فن الهزيمة: كيف نتعلم الخسارة بكرامة وشرف؟
نعيش في مجتمع يفوز فيه القوي بكل شيء، ويستولي الفائز على كل الغنائم، لذا تربينا منذ الصغر على المنافسة في كل الأوقات، فنحن نتناقش لجذب انتباه آبائنا، ومن أجل صنع صداقات جديدة، وللحصول على أعلى الدرجات، ولتحقيق انتصارات عظيمة في الرياضات والمناظرات.
عندما كبرنا ودخلنا مجال العمل، تعلمنا كيف نكون أكثر تنافسية، وكيف «نكسب زبون»، وكيف ننتهز الفرص لنحقق المكاسب في السوق والسياسة والاقتصاد وكل المجالات الأخرى، وتعلمنا أن للنصر مذاقًا حلوًا، أما الهزيمة فطعمها لاذع دائمًا.
لكن الحياة ليست كلها انتصارات بالضرورة، فالهزيمة هي الوجه الآخر للمكسب، والجانب المقابل من كل منافسة ناجحة. ومع أن الجميع أعطانا نصائح بخصوص المنافسة والفوز، لم يعلمنا أحد كيف نخسر، وهذا ما حاول «تيم ليبرشت» أن يفعله في مقاله المنشور على موقع «TED»، أن يعلمنا فن الهزيمة، ليس لأنها جزء جوهري من حياة جميع البشر فحسب، وإنما لأن التطورات التقنية التي يشهدها العالم تهدد في رأيه بـ«هزيمة شاملة للإنسانية».
الهزيمة أكبر من مجرد فشل
يبدأ ليبرشت بتأكيد أن ثَمَّة حركات عالمية تشجع قادة ومؤسسي الأعمال على الاعتراف بفشلهم في بداية حياتهم العملية، وتحثهم على رواية قصص هذا الفشل، لكنه يشير إلى أن الفشل يختلف عن الهزيمة، فالفشل سريع ومفاجئ، بينما الهزيمة بطيئة ومؤلمة ولا تضمن احتمالية التعافي التام منها أبدًا، لأن ما فشلنا فيه نستطيع إصلاحه، لكن ما فقدناه ضلَّ واختفى تمامًا.
نحاول منذ عقود تضييق مجالات الخسارة حتى لا نشعر بوصمة العار المصاحبة للهزيمة، وأدى هوسنا بالفوز إلى إنتاج مجتمع فاشل، لا يعرف فنًّا إلا «فن الصفقة»، والفائزون فيه هم أفضل صانعي الصفقات.
لكن هذه الطريقة في التفكير لا يمكن لها الصمود طويلًا، أولًا لأسباب إنسانية بحتة، إذ علينا بالتأكيد أن نتعلم كيف ننهزم في حال انهزمنا، لكن السبب الأهم أن التطورات التقنية التي يشهدها العالم تبشر بمجتمع جديد، تصبح الهزيمة فيه أشد وطأةً وأكثر احتمالًا.
اقرأ أيضًا: تقنيات الذكاء الصناعي: هل حان أوان القلق بشأن مستقبلنا؟
الهزيمة قادمة
درع الإنسانية الأكبر هو القدرة على تلقي الهزيمة والتعامل معها، فالآلات تستطيع التوقف عن العمل، لكن هذا فشل وليس هزيمة.
يرى ليبرشت أن الهزيمة ستكون أشد خطرًا في بيئة العمل المستقبلية، ولن تكون الخسارة مسألة شخصية، بل ستكون السمة المميزة للإنسانية كلها، فبعد أن تحل البرمجيات والإنسان الآلي محل القوى البشرية في العمل بنسبة 50% في العقدين القادمين، ستختفي الكثير من الوظائف، وسيزيد جنون الاقتصاد.
في بيئة عمل فائقة المرونة كهذه، ستقل المناصب والسلطات وسيضعف تحكم الإنسان في العمل والصناعة، وسنجد أنفسنا في منافسة ظالمة مع آلات أذكى وأكثر كفاءةً منا بكثير، وسيفقد العمل دوره التقليدي كأداة للترقي الاجتماعي.
بمواجهة هذه الآلات والتعرض للمنافسة القاسية سنتحول بدورنا، إذا احتفظنا بثقافتنا التنافسية الحالية، إلى آلات مشابهة، وفي هذه الحالة سيكون درع الإنسانية الأكبر هو قدرتها على تلقي الهزيمة والتعامل معها، فالآلات تستطيع التوقف عن العمل بالتأكيد، إلا أن هذا فشل فقط وليس هزيمة.
وبمناقضة الآلات، علَّمت الهزيمة البشر الأخلاق، ففي غياب ضمانات الفوز، نلجأ إلى القواعد الأخلاقية التي تضمن بعض الحماية للمهزومين، أما الفائزون دائمًا فلن يكونوا أبدًا في حاجة إلى أي أخلاق، وهكذا تصبح الخسارة ضامنة لبقاء إنسانيتنا كما نعرفها، واستمرار أخلاقنا في الوجود.
الهزيمة جوهر الإنسانية
المهزومون يرون جانبًا آخر من القصة، فآخر المتسابقين شاهد كل الأحداث بوضوح تام، ويمكنه رواية الكثير من القصص.
نحتاج إلى خلق أنظمة وقواعد جديدة تسمح باستعادة أرواحنا عند الهزيمة، ومن الممكن أن يشمل هذا خدمات العلاج النفسي الجماعي ومراكز تقديم الاستشارات المهنية لمن يريدون تغيير وظائفهم، وسيزداد اهتمامنا بالآداب والعلوم الإنسانية باعتبارها وسائل لدخول حيوات وعوالم غريبة وبعيدة ومفقودة، تعيد توطيد صِلاتنا بإنسانية مهددة.
سنطالب كذلك بقادة لمجتمعاتنا يملكون القدر الكافي من التواضع ليقرُّوا بأن مكاسبهم قد لا تكون أكثر من انتصارات صغيرة وباهظة الثمن، إلا لو تمكنوا مثلًا من خلق عدالة اجتماعية حقيقية، لا مجرد إرضاء مؤقت لجماعة بعينها، أو تحقيق مكسب مغرض.
يشير ليبرشت إلى إحدى دورات سباق الدراجات الفرنسي الشهير «تور دو فرانس»، إذ يتسلم الفائز جائزة «القميص الأصفر» التي تجعله ظاهرًا للجمهور بوضوح، أما الأخير فلا يتسلم أي جائزة، ويطلق عليه محبو اللعبة لقب «الفانوس الأحمر»، نسبةً إلى المصباح الأحمر المعلق في الطرف الخلفي للقطار.
الكاتب «ماكس ليونارد» ألَّف كتابًا كاملًا عن هذا المتسابق بالذات، فمن وجهة نظر معينة قد يكون أهم شخص في السباق، فهو يشاهد كل حدث بوضوح تام، وهناك الكثير من القصص التي يمكنه روايتها عن هذا الحدث. بالطبع هذه رؤية جديدة للخسارة يجب وضعها في الحسبان، فالمهزومون يرون جانبًا آخر من القصة، ربما يُفقَد إذا لم نعترف لهم بحق الرواية.
بما أننا ننوي الانسحاب والتنازل عن مجال العمل لحساب أنظمة آلية، علينا أن ننظر إلى حياتنا كما لو كانت خطاب تنازل طويلًا، نعلن فيه تنحينا، ويجب أن لا نُظهر إحباطنا العملي وخساراتنا الشخصية التي ستنتج عن هذا الوضع المستقبلي كما لو أنها ظهرت في حياتنا فجأة، إنما يجب تأكيد حقيقة أن الهزيمة كانت دائمًا أساسًا مشتركًا للإنسانية، صار أوسع نطاقًا فحسب.
مهمتنا جميعًا أن نتعلم كيف نخسر بكرامة وشرف، وأن نفهم أن الهزيمة واحدة من الأشياء الجوهرية التي تجعل الإنسان إنسانًا.
ميادة الشهاوي