«مثنوي» مولانا: المعنى الباطن في آيات الله
القرآن كالعروس، ترفض أن تخلع الحجاب عن وجهها أو تعطي كل ما لديها إلا لمن يعيشها فحسب. التمِس معنى القرآن من القرآن وحده.
من الممكن كتابة ظاهر القرآن الكريم بأوقية من الحبر، ولكن ليس في الكون شيء يكفي لتوضيح أسراره حتى لو صارت البحار كلها حبرًا والأشجار كلها أقلامًا.
في البدء يرى الصوفي صورته كما يعكسها القرآن، ثم يصبح الصوفي مرآةً تنعكس فيها معاني القرآن العميقة بعد اختلاط كلام الله بلحمه ودمه، ولذلك لا تعجب حين ترى القرآن مرة بالعربية وأخرى بالفارسية أو الإنجليزية أو الألمانية. هذا صوفيٌّ تحقق ونطق القرآن بلسانه وبلغته معبِّرًا عن حياته وتجربته. ويمِّم إن شئت شطر كتاب «المثنوي» لجلال الدين الرومي، لترى عيناك جمالًا يُدهش الأحياء على اختلاف مشاربهم ولغاتهم.
يقول ابن عربي إن «كلام الصوفية في شرح القرآن إشاراتٌ إلى مواقع خطاب الله، وهذه الإشارات مجهولة عند كثيرين من الفقهاء أهل الرسوم، ولذلك يسارعون إلى إنكارها ويتهمون قائلها بالكفر». ثم يقول: «كل آية مُنزَّلة لها وجهان عند أصحاب الإشارات: وجهٌ يرونه في أنفسهم، ووجهٌ يرونه في ما خرج منهم».
يقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ». ويفسِّر ابن عربى هذا النص بمعنى أن آيات الله لها وجهان:
- إلى الظاهر، وهو المعبَّر عنه بـ«الآفاق»، لأن أحكامها تجري على الجوارح
- إلى الباطن، أي باطن العبد، وهو المعبَّر عنه بـ«أنفسهم»، لأن أحكامها تجري على القلوب
الوجه الأول هو الشريعة، والثاني الحقيقة.
في هذا السياق يمكننا أن نتذكر موقفًا لأحد المحدِّثين، فعندما سُئل ابن الصلاح عن كلام الصوفية في القرآن قال: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنَّف أبو عبد الرحمن السلمي «حقائق التفسير»، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير، فقد كفر. قال ابن الصلاح: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم (أي الصوفية) أنه إذا قال شيئًا من أمثال ذلك: أنه لم يذكره تفسيرًا، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة من القرآن العظيم، فإنهم لو كانوا كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية. وإنما ذكر ذلك منهم لنظير ما ورد به القرآن، فإن النظير يُذكَر بالنظير، ومن ذلك: قتال النفس في قوله تعالى «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّٰارِ» (سورة التوبة: 123)، فكأنه قال: أُمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك، لِمَا فيه من الإبهام والإلباس.
مرَّ مولانا جلال الدين الرومي بمراحل خمسة:
- في المرحلة الأولى من حياته تلا القرآن وهو لا يزال صبيًّا كما كان يتلوه والده سلطان العلماء بهاء الدين ولد، يردد الحرف بشيء من نورانية أبيه، وقد حاول والده تقويم لسانه ولفت نظره إلى معانٍ أوسع.
- في المرحلة الثانية كان يتلو القرآن ناظرًا إلى الجبال والإبل والخيل والطيور والزرع والأجساد السائرة على الطريق في رحلته الكونية مع والده، عند انتقاله من بلخ واستقراره في قونية (نَفر بالله وإلى الله) لا يعرف وجهة يستقر فيها، متنقلًا بين بلاد الله طالبًا طريق الله. كان والده يؤمن بالميلاد الجديد أو الولادة الثانية بتعبير المسيحية، وطمح لأن يولد ابنه بعيدًا عن الصراعات والاقتتال.
- في المرحلة الثالثة تلا مولانا القرآنَ تلاوة تلميذ نجيب على يد والده ومعلمه، الذي استمع إلى نبوءات العرفاء والسَّيارين أن مولانا سيصبح بحيرة، فلا بد أن يملأه الوالد بكَمِّ المعارف التي مَنَّ الله بها عليه.
- في المرحلة الرابعة قرأ مولانا جلال الدين القرآن بعين العقل والنقل، والتمس من أنوار أهل الشام وأوليائه الكبار ما أفاده في رحلته البرزخية، قبل أن ينتقل إلى العالم اللانهائي الذي يعدّه الله لأجله. في هذه المرحلة كان الأب الروحي لمولانا هو تلميذ والده، سيدنا برهان محقق ترمذي.
- وفي الخامسة من مراحل حياته النورانية جلس مولانا ليعلِّم التلاميذ، درَّس الحب من خلال المنثور الجميل والمنظوم الغني بما بقي له من عقل ومعارف موروثة يُتقنها ويحصرها كما يحيط الخاتم بالإصبع، حتى أتي الذي فتح لمولانا بابًا على ما لا ينتهي، وألقى بكل القديم خلف ظهره، ومزَّق الثوب، وخلع العمامة، ونفى ما فات ليعيش الحقيقة المستترة. يغيب شمس، ويُولد مولانا، ويصبح القرآن لحمًا وجسدًا عنده. يجسِّد الرومي تجربة النبي، ويبدأ بكتابة القرآن بالفارسية.
التفسير الصوفي للقرآن
يقول مولانا جلال الدين الرومي: «يكون للمرأة زوجٌ وطفلٌ رضيع، لكلٍّ منهما نصيبٌ مختلف عن نصيب الآخر، فللطفل لذةٌ في ثديها ولبنها، وللزوج لذة منها. بعض الناس أطفالٌ في الطريق، يجدون لذة في المعنى الظاهر للقرآن، ويشربون ذلك الحليب. أما أولئك الذين بلغوا مرتبة الكمال، فلهم لذة أخرى وفهم آخر لمعاني القرآن». وجد مولانا هذا المعنى.
أبو حامد الغزالي، الذي لُقِّب بـ«حُجَّة الإسلام» وهضم معارف الصوفية السابقين، فقرأ وأعاد صياغة «قوت القلوب» لأبي طالب المكي وغيره من كتابات الصوفية الكبار، كان يقول: «عليكم بالقوت فإنه قوتٌ. كتاب قوت القلوب موسوعة صوفية يُنظر إليها بعين التبجيل لِما حوته من معارف لا يزال أهل التصوف ينهلون من معينها. وعلى الرغم من شهرة الإحياء شرقًا وغربًا تعظيمًا وحرقًا، فإنه لم ينل من العناية العلمية ما حظي به قوت قلوب السادة الصوفية».
يمكننا أن نقول تأسِّيًا بمن وجد الدُّرة في القوت: عليكم بالمثنوي المعنوي لمولانا جلال الدين الرومي، فأهل الإسلام الباحثون عن حياة جديدة سيجدون فيه موسوعة معرفية إن قُرئت بعناية حصَّلوا منها دروسًا شتَّى تساعدهم في هذا العصر على رؤية أوسع وأكثر رحابةً وإنسانية.
ففي المثنوي قرآن كريم، أو هو ترجمة للقرآن تلخص تجربة سالك معلم، طَالَعَ معارف السابقين والمعاصرين ولخصها في هذه المجلدات الستة، فالأدب العربي فيه، وكذلك قصص كليلة ودمنة وفلسفة اليونان، وإنجيل وتوراة، والحلاج والجنيد والغزالي والأنصاري والبسطامي والخرقاني والشافعي وأبو حنيفة.
ولا يدخل الهيكل الترابي فيه إلا ويخرج إنسانًا يختلط النُّبل والنور والصدق والبساطة بلحمه ودمه. من قرأه قرأ نسخة حية من القرآن، وأدرك «منطق الطير» و«حديقة الحقيقة» و«الإلهي نامه» و«لطائف الإشارات» و«عرائس البيان». ومن تلوَّث بجهل الآخرين وتضليلهم الثقافي، فلينظر إلى بلاد طالعت هذا الكتاب، وأفادت منه، كيف هو إنتاجها إنسانيًّا، وأي إنتاج أتانا به من ينكر؟ مِن ثمارهم تعرفونهم.
من هنا قال عنه عبد الرحمن الجامي: كل من يقرأ المثنوي صباحًا ومساءً تكون نار جهنم عليه حرامًا، فالمثنوي المعنوي لمولانا هو القرآن باللفظ البهلوي. ماذا سأقول في مدح هذه الشخصية النبيلة؟ ليس نبيًّا، ولكن لديه كتاب.
من يطالع كتابات الرومي سيعرف أن القرآن جزء من كلام الله، فالله يتكلم على الدوام، وكلامه لا ينتهي: «قُل لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا». سيعرف أن الإنسان جزءٌ من كلام الله وقرآنه الأكبر، فهو كلمة من كلماته قال لها كُن فكانت: «وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ». سيعرف أن الطبيعة جزء من كلام الله بكل ما فيها من عجائب، لكن أغلب الناس ينشغل بصورة من صور كلام الله وينسى بقية الأجزاء المتممة للصورة، حتى أن الانشغال أحيانًا بصورة ما يكون لحظيًّا، فلا يدمن صاحبه النظر في ما شغل به، فلا هو يتقن ما سَجن كلام الله فيه، ولا يلتفت إلى بقية الأجزاء.
نموذج من تفسير الرومي
حينما أراد جلال الدين الرومي أن يشرح لمريديه معنى من معاني القرآن، لم ينكر على المفسرين السابقين اجتهادهم في محاولة التأويل، بل وصفها بالمحاولات الصحيحة والطيبة، لكن معاني أخرى غابت عنهم، والفقرة التالية من الكتاب توضح ذلك:
«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».
يقول أهل الظاهر إن البيت هو الكعبة، التي كلُّ من يأوي إليها يظفر بالأمان من الآفات، ويُحرَّم فيها الصيد، ولا يجوز فيها إلحاق الأذى بأي إنسان، وقد آثرها الله تعالى لتكون بيتًا له. وهذا صحيح وطيب، لكن هذا ظاهر القرآن. أما أهل التحقيق، فيذهبون إلى أن البيت المراد هنا هو باطن الإنسان.
أي يا رب، أخلِ باطني من الوسواس والمشاغل النفسانية، وطهِّره من الشهوات والفِكَر الفاسدة والباطلة، حتى لا يبقى فيه خوفٌ ويظهر فيه الأمن، ويكون كله محلًّا لوحيك، ولا يكون فيه طريقٌ للشيطان والوسواس. يا رب، كلِّف حَرس عنايتك أيضًا بمراقبة باطننا، لكي يبعدوا عنا وسواس الشياطين وحِيَل النفس والهوى.
هذا هو قول أهل الباطن وأرباب التحقيق، وكل إنسان يتحرك وفقًا لمكانه. فالقرآن ديباجٌ ذو وجهين: يستفيد بعضهم من هذا الوجه، وبعضهم من ذلك، وكلا الوجهين صحيح.
خالد محمد عبده