وتعليقات في تاريخ المملكة العربية السعودية». ينتقد العثيمين منهجية ميمونة الصباح وطريقة توثيقها للمصادر والمراجع، فيقول: «من أبرز قواعد البحث العلمي أن يكون الباحث دقيقًا في تعامله مع المصادر والمراجع التي اعتمد عليها في بحثه ... ومن قواعد البحث العلمي ألا يعتمد الباحث على مرجع ثانوي ما دام المصدر الأساسي موجودًا لديه».
لست هنا بصدد تقييم كتابات أيٍّ من المؤرخين المذكورين: الشملان والحاتم والعثيمين والصباح، ولا طريقة نقدهم، لأن هناك نقدًا على نقدهم، ولكنني بصدد إثبات أن النقد وبشكل صريح ومكتوب كان جزءًا من تاريخ النقد في الخليج. وللمهتمين برأيي في ما كتبه الشملان والحاتم وغيرهما من مؤرخي الكويت، أرجو مراجعة بحثي «نقد مضمون مصادر تاريخ الكويت ومنهجيتها».
الأكاديميا والنشر في الخليج بين النقد والتصحيحات اللغوية
لعل من المعروف عند مَن كتب ونشر في الصحف والمجلات قبل ثورة الإنترنت وظهور وسائل التواصل الاجتماعي في حياتنا، أن الكاتب عندما يرسل المقال لجهة النشر يكون هناك تدقيق من ناحيتين: موافقة المكتوب للسياسات العامة للنشر في هذه الجهة، والتدقيق اللغوي من خلال جعل المقال يخرج للقراء بأفضل صورة.
ما النقد المطلوب من المجلات ودور النشر؟ وهل لهذا النقد معايير محددة يجب أن تتوافر في الكتاب أو المقال؟
أسهم ضعف النقد وضيق اطلاع المحرر في أن تنشر هذه الصحف والمجلات والتي لها ثقلها الإعلامي والصحفي مقالات مسروقة سببت لها حرجًا كبيرًا، مما أدى إلى اعتذار الكثير منها عن هذه السرقات علنًا. إن ثقافة النقد التي تكاد تكون مختفية من الصحافة الخليجية هي انعكاس لواقع أعمق للمجتمع، وهي دون شك انعكاس للطبقة المثقفة والأكاديمية.
لعل المجلات العلمية المحكَّمة ودور النشر هما الرافدان الأساسيان اللذان يجب عليهما تطبيق النقد بصرامة، لكن يبدو أن كثيرًا من المجلات العلمية ودور النشر، خصوصًا في ما يتعلق بالخليج وتاريخه، يكاد لا يدرك معنى ومفهوم النقد بشكله العلمي. يظهر ذلك جليًا من خلال ردود المجلات العلمية على الباحثين، أو مما هو منشور من كتب تاريخية في السنين العشرين الأخيرة. ومن المهم في هذا المقام أن نوضح أن بعض المجلات ودور النشر تطبق هذه المعايير النقدية، وهذا منعكس على ما تصدره وتنشره من مقالات وكتب، فلولا الغيث يُحيي الأرض لرعي الهشيم.
ما النقد المطلوب من المجلات ودور النشر؟ وهل لهذا النقد معايير محددة يجب أن تتوافر في الكتاب أو المقال؟
يلاحظ مَن نشر في بعض المجلات الخليجية المحكمة ضعفًا في طريقة نقد المحكمين، فهناك تركيز كبير على نقد لغة الكتاب أكثر من نقد البحث ذاته.
لعله من المهم في مستهل هذا الحديث أن نذكر تعريف النقد في اللغة، فأحد معاني النقد في اللغة: كشف العيوب، ويقال نَقَدَ الدراهم أو الدنانير إذا ميز الأصلي من المزيف منها. لن أخوض في المعنى الاصطلاحي للنقد لأنه يختلف من فن إلى فن، ولكن لا شك أن معايير النقد الأكاديمية واضحة ومحددة، وهذا سيكون الأساس الذي ننطلق منه.
الناقد أو المحكِّم الذي ينظر في الكتاب أو المقالة العلمية عليه أن يتأكد من:
- فكرة البحث أو الكتاب، وهل هي تكرار أم إضافة لما هو مكتوب؟
- وجود المنهج، وهل الأدوات المستخدمة تتطابق مع المنهج المستخدم؟
- سؤال البحث ومدى ملاءمته للحقل العلمي التاريخي في المقال.
- هل غطى الباحث الدراسات السابقة وانتقدها وبين الخلل إن وجد؟ وما الإسهام الذي سيضيفه الباحث للحقل العلمي؟ هل سيبني على هذه الدراسات أم سيسد خللًا فيها أم سيستخدم منهجًا مغايرًا؟
- هيكل البحث، ومدى مواءمته للفكرة العامة لسؤال الباحث الذي يحاول الإجابة عليه.
ويبقى السؤال: هل ما سبق وحده معايير نقد البحث العلمي؟ لا شك أن الإجابة لا، فهناك بعض الأمور الأخرى مثل التعميم والتحيز وحجب الآراء المخالفة، وفي التاريخ الخليجي تحديدًا هناك تاريخ مثالي وردي، كما أن هناك مسلّمات كثيرة تجعل الفكرة العامة مهزوزة. وهناك استنتاجات الباحث أثناء المناقشة والتحليل، ونتائج البحث، وأصالة البحث، وتوصيات البحث، وغيرها من المعايير التي يمكن أن يطّلع عليها من يحب الاستزادة في كتب المناهج والبحث العلمي.
يلاحظ مَن نشر في بعض المجلات الخليجية المحكمة ضعفًا في طريقة نقد المحكمين، فهناك تركيز كبير على نقد لغة الكتاب أكثر من نقد البحث ذاته، وهذا ضعف من إدارة التحرير أو المحكم نفسه.
إدارة تحرير المجلة هي المسؤولة عن تقييم البحث حال وصوله، وهي التي تنقله للمحكمين المختصين في الموضوع. فمثلًا لو كتب باحث عن تاريخ البحرين السياسي في القرن الثامن عشر بناء على الوثائق العثمانية، فمن المهم أن ترسل إدارة التحرير المقال لمن يجيد التعامل مع الوثائق العثمانية ويعرف لغتها، وفي الوقت نفسه ترسله لمتخصص في التاريخ السياسي للبحرين. فأسباب الرفض دون شك ستكون لصالح الباحث ليطور من نفسه وبحثه.
الإشكال، من خلال تجربتي الشخصية، يكمن في إرسال الأبحاث لمن لا يعرف خفايا وعمق الموضوع، أو لصاحب تحيز، كإرسال بحث عن تاريخ المذاهب الفقهية لشخص عُرفت عنه معاداته لذلك، أو ربما إرسال بحث عن طبقة اجتماعية لشخص عنصري وغير منصف تجاه هذه الطبقة، وهكذا.
هناك تركيز كبير على قضايا اللغة العربية وعلامات الترقيم، وكذلك على الهوامش وطريقة كتابتها، أكثر من التركيز على فكرة البحث أو المنهجية. وحتى لا يلتبس الأمر فأنا لا أقلل من قيمة النحو والصرف والإملاء أو علامات الترقيم، فهي مهمة جدًا في إيصال المعلومة وتسهيل القراءة، وهي كذلك جزء أصيل من لغتنا التي نعتز بها، لكن أن يكون تركيز الناقد أو المحكم للبحث التاريخي على هذه النقاط ويترك الفكرة العامة للبحث، ويكون نقده لهذه الفكرة وللمنهجية أقل بكثير من تصحيحه للغة فهذا هو الخلل.
قد تكون أسباب تركيز بعض المحكمين والنقاد على هذه الأمور راجعة للأموال التي تدفعها بعض المجلات الخليجية ودور النشر العربية لهم، دون وجود معايير واضحة تحدد الدور المطلوب من المحكم بشكل دقيق. نعم هناك معايير عامة ترسَل للمحكم (وقد مارست التحكيم في أكثر من مجلة علمية خليجية)، والمعايير التي ترسل شكلية أكثر منها عملية، كمواءمة موضوع البحث للحقل العلمي وغيرها من الأمور العامة جدًا.
بالنسبة لي، يعد دفع المال مقابل التحكيم إشكالية أخلاقية قد يخالفني كثيرون فيها، لكن في دولنا العربية عمومًا والخليجية خصوصًا، قد تُستخدم هذه الطريقة لتصفية حسابات شخصية أو ربما تسهيل نشر مقالات ضعيفة، وهناك العديد من القصص التي يسمعها المهتم والأكاديمي، لكن لا يستطيع التطرق إليها لأنه لا يملك عليها دليلًا ماديًا.
حتى تتضح الصورة عن ضعف النقد بشكل أكبر، أضرب مثالين يتعلقان ببحثين أرسلتهما منذ سنوات لمجلات علمية خليجية، وأنا أمتلك جميع الأوراق والردود والرسائل الإلكترونية. أحد هذين البحثين قُبل ونشر، والآخر رُفض ولم ينشر. ولأن التحكيم سري فسوف أحافظ على خصوصية المجلتين ولن أذكر الأسماء، لكنني سأقتبس من الردود التي وصلتني.
في أحد البحثين كتب أحد المحكمين أكثر من 22 ورقةً في رده يصحح لي علامات الترقيم ويضع التنوين ويصحح همزتي الوصل والقطع، وربما علق على مصطلح لا يعجبه مثل «العقد الاجتماعي»، ويرغب أن يكون مكانه «الشورى» دون توضيح سبب رفضه للمصطلح، وغيرها من الأخطاء التي تمثل جانبًا ثانويًا في المقال. أكثر من 25 ورقة كتبها المحكم، لم يناقش فكرة المقال فيها إلا في ورقتين اثنتين وحسب، وعلى شكل تساؤلات لا نقد فعلي.
تعرضت كذلك في أحد البحثين لكشف هويتي للمحكم في ما أعتقد، فالتحكيم يجب أن يكون سريًا من طرف المحكمين والباحث، فلا يعرف أحد منهم الآخر. قد يعرف المحكمون صاحب البحث إن نُشر بعدها، لكن من العسير جدًا على الباحث أن يعرف من عمل على تحكيم بحثه.
أحد البحثين عُرض على ثلاثة محكمين لاختلاف الآراء، وهذا ما أفادتني به المجلة من خلال رسالة بريد إلكتروني. لكنها في الوقت ذاته لم ترسل لي جميع آراء المحكمين، وإنما أرسلت لي رأي محكم واحد، ولعل هذا المحكم يعرفني وكُشفت هويتي له.
العبارة التالية مقتبسة من الإيميل الرسمي الذي وصلني من المجلة: «وأن العرض الذي قدمتموه لا يرتقي إلى المستوى المطلوب من باحث متميز». لا شك أن قبول البحث ورفضه أمر طبيعي في عالم الأكاديميا والنشر العلمي، لكن كيف عرف المحكم أنني باحث متميز؟ أم أنه يقصد أن العرض يجب أن يوافق كلمة الباحث المتميز وفق معاييره؟ وهل الباحث المتميز هو الوحيد الذي يستطيع النشر، بينما الباحث العادي أو المبتدئ لا يمكنه النشر؟ وما دوره كمحكم في تطوير الباحث العادي أو المبتدئ والارتقاء بمستواه ليكون باحثًا متميزًا؟
لا زلت أعتقد أن المحكم كُشفت له هويتي كباحث، لأنه ذكر أمورًا لم أكتبها في البحث أصلًا، مثل «وكذلك حصة المطاوعة». راجعت ما أرسلت كاملًا ولم أجد لفظ «مطاوعة» بالهاء أو التاء المربوطة. ويستمر المحكم في رفضه للبحث بحجج قابلة للنقض أو التأييد، لكن لم يكن لي القدرة على الرد، وكذلك لم ترسَل لي آراء المحكمَين الآخرين اللذين حكما البحث حتى أستفيد من رأيهما وأقارنه بالرأي الذي وصلني، وأستفيد من الردود الثلاثة.
هذه الأمور وغيرها تبين مدى ضعف بعض المجلات الخليجية خصوصًا على مستوى إدارة التحرير والمحكمين، وأن بعض هذه المجلات لا تتمثل المبادئ الأخلاقية في أي شيء من سياساتها وإن كانت مطبوعة على الورق.
أزمة النشر في التاريخ الخليجي بين التطبيل والتقبيح
من مزايا النشر وعرض الأفكار على الباحثين والناس وجود المؤيدين والمخالفين، ولذلك قيل «العلم رحم بين أهله»، فعلاقة الباحثين ببعضهم يجب أن تكون كعلاقة الإنسان بأرحامه، فيها من المودة والمحبة والنصيحة والنقد الشيء الكثير.
مجرد المدح يهلك الباحث ويجعله يعيش في فقاعة وبرج عاجي هو في غنى عنه، فكيف يتطور الباحث إذا لم يسمع ويعقل وجهات النظر المخالفة له؟ مجرد وجود وجهة نظر مخالفة لا يعني لزوم الأخذ بها، لكن يلزم الباحث تقييمها والتفكير فيها، فإن كانت صحيحةً اعتنقها وطور بها أفكاره، وإن كانت غير ذلك رد عليها وفندها دون تجريح أو استخفاف.
المتابع للكتب والنشر في التاريخ الخليجي يجد حساسية كبيرة من الكتاب والباحثين ضد أي نقد موجه لهم، خصوصًا في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى صار غالب من يكتب يتوقع المدح لا النقد. وفي تويتر تجدهم يعيدون تغريد مديح الناس لهم، وهذا لعمري مما يخرم العلم ويقلل من قيمة الباحث.
كذلك صارت بعض الكتب المدرسية التي كُتبت من أجل تسهيل مادة التاريخ على طلبة الجامعات من أمهات الكتب في ميدانها، وذلك بسبب التطبيل الذي يناله هذا الكتاب المدرسي وصاحبه، بل وتباع هذه الكتب بأغلى الأثمان في المكتبات التجارية. تسهيل العلم والتاريخ على طلبة الجامعة من الأمور المستحبة المطلوبة، فالتفكير والفهم يتطور بتطور خبرة الإنسان وعمره، لكن وجود التعظيم والتطبيل والمقارنات بين هذه الكتب المدرسية وكتب لها إضافات حقيقية في حقل التاريخ العلمي لهو أمر يدعونا للمراجعة والتصحيح.
على النقيض نجد قضية التقبيح لما لا يتوافق مع بعض أفكار وأجندات وربما آراء بعض الأكاديميين، فالكتب التي تكتب ولا يتوافق معها البعض تتعرض للتقبيح والانتقاص بطريقة غير نقدية ولا علمية، لأن مكان النقد لهذه الكتب هو المجلات العلمية المحكمة، فهي التي تنشر مراجعات الكتب في إطار علمي.
هل المجلات العلمية هي الميدان الوحيد لمن أراد النقد؟ برأيي نعم، إن كان أكاديميًا أو ينتقد في مواقع ومنصات فيها قراء ومهتمون بالتاريخ، مثل موقع غودريدز مثلًا. الانتقاص من الكتب والأفكار في تويتر يضر ولا ينفع، فالتغريدات على نفعها في مجالات أخرى تكون قليلة القيمة عندما يتعلق الأمر بنقد كتاب أو مقال علمي.
الكتب والمقالات العلمية تتم مراجعتها من قبل مجموعة من المختصين وكذلك من قبل المؤلف ذاته، ومع ذلك يكون فيها الأخطاء والنواقص، لكن هذا لا يُنقص من قيمة الأفكار والمناهج في تلك الكتب.
على سبيل المثال، كتابي «Kuwait's Politics Before Independence» الذي صدر عام 2019، راجعته أنا والمحرر اللغوي وثلاثة محكمين والناشر، ومع ذلك لا زلت كلما تصفحته وجدت فيه بعض الأخطاء التي لا بد أن تعدل في الطبعات القادمة، لكنها ليست أخطاء تمنع من النشر.
مثلًا، في الفصل الثاني من الكتاب، الهامش 83، وجدت أنني كتبت صفحة 84 في المصدر الذي اعتمدت عليه، ولكنها في حقيقة الأمر صفحة 80. وكذلك في الفصل الثالث وجدت أن الهوامش 85 و86 و87 مفقودة ولم تُطبع ضمن هوامش الكتاب. وفي جانب المعلومات، ذكرت قصة شهيرة في تاريخ الكويت هي قتل العبد عنبر المسؤول عن الميناء، وقلت إنها حدثت في عهد الشيخ عبد الله الثاني بن صباح، بينما هي حدثت في عهد والده صباح بن جابر، وغير ذلك من الأخطاء.
التطبيل والتقبيح ليس للبحث العلمي بقدر ما هو خاص بمن يرغب في الشهرة والأضواء، أما الباحث فيختص بالنقد والحوار ويتبادل الآراء عن طريق القنوات العلمية الصحيحة.
كذلك في كتب وأبحاث أخرى وجدت بعض الأخطاء بالرغم من مرور هذه الأبحاث على المحكمين وعلى إدارة التحرير، مثل وجود بعض الأخطاء في طبعات الكتب. فعلى سبيل المثال، وجدت في بحث من الأبحاث أنني استعنت بكتاب عبد العزيز الرشيد «تاريخ الكويت» طبعة 1926 وكتبت المطبعة العصرية القاهرة بدلًا من بغداد أو طبعة دار الحياة أو دار قرطاس وتاريخ النشر يكون 1926 أو غيره. وهذه الأخطاء يجب على الباحث أن يدقق فيها وألا تفوته، لكنها في الوقت ذاته ليست بالأخطاء التي تستحق النقد والتقبيح، وكذلك هذه الأخطاء ليست من الأخطاء التي يُلام عليها المحكم في حال فشله في تصحيحها أو التأكد منها.
هنا نذكر بعض المقولات لأعلام في الحضارة الإسلامية يذكرون أن الأعمال لا تكتمل، وأن المؤلف مهما حاول درء الخطأ لن يقدر على ذلك. من ذلك قول الجاحظ في كتابه «الحيوان»: «ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفًا أو كلمة ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حُر اللفظ وشريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام». أو ما ذكره البيساني معتذرًا للأصفهاني عن كلام استدرك عليه: «إنه قد وقع لي شيء وما أدري أوقع لك أم لا، وها أنا أخبرك به، وذلك أني رأيت أنه لا يكتب أحد كتابًا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل. وهذا أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر».
التطبيل والتقبيح ليس للبحث العلمي بقدر ما هو خاص بمن يرغب في الشهرة والأضواء، أما الباحث فيختص بالنقد والحوار ويتبادل الآراء عن طريق القنوات العلمية الصحيحة. «فاشنيستات التاريخ» مقال كنت قد كتبته في السابق عن إشكالية التطبيل لدى بعض الباحثين ممن حصلوا على درجات علمية عالية ومناصب إدارية كبيرة، لكن هدفهم الأساسي البقاء تحت الأضواء العلمية دون اكتراث للوسيلة المستخدمة، فكم من باحث جاد ظُلم بسبب تقبيح هؤلاء أعماله ومحاربته، وعدم إتاحة الفرصة له لأن يُظهر ما عنده من أفكار من خلال القنوات العلمية التي يسيطر عليها بعض أهل التطبيل والتقبيح.
التعامل مع هؤلاء الأكاديميين الذين يتخصصون في التطبيل والتقبيح الإلكتروني يكون من خلال نقد أعاملهم علنًا، نقدًا علميًا موزونًا يسهم في دوران عجلة التصحيح والتعديل في الأكاديميا، وينعكس دون شك على المجتمع. هذا الدور يجب أن تتولاه مجموعة من الباحثين على مختلف توجهاتهم الفكرية، حتى لا يسهل على الطرف المطبل أو المقبح أن يضع الناقد في خانة معينة، فينتقص من عرقه أو مذهبه أو انتمائه الفكري.
التحيز السلبي أو التعصب في التاريخ الحديث وأزمة المسلَّمات من المسائل التي تعرقل مسيرة تطور العلوم الإنسانية والاجتماعية بشكل عام في الخليج، وكذلك ضعف الكثير ممن يمتلك زمام أمور الثقافة والأكاديميا بالخليج في المناهج وطرق البحث والنقد، فيصير كل ما خالفهم خطأً، وهذا يولد ضعفًا في مؤسسات الدول الأكاديمية والثقافية، وقد يقود لنظرة شخصانية ضيقة تجاه من يسبح عكس تيار التطبيل والتقبيح.
على الأكاديميين والمثقفين في دول الخليج الانتفاض وخلق ربيع ثقافي جديد يطيح بمن يتحكم اليوم في مجالات الثقافة والعلم وهو بعيد عنها، وعلى مؤرخي الخليج الانفكاك من المسلمات التاريخية التي قيدتنا فترة طويلة، ويدل عليها تكرار المواضيع البحثية ذاتها في الرسائل والأبحاث والكتب.
لكن مما يبعث في النفس التفاؤل والأمل وجود نوع من أنواع التغيير على مستوى ضعيف في كتابات التاريخ الخليجي، نلمسه في مجموعة من الإصدارات والأبحاث المنشورة خلال السنوات العشر الأخيرة، لكن ظاهرة النقد العلمي العلني لا تزال خافتة على مستوى المؤرخين في الخليج، وأتمنى أن تنمو في الأيام والأعوام القادمة.
من أمثلة هذه الكتب والأبحاث ما كتبه الأكاديمي السعودي خالد الدخيل «الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة»، وهي ترجمة لرسالته للدكتوراه، ونُشرت الترجمة في 2013. وكذلك أحسن الدكتور عويضة الجهني فعلًا بترجمة رسالته للدكتوراه في 2016، والتي هي بعنوان «نجد قبل الوهابية». وهناك جهود المؤرخ السعودي أحمد عبد العزيز البسام، ومنها على سبيل المثال «الحياة العلمية في وسط الجزيرة العربية» الصادر في 2005.
ومن الباحثين الشباب الذي لهم إسهامات مختلفة ومهمة في تاريخ الخليج والجزيرة العربية نذكر على سبيل المثال لا الحصر إصدارات عمر الشهابي، ومنها «تصدير الثروة واغتراب الإنسان» وغيرها من المؤلفات القيمة، وفيصل عادل الوزان وكتابه «بلاد البحرين في فترة الإمارتين العيونية والعقيلية: دراسة لتاريخ الخليج العربي في مرحلة ما بعد القرامطة»، والدكتور حمد عبد الله العنقري وكتابه «مكتبات الدولة السعودية الأولى المخطوطة».
وباللغة الإنجليزية من رسائل الدكتوراه المهمة في وجهة نظري رسالة طلال الرشود التي ناقش فيها القومية العربية والتعليم في الكويت «Modern Education and Arab Nationalism in Kuwait, 1911-1961»، وكذلك ما ينشره الدكتور فهد بشارة في التاريخ البحري والاقتصادي للخليج وربطه بالمحيط الهندي هو جهد رائع وعظيم، وكم أتمنى لو زاد نشر طلال وفهد باللغة العربية ليستفيد المؤرخ والباحث الخليجي من هذه الأفكار غير المتداولة بشكل كبير في أوساط الأكاديميا الخليجية.
عبد الرحمن محمد الإبراهيم