لِمَ علينا، دائمًا وأبدًا، أن نقاوم؟
«هل تظن أن المنشور الذي ستكتبه على صفحتك سيغير العالم؟»، «هل تظن أن وقفة احتجاجية لساعات معدودة ستشكِّل أي فارق؟»، «لن يلتفت إليك أحد»، «لن يتغير شيء». في الأغلب سمعت جملةً أو أكثر من هذه يومًا ما. يخبرك صديقك كم أنت صغير في هذا العالم. يؤكد أن أي فعل ستأتي به وأي خطوة ستتخذها لن تؤثر في أي شيء. كُفَّ عن المقاومة، تَقبَّل الحياة كما هي.
انتظر. أرجو أولًا أن تقطع صلتك بصديقك هذا الآن. إنك مؤثر. الخطوة التي تتخذها لتغيير ما حولك، حتى وإن كانت بسيطة، فهي مهمة للغاية. سأثبت لك هذا.
ما الذي قتل الضفدع الحزين؟
في عام 1872 من الميلاد، أجرى العالم الألماني «هاينزمان» تجربة «الضفدع المغلي». أحضر أطباقًا مملوءة بماء عند درجة حرارة معتدلة للضفادع، ثم وضع في كل طبق ضفدعًا، وبدأ في رفع درجة حرارة الماء تدريجيًّا بمعدَّل بسيط جدًّا.
في تجارب سابقة، عندما كانت درجة حرارة المياه ترتفع بمعدل سريع، لم تتمكَّن الضفادع من تحمُّل درجة حرارة أعلى من 25 درجة مئوية، وحاولت الهرب. لكن، وعلى عكس المتوقَّع، حتى عندما تعدت درجة حرارة المياه الـ25 درجة مئوية في تجربة هاينزمان، ووصلت إلى درجة الغليان، بقيت الضفادع في المياه إلى أن ماتت.
اشتهرت إجابة واحدة على سؤال: ما الذي قتل الضفدع؟
يقول المحللون: ما قتل الضفدع ليس درجة الحرارة العالية للمياه، لكن عدم قدرته على اتخاذ قرار القفز. اتخذ بعض الفلاسفة من تلك التجربة ترميزًا مهمًّا لما يمكن أن يسببه لنا التأقلم من ضرر.
قد لا تكون راضيًا عن بعض التغيرات في حياتك، لكنها بالنسبة إليك طفيفة، تزيد حدتها ببطء وبالتدريج. قد لا تظن أنه من المهم أن ترفض تلك التغيرات لبساطتها، لكنك بذلك وضعت نفسك في طبق الضفدع. في لحظة ما ستصل درجة الحرارة إلى الغليان، ستجد نفسك في مجتمع أنت غير راضٍ عنه بالمرة، وفي حياة لم تكن يومًا لتتمناها لنفسك، لكن الأوان سيكون قد فات. ستكون قد فقدت القدرة حينذاك على المقاومة، على القفز.
ألم تكن المقاومة في البداية مهمة؟
بالنسبة إليَّ تشبه تجربة الضفدع المغلي إلى حد كبير نهاية رواية «رجال في الشمس» للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني. لكن عليك الحذر قبل استكمال قراءة هذا الجزء من الموضوع، ففيه حرق لأحداث الرواية.
يحاول ثلاثة أشخاص الهرب من فلسطين إلى الكويت للبحث عن مصدر رزق. لا يملكون رفاهية السفر عبر المطارات، فيختارون الهروب داخل خزان مياه فارغ مع سائق متمرِّس في الهجرة غير المنظَّمَة. في نقطة تفتيش على حدود الكويت يعطِّل أحدهم السيارة.
الخزان حديدي. السيارة تقف في وسط الصحراء حيث الشمس تلتهب. وفي نقط التفتيش، يُحكَم غلق الخزان كي لا ينكشف أمر الرجال. في نهاية الرواية يموت الأبطال الثلاث من الاختناق داخل الصندوق.
يتركنا غسان في آخر سطور روايته بسؤال يردده سائق السيارة في هلع عندما اكتشف موت الرجال: «لِمَ لم يطرقوا جدران الخزان؟».
طرقهم الجدران كان سيخبر السائق بأن شيئًا خطيرًا يحدث، لكنهم كانوا في نقطة تفتيش، وطرقهم الجدران قد يكشف أمرهم.
هنا تحوَّل الرجال إلى ضفادع حزينة. لم يقفزوا (يطرقوا الجدران)، لكنهم آثروا التحمُّل على أمل أن تتحرك السيارة وينفرج كربهم. ظلوا على حالتهم إلى أن اختنقوا. في النهاية أرادوا أن يطرقوا الجدران بالفعل، لكن قواهم لم تسمح بذلك. اتخذوا قرار المقاومة متأخرين.
المفاجأة الكبرى: لن تتغير الأحوال من تلقاء نفسها. مقاومتك ومقاومة غيرك مهمة. الآن، في هذه اللحظة.
في بلد العميان يصير الأعور مَلِكًا، أو لا
«بلد العميان» قصة قصيرة كتبها المؤلف الإنجليزي «هربرت جورج ويلز» عام 1904. تحكي القصة (التي سنحرق أحداثها في السطور التالية) عن مجموعة من الأشخاص حاولوا أن يفروا من مَلِكهم الظالم، فهجروا بلادهم وسكنوا واديًا بعيدًا منعزلًا. بعد فترة انتشر بين هؤلاء القوم وباء غامض أصابهم جميعًا بالعمى. كان هذا المرض وراثيًّا، فنقله الآباء إلى الأبناء إلى أن أصبح العمى هو الأمر الطبيعي لكل سكان الوادي: يعيشون ويموتون وهم عميان.
في يوم ما كان مستكشفٌ شاب يتسلق الجبال بالقرب من ذلك الوادي المجهول بالنسبة إليه. في أثناء الاستكشاف انزلق من أعلى وسقط في منحدر لم يرَ له أصدقاؤه نهاية. ظنه الجميع قد مات.
يصاب المستكشف، لكنه لا يموت. عندما يفيق ويبدأ في استكشاف المكان من حوله يلاحظ أشكالًا غريبة للبيوت وللناس، وبعد وقت قصير يستنتج أن كل هؤلاء عميان، وأن هذا هو بلد العميان الذي يُحكى عنه في الأساطير.
هنا يفعل شيئًا ربما تراه بديهيًّا: يخبر سكان القرية بأنه مبصر، وأن العمى علة، وليس الأمر الطبيعي. لكن ما الذي يحدث عندما تحاول إدخال فكرة جديدة فوق أكوام من الطين المتبلِّد والتراب؟
يظنه الجميع مجنونًا بالطبع. يتحسسون وجهه فيجدون فيه شيئًا بارزًا غريبًا عنهم. يستنتجون أن الشيء البارز في وجهه هو الذي أصابه بالجنون. يفرضون عليه انتزاعه فورًا كي لا ينشر جنونه في بلدتهم. يستطيع الرجل في النهاية أن يهرب من الوادي بأعجوبة قبل أن يقتلعوا عينيه.
هل كان مصير بلد العميان سيتغير لو كان الأجداد أصروا على أن يخبروا الأحفاد عن حياتهم قبل أن يصيبهم العمى؟ كأن يجلس عجوز في ليلة باردة وحوله الأحفاد ملتحفين الأغطية، فيقص عليهم: «مِن قبلُ يا أحفادي لم يكن العالم مظلمًا، كان كل شيء يتخذ شكلًا مختلفًا تمامًا عن البقية. والشكل يا أعزائي هو الهيئة التي تظهر عليها الأشياء، كأن تلمس لشيء أربعة حدود على بُعد مسافات متساوية تمامًا، فيكون مربعًا. وكانت الحياة مليئة بالألوان: الأسود لون الظلام، اللون الذي نراه جميعًا الآن. لكن العالم يتخذ ألوانًا مختلفة: أحمر يبعث في نفسك البهجة، أو أزرق يبعث فيها السلام».
فعلٌ بسيط كهذا، حكايات قبل النوم للأطفال عن العالم الذي لم يروه، ربما كان كفيلًا بأن يغير حياة هؤلاء القوم. أن تزرع في نفس أحدهم التطلع إلى عالم آخر لا يعرفه، فيجاهد طوال حياته كي يصل إليه. ربما كان سيخرج من أطفال هذه القرية لاحقًا طبيب يكتشف سر المرض ويعيد البصر إلى أهل بلدته. ذلك الطفل وُلِد أعمى، كل من حوله عميان، لا يعرف سوى أن العالم مُحاط بالظلام. لكن جده يومًا حكى له عن البصر، وعما أصاب بلدتهم. قاوم حتى يأتي الزمان بالحقيقة. وبعد سنين طويلة وأجيال متتالية، ربما آتت مقاومته ثمارها.
ولنا في «فيولا ديزموند» عِبرة
في منتصف القرن العشرين لم يكن أمرًا غريبًا أن تُقسَّم دور السينما في مناطق من كندا إلى قسمين: واحد للبيض يحتل الصفوف الأمامية، وآخر للسود يحتل مقاعد الشرفة.
في 1946، تعطَّلت سيارة «فيولا ديزموند» في مكان بعيد عن بيتها، فقررت، كي تقتل وقت انتظار أحدٍ يُصلحها، أن تذهب إلى السينما. رفض الموظفون منحها تذكرة للصفوف الأمامية، فاشترت تذكرة مقاعد السود، لكنها جلست في الصفوف الأمامية. «معذرة، لا يحق لكِ الجلوس هنا»، أخبروها، فلم تهتم. فشلت كل محاولات إبعادها عن المكان، إلى أن وصلت إلى الشرطة واضطرت إلى جرِّها جرًّا خارج المسرح واعتقالها.
هكذا، بكل بساطة. فعلٌ قد يظهر لك دون جدوى على الإطلاق. الطبيعي والسائد كان أن تجلس في صفوفك المخصصة كشخص وُلِدَ ببشرة سمراء، لكن فيولا في ذلك اليوم قررت أنها فقط تريد الجلوس في المقاعد الأمامية والاستمتاع بالفيلم.
ربما تتساءل الآن عن سذاجة هذا الحادث الذي أرويه لك. إن فيولا حتى لم تنظم مظاهرة للمطالبة بحقوق السود، لم تهتف، لم ترفع الرايات المناهضة للحكومة في وسط الشارع. قد تتعجَّب إذًا عندما أخبرك أنه في بداية 2018 فقط أصبحت «فيولا ديزموند» أول امرأة توضع صورتها على العملة الكندية.
تقول المصادر إن فعل ديزموند هذا كان من أسباب إشعال الحركة الحقوقية الكندية بعد ذلك.
ربما كان واحد من ذوي البشرة السوداء حاضرًا المشهد وقتها. يجلس مع أولاده في مقاعدهم المخصصة منتظرًا بداية الفيلم، ثم يجد امرأة سوداء غريبة ترفض أن تترك المقاعد الأمامية. ربما واتته حينها الفكرة التي لم تخطر له قط: «لِمَ علينا أن نجلس في الصفوف الخلفية؟». عندما يكون أمرٌ ما سائدًا في مجتمعك تعتاده أنت بطبيعة الحال: وُلِدتَ وعشتَ عليه، فكيف تعرف أنه ليس «البديهي»؟
المقاومات الصغيرة تُعْلِمنا بذلك.
لا تُصالح..
في إحدى الأزمات الفلسطينية كتب أحدهم على تويتر: «هذه تغريدة لن تحرر فلسطين، ولن تحرك من العرب شيئًا. هذه تغريدة أكتبها كي لا تموت القضية في قلبي».
الخوف لا يكمن في أن يرضى الناس بالخطأ، لكنه يكمن في ألا يعرفوا في الأصل أنه خطأ.
في فلسطين أفراد وُلِدوا وماتوا في ظروف الاحتلال. لم يروا غيره، ولم يعرفوا سواه. ما الذي علَّمهم أن كل ما يعيشونه ليس الأمر الطبيعي؟ المقاومة. المظاهرة التي نسمع عنها نحن، فنمتعض، ونتساءل عن فائدة أن يقف مدنيون عُزَّل في وجه عسكريين مسلَّحين. حتى لو سقط القتلى كل يوم، وهُدِّمت المنازل، الفائدة التي عادت علينا هي أننا ذكَّرنا أنفسنا ومن حولنا بأن ما نعيشه ليس «العادي». الرشوة التي رفضت أن تتقاضاها اليوم في عملك شكل من أشكال المقاومة.
ربما أخبرك زميلك مستنكرًا بأن ما تفعله لن يجدي نفعًا. هل ستتوقف الرشاوى في المؤسسات برفضك تقاضي الرشوة اليوم؟ في الأغلب لا. لكن أحدهم كان حاضرًا المشهد اليوم، وما فعلته ذكَّره بأن الرشاوى ليست الأمر الطبيعي لتيسير أمورنا وحياتنا. المسيرة التي لا يتعدى أفرادها العشرات مرت اليوم على بائع بسيط، فذكَّرته بأن الغلاء ليس النسق الطبيعي للأمور. إنك تلقي بحصاك وسط بركة المياه خشية أن يصيبها الركود. تُحدِث بعض الفوضى. تقُضُّ فراش الأنظمة التي تريد أن تمنهِج حياتنا من جديد وفق أسسها.
لذا، في المرة القادمة عندما تهُمُّ بفعل بسيط يعبر عن اعتراضك لا تسمح لأحد بأن يقلل من أهمية ما تفعل، لا تسمح لنفسك بأن تسألك إن كان كل ذلك سيأتي بأي نفع. في إحدى الأزمات الفلسطينية كتب أحدهم على تويتر: «هذه تغريدة لن تحرر فلسطين، ولن تحرك من العرب شيئًا. هذه تغريدة أكتبها كي لا تموت القضية في قلبي». احرص فقط على ألا تموت القضية في قلبك.
شروق مجدي