«جاستن ترودو»: جوارب مزركشة ووعود ضخمة، ليس أكثر
بينما يعقد شراكات استراتيجية مع قادة العالم خلال جولاته السياسية من أجل الحرب على الإرهاب، أو التعاون التجاري، أو الحفاظ على البيئة، يتعمَّد «جاستن ترودو»، رئيس وزراء كندا، بث رسائل في كل مناسبة من خلال جواربه المزركشة.
لم تكن تلك تقليعة حديثة لترودو، فمنذ تولية المنصب، في أول اجتماع له مع وزرائه ارتدى جوارب حمراء يتخللها أوراق شجرة القيقب التي ترمز إلى بلاده، ثم اعتاد ارتداءها في احتفالات العيد الوطني كل عام. وفي اجتماعه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في مقر منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسيل، لم تخلُ جواربه من شعار المنظمة للاحتفاء بها.
بارتدائه الجوارب المزركشة التي قد تُفهَم تارة، وقد تحتاج إلى فك شيفراتها تارة أخرى، جذب ترودو أنظار العالم. خصوصًا أن زركشات جواربه لم تتحلَ بالجدية دائمًا كالشعارات الوطنية أو شعارات المنظمات. ففي اجتماعه مع رئيس وزراء أيرلندا ارتدى جوارب مرسوم عليها شخصيات من فيلمه المفضل «حرب النجوم». وفي المنتدى الاقتصادي العالمي ارتدى جوربًا بنفسجيًّا مرسوم عليه بط أصفر.
لم تكن الرسائل التي تحملها جوارب ترودو من طرف واحد فقط، بل تفاعل معه الآخرون. فقد أهداه المدير التنفيذي لشركة «كوكاكولا» جوارب مرسوم عليها الدب القطبي، وأرسلت له سيدة كندية عجوز جوراب من صنع يديها دعمًا للحزب الكندي الليبرالي الذي تربى ترودو بين جدرانه، وأهدى إليه مقدما البرنامج التلفزيوني الأمريكي «مباشر مع كيلي ومايكل» جوارب مرسوم عليه صورتهما.
بذلك تحولت الفكرة من مجرد لفت الأنظار إلى دبلوماسية واستراتيجية للتواصل بين ترودو والآخرين. ولم تكن الجوارب وحدها وسيلته لتحقيق ذلك الهدف، بل كان يروج لقضايا بعينها في بلاده من خلال ارتدائه ربطة عنق تحمل شعار المنظمة المُستهدَفة.
بملامح أبيه، على درب أبيه
استوعب ترودو نجاعة أدوات التسويق السياسي التي تواكب العصر. مثل لعبة جذب الجماهير العريضة على مواقع التواصل الاجتماعي.
لم تكن مَلابسه الأداة الوحيدة التي برع في استخدامها ترودو لتسويق قضاياه. فقد ذكَّرت ملامح أبيه «بيير ترودو»، الذي شغل منصب رئيس وزراء كندا الخامس عشر، أبناء بلده بأنه ماض في نفس الطريق الأيديولوجي القائم على وحدة الشعب الكندي، والإصلاحات الدستورية التي تكفل الحرية والمساواة والحقوق المدنية.
كانت بداياته أمام الجماهير في أثناء خطبة رثاء أبيه عام 2000. حينها أثارت لباقته وفصاحته تساؤلات حول مستقبله السياسي، بالرغم من أنه كان يعمل مدرسًا للغة الفرنسية، ولم يتطرق قبلها لأي عمل سياسي نهائيًّا.
بعدها بثماني سنوات انتُخِبَ ترودو عضوًا في البرلمان، وبعد ذلك بثلاث سنوات قاد الحزب الليبرالي الكندي. هكذا بسرعة الصاروخ صنع اسمًا لامعًا في عالم السياسة الكندية، بالرغم من محاولات تقزيمه من غريمه المخضرم في حزب المحافظين «ستيفن هاربر» الذي شن عليه هجومًا متهمًا إياه بقلة الخبرة وانعدام الثقل السياسي.
لم يشهد التاريخ الكندي سياسيًّا قوميًّا مثل أبيه الذي دعا إلى توحيد الشعب الكندي بنسيجه الاجتماعي المتحدث باللغة الإنجليزية والآخر المتحدث بالفرنسية، رافعًا شعار «معًا لوحدة كندا»، فقد كان يخاطب حينها جيلًا جديدًا تحمَّس لتغيرات قانونية تتعلق بمزيد من الحرية لممارسة الإجهاض والطلاق والمثلية الجنسية. واستكمل ترودو مسيرة أبيه بدءًا من شعار حملته الانتخابية «عودة كندا»، حتى اعتذاره عن الممارسات السابقة للحكومة التي عززت اللامساواة ضد المثليين.
على طريقة أبيه استوعب ترودو نجاعة أدوات التسويق السياسي التي تواكب العصر. انعكست تلك العقيدة الدفينة من خلال لعبة جذب الجماهير العريضة على مواقع التواصل الاجتماعي، تلك الجماهير الراغبة في الأخبار الخفيفة والسريعة والحماسية والمبهجة.
وطد الشاب الوسيم وجوده على مواقع مثل تويتر وفيسبوك وانستغرام وسناب شات، فلا يخجل من نشر صور وفيديوهات بشكل يومي، ليس فقط للترويج عن قضايا، بل ليشارك جميع المتابعين جوانب إنسانية ومواقف شخصية على حد سواء. تهدف استراتيجيته إلى تواصل أكثر، وخلق مشاعر الألفة والمرح تجاهه، ليلحق بعد تنصيبه مباشرة إلى قائمة أكثر قادة العالم متابعة على تويتر.
الوعود الضخمة
من خلال ما ينشره ترودو على مواقع التواصل الاجتماعي يبدو وكأنه ناشط لحقوق الإنسان بسبب ترويجه لقضايا مثل الدعوة إلى التحقيق في العنف ضد سكان كندا الأصليين، والترحيب بالمهاجرين، والبحث المستمر في طلبات اللجوء إلى بلاده. فمثلًا كانت إحدى القضايا التي احتضنها في أثناء حملته الانتخابية عام 2015 هي التحقيق في اختفاء وقتل النساء والفتيات من سكان كندا الأصليين، في إطار التصالح معهم.
لكن بعد تشكيل الحكومة أظهرت وزيرة علاقات السكان الأصليين والمصالحة، «كارولين بينيت»، عجزها عن التحقيق في المسألة برمتها، واقتصرت النتيجة في النهاية على أموال مهدرة، تبادل اتهامات، وضياع نتائج إيجابية، حتى إن بعض مجتمعات السكان الأصليين أعلنوا فشلهم في التعاون مع الوزارة.
النقد الموجه لترودو لا يتوقف عند إخفاقه في تحقيق وعوده، أو محاولاته لحل قضايا لها ذيول أخرى، بل يتعداه لشبهات دعم «فاسدين» لحملته.
وكانت وعود ترودو لاستقبال 25000 لاجئ سوري حتى نهاية 2015، في أثناء حملته الانتخابية التي واكبت ذروة أزمة نزوح السوريين الهاربين من الحرب في بلادهم، أكثر تفاؤلا من الواقع.
لقد تراجع عن الوعد سريعًا لصالح وعد جديد باستقبال 10 آلاف لاجئ سوري حتى ديسمبر 2015، والوعد بأن الـ15 ألف الباقيين سيستمر استقبالهم حتى فبراير 2016. لكن رغم التراجع عن الطموح الأول، فإن تحقيق الوعد الثاني لم يكن سهلًا لأنه حتى بافتراض قدرة الجيش الكندي على نقل اللاجئين بطائراته، وإمدادهم بأماكن إقامة مؤقتة، سيكون ذلك أسهل كثيرًا من توفير عملية اندماجهم في المجتمع الكندي، وإجراء الفحوص الطبية، ومراجعة السجل الجنائي لكل نازح، في وقت محدود كثماني أسابيع.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد السوريين الذين وصلوا إلى كندا في عام 2015 كان ستة آلاف لاجئ، ما يتنافى تمامًا مع آمال خطته للباب المفتوح، ويتضاءل مع وعده المدفوع بمشاعر إنسانية دون تخطيط وتنفيذ، وهو الوعد الذي كان ضئيلًا مقارنة بعدد اللاجئين السوريين.
حتى بداية 2017 استقبلت كندا ما يقرب من 40 ألف لاجئ، وهو الرقم الذي يمكن مقارنته بعدد اللاجئين الذين استقبلتهم ألمانيا في 2015، وهو مليون لاجئ. لا يعني ذلك بالضرورة أن ترودو كان مخادعًا، لكن الأرقام قد تضع وعوده في حجمها الطبيعي. وقد تكون مثالًا لوعوده الكبيرة إعلاميًّا، لكنها على أرض الواقع ليست بتلك الضخامة، لكنها مفيدة لصورته.
ربما كان غريمة هاربر أكثر واقعية حينما قلل من شأن قضية التحقيقات في قتل السكان الأصليين التي روَّج لها ترودو بسبب استحالة تحقيقها، وأوعز اهتمام منافسه لها بسبب قلة خبرته السياسية، فكانت أولويته الاستثمار في الخدمات المُقدَّمة إليهم.
لكن من حق ترودو، في المقابل، أن يرتب أولويات أجندته السياسية، وله كامل الحرية في استخدام ما يحلو له من الأدوات التسويقية السياسية المواكبة للعصر. لكن إخفاقه في تحقيق وعوده الانتخابية، أو حتى محاولاته الحثيثة في حل القضايا التي قد يكون لها ذيول أخرى، والنقد الموجه لترودو لا يتوقف عند هذه النقاط فقط، بل يتعداه لشبهات دعم «فاسدين» لحملته الانتخابية.
تغيير حقيقي؟
أشارت وثائق «باراديز» المسرَّبة عام 2017، والتي تتهم عددًا كبيرًا من الشخصيات العامة على مستوى العالم بالفساد والتهرب الضريبي والتربُّح بثروات طائلة، إلى أن أكثر من 3000 شخصية كندية متورطة، وتربطهم علاقة مباشرة برئيس وزراء كندا جاستن ترودو.
من بين أبرز تلك الشخصيات التي تتخذ من شركات «الأوفشور» ملاذها الضريبي، صديقه رجل الأعمال «ستيفين برونفمان» الذي موَّل برنامجًا ضخمًا في حملة ترودو الانتخابية من أجل إعادة ثقة الشعب الكندي في الحزب الليبرالي. التمويل الذي قد يفسر نجاح أعضاء الحزب تحت قيادة ترودو في حصد 184 مقعدًا في البرلمان الكندي بعد أن كان يحتل 36 مقعدًا فقط في سنتين، من 2013 إلى 2015.
إذا كان تمويل حملة ترودو لا يشوبه فساد، فإسرافه في رحلته للاستجمام في جزيرة خاصة تابعة لجزر الباهاما، جعله محل تساؤل.
بعد تغطية قناة «سي بي سي نيوز» ، بدا ترودو وكأنه دمية في أيدي النخبة التي تملك الأموال. وبعدها بأسبوع، صرح بأنه مطمئن ولا يشعر بالذنب لأنه متأكد من اتباع برونفمان كل القواعد والقوانين بشأن تمويل حملته الانتخابية.
تشدق ترودو في أثناء برنامجه الانتخابية بشعار «تغيير حقيقي» هادفًا إلى تحسين المستوى المادي للطبقة المتوسطة، وتطبيق الضرائب على الأغنياء من أجل عدالة اجتماعية أفضل، مؤكدًا على أنه سيتخذ إجراءات أكثر حزمًا بشأن التهرب الضريبي. لكنه في المقابل يقبل تمويل صديقه برونفمان الذي نجح في تكوين شبكة لشركات أوفشور بين كندا والولايات المتحدة وإسرائيل لئلا تتمكن السلطات القضائية من تتبع ثروته، وبالتالي تسقط الضرائب عنه.
حتى إذا كان ترودو متأكدًا من أن تمويل حملته لا يشوبه فساد صديقه، فإن إسرافه في رحلته للاستجمام في أثناء عطلة بداية عام 2016 مع أسرته في جزيرة خاصة تابعة لجزر الباهاما، جعله هو نفسه محل تساؤل، إذ أنفق ما يزيد عن 215 ألف دولار.
استُجوب ترودو أمام البرلمان عن هذا الإسراف ليجيب بأن المبلغ أُنفِق على السفر والإقامة والمصروفات اليومية، وإجراءات أمنية لحمايته وأسرته. وفي نفس الوقت يواجه ترودو تحقيقات بشأن تضارب المصالح بسبب إنفاق الحكومة الكندية ملايين الدولارات لمؤسسة «أغاخان» التي يعد القائمون عليها مقربين من عائلة ترودو.
النجاح الافتراضي
نجح فريق ترودو المسؤول عن مواقع التواصل الاجتماعي في توصيل صورة فشل هو نفسه في الوصول إليها على أرض الواقع.
الفشل الذريع في تحقيق أي من وعوده الانتخابية، إضافة إلى مؤشرات الفساد التي تتصاعد يومًا بعد يوم، واستماتته في الدفاع عن عقد صفقات الأسلحة بمنطقة الشرق الأوسط، تداريها ابتسامته ووسامته في الصور ومقاطع الفيديو التي يشاركها مع العالم.
انتخب الكنديون جاستن ترودو المتمكن من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ليؤطر صورته بالطريقة التي يحلم بها كل مواطن في أي مسؤول: شاب وسيم، طليق اللسان، يمكنه أن يدلو بدلوه في العلوم المختلفة، حتى إنه شرح لأحدهم درسًا في فيزياء الكم، تتأثر مشاعره عندما يستقبل اللاجئين السوريين.
نجح فريق ترودو المسؤول عن مواقع التواصل الاجتماعي في توصيل صورة فشل ترودو نفسه في الوصول إليها على أرض الواقع.
محمود سعيد موسى