لحوم مُصنَّعة معمليًّا: هل هي فرصتنا الأخيرة لتفادي أزمة الغذاء؟
تنتج البشرية ما يقرب من 300 مليون طن لحم جاهز للتناول سنويًّا. ليست المفارقة هنا فقط، ولكن في أن ثلث هذه الكمية كان يُنتَج في سبعينيات القرن العشرين، وارتفعت 20% في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، طبقًا لمنظمة «Worldwatch». ولا يُتوقع أن تقل هذه النسبة بأي حال من الأحوال، فالتقديرات تشير إلى أن عدد سكان الأرض سيصل إلى نحو 9.6 مليارات نسمة في عام 2050.
استهلاك الموارد الذي يتزايد طرديًّا بازدياد نسبة السكان منطقي جدًّا. وعندما يزداد عدد السكان من 7.6 مليارات إلى 9.6 خلال 30 عامًا، فلا بد من أن نعي أن علينا إيجاد طرق جديدة ومختلفة من أجل سد هذه الاحتياجات.
في حالة الموارد البروتينية المتوفرة في اللحوم، والتي لا يُتوقع أن يقرر البشر التخلي عنها قريبًا، فإن الطريقة التي اتبعناها من أجل سد احتياجاتنا المتزايدة بشكل جنوني، في أقل من 50 عامًا مضت، كان عن طريق إنشاء البيوت الخضراء، والمزارع المختلفة لتربية الحيوانات بشكل جماعي ضخم.
مشكلة هذا الحل، حسبما يشير تقرير منظمة «وورلدووتش»، أن هذه العملية مكلفة على كل الأصعدة، فتربية آلاف الحيوانات في مزرعة يستلزم موارد ضخمة من أجل ضمان الحفاظ على هذه الحيوانات والاستفادة منها، وإتاحة الفرصة لها للتزاوج والولادة، ثم رعاية الحيوانات الصغيرة.
يتمثل جزء كبير من هذه الموارد في المساحات الخضراء الشاسعة التي تحتاجها هذه المزارع، والقدر الرهيب المطلوب من الماء. من أجل تكوين صورة أفضل، يمكنك أن تعلم أن 75% من الأراضي الزراعية في العالم مخصصة لإنتاج اللحوم، بينما يحتاج إنتاج نصف كيلو لحم فقط من خمسة آلاف إلى 20 ألف لتر ماء.
إضافة إلى الأرض والمياه، فإن الطعام الذي تحتاجه هذه الحيوانات من أجل النمو، والطاقة التي تتكلفها (متمثلة في الوقود الحيوي)، تفوق اللحوم الناتجة من هذه الحيوانات نفسها بنسب كبيرة جدًّا.
اللحم: صناعة باهظة الثمن
من أجل إنتاج كيلوغرام واحد من الدجاج، نحتاج إلى 2.3 كيلوغرام من الحبوب، بينما إنتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر يستلزم 43 كيلوغرامًا من الحبوب والعلف.
عند مقارنة الطاقة المستهلكة والطاقة الناتجة، فإنه من أجل إنتاج ما يعادل كيلو «كالوري» واحد من لحم البقر، نحتاج إلى استنفاد 40 كيلو كالوري من الطاقة.
اقرأ أيضًا: النباتيون يقتلون أيضًا: الزراعة أكثر فتكًا بالحيوانات من تربية الماشية
على الرغم من أن الحلول التي قُدِّمت من أجل سد احتياجاتنا من اللحوم تكللت بالنجاح، إذ تمكنا من إنتاج هذه الكميات الرهيبة وسد هذا الاحتياج خلال السنوات الفائتة، فإن هذه المعادلة غير مضمون نجاحها في المستقبل، فهي في المقابل تستنزف كثيرًا من الموارد الأخرى التي سيكون البشر في أمسِّ الحاجة إليها كلما زاد عددهم.
الفكرة الجديدة المطروحة من أجل حل هذه المشكلة لم تخرج من مزرعة أو مصنع، وإنما من معمل، فتمكَّن العلماء من تصنيع شريحة لحم من خلية صغيرة أُخِذَت من الحيوان. هذه الطريقة لا تستلزم أراضي زراعية أو حبوبًا أو وقودًا، كل ما نحتاجه خلية جذعية من الحيوان، وطبق توضع فيه الخلية، وبعض المغذيات التي تحتاجها الخلية للتكاثر، ثم نترك الخلية لتنمو إلى شريحة لحم.
الخلايا الجذعية هي التي بإمكانها أن تنمو مكوِّنةً عضوًا ما. وتنقسم الخلايا الجذعية إلى نوعين:
- الخلايا الجذعية الجنينة: بإمكانها أن تتحول إلى أي نوع من الأعضاء لأنها غير مختصة بعد
- الخلايا الناضجة: توجد داخل جسد أي شخص منا في أنواع مختلفة من الأعضاء
في حالة اللحوم هنا، فإن خلية جذعية قادمة من العضلات (اللحوم) ستنمو إلى عضلة جديدة. وهذا هو ما استند إليه العلماء عند تفكيرهم في اللحم المزروع معمليًّا، أو «اللحم النظيف» كما يحب أنصار هذه التكنولوجيا أن يطلقوا عليه.
حلم اللحوم المُصنَّعة معمليًّا ليس جديدًا. ففي بدايات عام 1931، قال «ونستون تشرشل» إن «علينا أن نحاول التخلص من عبثية تربية دجاجة كاملة من أجل الحصول على جناح أو صدر، علينا أن نُصنِّع هذه الأعضاء منفصلة تحت ظروف ملائمة».
فكرة قديمة تتحقق
ظهرت أول محاولة لزراعة ألياف عضلية في المعمل سنة 1971 على يد «راسل روس»، الذي حاول زراعة خلايا عضلية من الشريان الأورطي لخنزير صغير، وتكللت هذه العملية بالنجاح. استعمال الخلايا الجذعية للحيوانات جرى تقديمه في عام 1990، حينما أُنتِجَت كميات صغيرة من اللحوم التي يمكن أن تُطبَخ وتُؤكل (نظريًّا).
انضمت «ناسا» إلى السباق في 2001، إذ كانت تعمل على إنتاج لحوم من الدجاج التركي، بينما ظهرت أول عينة قابلة للأكل من قطعة سمك من نوع «غولدفيش» (تشبه السمك الفيليه) عام 2009.
قد يهمك أيضًا:
لم تتوقف محاولات إنتاج اللحوم في المعمل عند عتبات المعامل، بل أصبح لها طريق ممهد يسعى عدد من المنظمات والحكومات إلى تطويره ومحاولة دفعه إلى السوق والمستهلكين.
في 2008، عرضت منظمة «PETA» مكافأة قدرها مليون دولار لأول شركة تتمكن من إنتاج لحم دجاج مُعَد في المعمل وإيصاله إلى المستهلكين بحلول عام 2012، فيما وضعت الحكومة الدنماركية أربعة ملايين دولار من أجل الأبحاث في مجال اللحوم المزروعة معمليًّا.
عُقد أول مؤتمر عالمي يتناول هذا الموضوع خصيصًا في عام 2008 في النرويج، تحت إشراف معهد بحوث الطعام، بينما أعلنت مجلة «التايم» أن إنتاج اللحوم المُصنَّعة معمليًّا كان واحدًا من أكثر 50 فكرة إبهارًا في عام 2009.
لم يتوقف الأمر عند مجرد محاولات الشركات والمراكز البحثية الترويج لهذه التكنولوجيا والحث على العمل بها بين العلماء، بل خرجت هذه التكنولوجيا إلى التلفزيون في عام 2013، بعدما أعلنت جامعة ماسترخت الهولندية، تحت إشراف الدكتور «مارك بوست»، إنتاج أول شريحة برغر وتقديمها للأكل في مؤتمر إخباري في لندن.
عندما تذوقت قطعة البرغر، قالت خبيرة الطعام «هاني روتلز» إنها «قابلة للأكل حتمًا، والتطابق [بينها وبين البرغر المصنوع من اللحم] مثالي. إنها لحم بالنسبة إليَّ. هناك شيء لأقضمه، وأظن أن الشكل يبدو مطابقًا جدًّا».
نظرًا إلى أن هذه التقنية لا تستلزم مكانًا واسعًا أو موارد كبيرة، فإن ما يمكننا استخدامه كمقياس للكفاءة ربما يمكن تحديده بالنقود: كم تكلفت قطعة البرغر هذه من أجل زراعتها معمليًّا عام 2013؟
الإجابة السريعة: أكثر من 300 ألف دولار.
لكن قبل التورُّط في رفض هذه التقنية فاحشة الغلو، علينا أن نعرف أن نفس قطعة البرغر هذه احتاجت 11.36 دولارًا عند إعادة تصنيعها في عام 2017. رغم الفارق الرهيب الذي حدث بين تكلفة القطعتين في أربع سنوات فقط، فإن هذه القطعة لا تزال أغلى من نظيرتها الحيوانية من 9 إلى 10 مرات. لكن عندما يتعلق الأمر بالعلم والتكنولوجيا، فالتكلفة لا تظل مرتفعة دائمًا، وكما هبطت بهذه الطريقة، فإن بإمكانها أن تواصل انخفاضها لتنافس المنتجات الحيوانية الطبيعية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالعلم عامةً لا يتوقف عند أي حد. السبب الذي جعل أنصار هذه التقنية يسمونها «اللحم النظيف» أن بإمكان العلماء أن يضيفوا المواد التي يريدونها إلى اللحم ويزيلوا ما يريدون. فمثلًا، يفكر العلماء في التلاعب بالمادة الوراثية للخلايا، أو حتى البيئة المحيطة، من أجل إضافة الدهون المفيدة إلى اللحم، أو من أجل الحصول على جودة أعلى ولحم أكثر استدامة.
هذه التقنية لم تعد مختبئة في المعامل بعد الآن. «مارك بوست»، صاحب أول قطعة برغر مصنوعة معمليًّا بالكامل، أنشأ شركته «Mosa Meat» التي تهتم بتطوير اللحم المزروع معمليًّا، إضافة إلى شركة «Memphis Meat» التي أنتجت حتى الآن كرات لحم وأفخاذ دجاج.
ربما لم يصبح الأمر رسميًّا بعد، ولم يغزُ الأسواق كما فعلت المنتجات الحالية، لكن المؤشرات تدل على أن اللحم المُصنَّع معمليًّا قادم لا محالة، وأن أنصار حقوق الحيوان والنباتيون بالأحرى سيناصرونه بشدة، فهل العالم مستعد له؟
أفنان سلطان