هل أنصفت الثورة الإسلامية يهود إيران؟
في البلد الذي يرفع هتافات «الموت لإسرائيل» في كل مناسبة، ولا تتوقف منابر خطبائه وقادته عن مهاجمة الكيان الصهيوني، حتى وصل الأمر إلى أن كل صاروخ تصنعه إيران تقيس مدى كفاءته بقدرته على ضرب العمق الإسرائيلي، هناك أكثر من 10 آلاف يهودي يعيشون في إيران، ويشكلون أكبر طائفة يهودية في الشرق الأوسط بعد إسرائيل.
«الملك كورش خلَّصنا من البابليين»
يذكر اليهود الملك كورش في كل الأعياد والصلوات كبطل ومؤسس إمبراطورية.
بدأت رحلتنا مع يهود إيران بـ«رحيمي»، أستاذ التاريخ في إحدى مدارس طهران اليهودية.
يقول «رحيمي» لـ«منشور» إن الفضل في وجود اليهود في إيران يرجع إلى الملك «كورش»، الذي حماهم عندما سيطرت الإمبراطورية البابلية على إيران وأسرت جميع اليهود، وحينها ظهر الملك الفارسي كورش وأمر بتحريرهم، وأعطاهم مطلق الحرية في البقاء أو المغادرة إلى أي بلد آخر. وقتها فضَّل عدد كبير من اليهود البقاء في إيران، فدعمهم الملك ماديًّا ومعنويًّا، حتى «صرنا جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الفارسية».
يتدخل «سيرجي»، صاحب محل تجاري في سوق طهران الكبير، ليضيف أن الملك كورش مذكور في التلمود كمخلِّص لليهود: «نذكره في كل أعيادنا وصلواتنا».
يوضح سيرجي أنه «إذا كان كورش بطلًا ومؤسس إمبراطورية بالنسبة إلى الإيرانيين بصفة عامة، فإنه يتمتع بمحبة خاصة لدى اليهود الإيرانيين، فلا نستطيع إنكار ما فعله من أجلنا».
«غادرنا إيران بسبب الثورة الإسلامية»
عاش اليهود في أمان تام خلال عهد الشاه رضا بهلوي، وكانوا من أهم التجار وعلى علاقات طيبة بالشاه، وكان عددهم حينها يقدر بنحو 80 ألف شخص، حتى أُطيح ببهلوي واندلعت الثورة الإسلامية، فأمرت بإعدام أشهر يهودي في إيران وقتها، «حبيب غاليان»، أحد أكبر التجار الإيرانيين ورئيس الجمعية اليهودية في إيران لفترات طويلة، الذي أسس عديدًا من الجمعيات الخيرية لمساعدة الفقراء اليهود في إيران.
بعد أن هدأت الأمور في إيران عقب الثورة، أصدر الخميني فتوى بأن اليهود أقلية دينية يجب حمايتها، وأي اعتداء عليها محرم شرعًا.
كانت معظم أعمال غاليان بالشراكة مع إيرانيين مسلمين، لكن بعد قيام الثورة أُلقي القبض عليه واتُّهم بالتجسس والتخابر ضد إيران لصالح إسرائيل، وأُعدم رميًا بالرصاص وصادرت الدولة ممتلكاته، وكان أشهرها برج «بلاسكو» الذي دمره حريق هائل مطلع عام 2017. كان البرج أول مركز تجاري ضخم في إيران، وضم عددًا كبيرًا من محال الأقمشة والملابس، وكان تحت سيطرة جمعية «المستضعفين» الخيرية، التي يرؤسها خامنئي الآن.
نزل خبر إعدام حبيب كالصاعقة على اليهود، الذين أحسوا بالخطر على أمنهم في إيران، فقرر ما يقرب من 60 ألف يهودي المغادرة إلى أمريكا وإسرائيل.
«فتوى الخميني أنقذتنا»
يقول «دانيال معتمدي»، أحد أعضاء الجمعية اليهودية في إيران، إن ما حدث خلال الثورة الإسلامية أثار مخاوف اليهود، خصوصًا بعد إعدام حبيب غاليان: «كان بمثابة الأب الروحي لجميع اليهود، ولا يمكنني لَوْم من غادر إيران، لكن بعد أن هدأت الأمور قليلًا في البلاد أصدر الخميني فتوى فحواها أن اليهود أقلية دينية يجب على الدولة حمايتها، وأن أي اعتداء عليها محرم شرعًا».
يوضح معتمدي لـ«منشور» أن هذا كان واجبًا على الخميني، لأن «اليهود عاشوا في إيران منذ عام 700 قبل الميلاد ولم يجرؤ أحد على إيذائهم، وحتى الآن لا أستطيع تفسير إعدام حبيب غاليان، وسيظل ما حدث لغزًا».
«الهولوكوست خرافة»
في مقطع الفيديو السابق، نرى محمود أحمدي نجاد يُعلن خلال رئاسته أن إعدام اليهود في «الهولوكوست» النازية أشبه بالخرافة، وأعقب تصريحه هذا تصريح آخر لنائبه الأول حينها محمد رضا رحيمي، وصف فيه اليهود بأنهم مَن يتحكمون في تجارة المخدرات في العالم بأسره، وأن التلمود يأمر بقتل أي إنسان غير يهودي.
أثارت تلك التصريحات غضب اليهود الإيرانيين، وكتب رئيس الجمعية اليهودية حينها، هارون ياشائي، رسالة إلى نجاد يطالبه فيها بالاعتذار لليهود عن تصريحه.
حاول «منشور» التواصل مع رئيس المكتب الإعلامي لنجاد للاستفسار عن تلك التصريحات، ومعرفة ما إذا كان الرئيس السابق يقصد إنكار المحرقة أم يقلل فقط من أهميتها، مثلما أكد بعض الصحفيين المحسوبين على نجاد حينها، لكنه رفض التعليق بحجة أن ما حدث «انتهى منذ فترة، ولا داعي للحديث عنه الآن».
«المستشفى اليهودي يعالج الجميع»
في أحد أحياء جنوب طهران يقع المستشفى اليهودي، الذي بُني منذ 70 عامًا على جزء بسيط من معبد يهودي، وكانت تكلفته بالكامل من تبرعات اليهود الإيرانيين، بحسب ما أكده مدير المستشفى الدكتور «سيامك مور صادق» في لقاء تليفزيوني.
في ذلك اللقاء، يقول صادق إن المستشفى لا يعالج اليهود فقط، بل إن «معظم المرضى هنا مسلمون، وحتى طاقم العمل به كثير من المسلمين، وهذا يدل على روح التعايش والتعاون الموجودة في إيران بين معتنقي الديانتين».
تطرَّق سيامك في حديثه إلى ما يتردد عن أعداد اليهود في إيران، إذ نفى أن عددهم يبلغ ثمانية آلاف شخص، مؤكدًا أن نحو 25 ألف يهودي ينتشرون في أنحاء إيران، ولا تفرض عليهم الحكومة العيش في أماكن محددة مثلما يحدث في بعض الدول العربية والأوروبية، لكن لم نجد إحصائيات رسمية تثبت هذا الرقم.
يؤكد الدكتور صادق في جميع لقاءاته أن حال اليهود بعد الثورة الإسلامية أفضل من قبلها، ولا يتحدث أبدًا عن المشاكل التى تواجههم، بل يردد أن «النظام الإيراني يعمل على حل جميع مشاكلنا بالتشاور والحديث، ولا نريد مساعدة من الخارج».
وحتى عندما يُسأل عن تصريحات نجاد بشأن «الهولوكوست»، يشير إلى أن الرئيس السابق ساعد اليهود كثيرًا: «ذهبنا إليه من أجل أن تساعد حكومته المستشفى اليهودي ببعض الأموال لأننا كنا نعانى من خسائر كبيرة، وبالفعل لم يبخل علينا ودعمنا بالمال».
«ليس من حقنا أن نصبح ضباطًا في جيش إيران»
محاولات الاتصال بشباب اليهود في إيران كانت صعبة، ومعظمهم خافوا من الحديث إلى «منشور»، لكننا استطعنا التواصل مع سميح (اسم مستعار)، وهو يهودي إيراني يبلغ من العمر 30 عامًا، يعمل في متجر والده لبيع التحف والسجاد.
ليس من حقنا أن نصبح ضباطًا في الجيش أو نتولى مناصب مهمة في الحكومة، لأننا بكل بساطة «مواطنون من الدرجة الثانية».
بسبب قلقه، فضَّل سميح أن يبدأ كلامه بالإيجابيات، فقال إن يهود إيران أفضل حالًا من اليهود في أي بلد في المنطقة: «لدينا 11 معبدًا تحظى بالأمان الكامل، ولدينا مدارس خاصة بنا، ومحلات جزارة تعمل حسب الشريعة اليهودية»، مؤكدًا ما سبق أن أشار إليه الدكتور سيامك صادق، من أن لديهم مطلق الحرية في الحياة في أي مكان يختارونه داخل إيران.
لم يلبث سميح أن انطلق معبِّرًا عن عدم رضاه بكل تلك «المميزات»: «نعم، لدينا مدارس خاصة بنا، لكن يجب أن يكون مديرها إيرانيًّا مسلمًا، ولا أعرف السبب، أمِن أجل التجسس علينا وعلى أفعالنا؟ هل يخاف النظام من اليهود الذين فضَّلوا البقاء في بلدهم ورفضوا الإغراءات الخارجية؟».
تتغير نبرة صوت سميح ويعلوها قليل من الغضب عندما يصل الحديث إلى مسألة تولِّي اليهود مناصب عُليا في الحكومة: «لا، ليس من حقنا أن نصبح ضباطًا في الجيش أو أن نتولى أي منصب مهم في الحكومة، لأننا بكل بساطة مواطنون من الدرجة الثانية. لا أنكر أننا نتمتع بالكثير، لكننا ما زلنا في أعين النظام مشكوكًا في أمرنا، وهذا شيء محزن، فنحن نحب إيران كما يحبها المسلمون تمامًا، ولا خلاف بيننا على حب البلد الذي نحيا فيه، وليس لدينا وطن آخر سوى إيران».
حديث سميح دفعنا إلى محاولة الاتصال بممثل الجالية اليهودية في البرلمان الإيراني، لكنه كان يقضي إجازته خارج البلاد، وقادنا الحظ إلى يهودي إيراني آخر، رفض ذكر اسمه او حتى الإشارة إليه باسم مستعار.
يقيم هذا الشاب في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عامين، وكان في زيارة إلى أسرته عندما حادثناه، ليروي لنا جزءًا آخر من المشاكل التي تواجه اليهود في إيران.
«حُرمنا طَوَال حياتنا من أن يكون يوم السبت إجازة رسمية، وأُجبرنا على أن تكون إجازتنا يوم الجمعة مع المسلمين، لكن في عام 2015 منحتنا حكومة الرئيس روحاني هذا الحق أخيرًا. في الماضي كان لنا مطلق الحرية في السفر إلى إسرائيل عبر دولة ثالثة ثم العودة إلى إيران، لأن لدى معظمنا أقارب في إسرائيل، لكن النظام يمنع ذلك كل حين وآخر في أوقات يحددها، وإذا خالفناها نُعاقب بالسجن».
«كل تلك الأمور تزعجنا، وتجعلنا نشعر أننا يجب أن ندافع عن أنفسنا ضد تهمة لم نرتكبها. نعلم أن النظام هنا ضد إسرائيل تمامًا، ونحن كذلك ضد ما تفعله الدولة العبرية من حماقات، لكن لدينا إخوة وأبناءً هناك. اخترنا العيش هنا وليس في إسرائيل بكامل حريتنا، فلماذا كل تلك الريبة والتحفز؟».
«نرفض أموال إسرائيل»
في عام 2007، قالت جريدة «الغارديان» إن صندوق مساعدات يُشرف عليه الأثرياء اليهود في أنحاء العالم عرض على يهود إيران مبالغ مالية كبيرة تتراوح بين خمسة آلاف و30 ألف جنيه إسترليني، لمساعدتهم في ترك إيران والعيش في إسرائيل، لكن الجمعية اليهودية الإيرانية أعلنت رفضها التام لذلك العرض، وشددت على أن هوية اليهود الإيرانية أقوى من أي أموال، وأنها ليست للبيع.
وقتها، أعلن موريس معتمد، الممثل السابق للجالية اليهودية في البرلمان الإيراني، أن ذلك العرض «مهين للغاية ولا نقبل به، وجعلنا في موقف دفاع عن تهمة لم نرتكبها، ولا بد أن تعلم إسرائيل واليهود في العالم أننا أكبر جالية يهودية في الشرق الأوسط، ولا يمكن اقتلاعنا من ثقافتنا الفارسية مقابل حفنة من الأموال».
«إسرائيل أم إيران؟»
في محاولة للإجابة عن سؤال «هل يفضل شباب اليهود العيش في إسرائيل أم إيران؟»، تحدثنا إلى «إستر»، الفتاة اليهودية الإيرانية التي تبلغ 25 عامًا، وتعمل ممرضة في المستشفى اليهودي في طهران.
لا تعرف إستر وطنًا غير إيران، بحسب ما أكدته لـ«منشور». كانت قد ذهبت مرةً إلى إسرائيل لزيارة أحد أقاربها، لكنها لا تريد العودة إلى هناك مرة أخرى، فحياتها في إيران «مستقرة ولطيفة ولا ينقصها شيء»، وحتى العيش تحت حكم إسلامي لا يزعجها.
يبدو أن هذه رغبة سميح كذلك، الذي لا ينوي مغادرة بلده إيران رغم المشاكل التى ذكرها سابقًا، فهي «دولة عظيمة ومهمة في المنطقة»، وهو فخور بكونه ينتمي إلى تلك الثقافة، ويتمنى أن تتوصل الحكومة إلى حل المشكلات التي تزعج اليهود.
شيماء محمد