صدِّق، أطِع، حارب: مدخل مطول للفاشية الإيطالية
في 29 أكتوبر 1922، قرر ملك إيطاليا «فيكتور إيمانويل الثالث» تعيين «بينيتو موسوليني»، زعيم الحزب الوطني الفاشي، رئيسًا للحكومة. كان الملك مدفوعًا بشبح الحرب الأهلية الذي لاح تحت ضغط مسيرة الميليشيات الفاشية من «أصحاب القمصان السوداء» إلى روما للمطالبة بالحكومة، وأيضًا خوف كبار الملاك الزراعيين ورجال الصناعة من ثورة شيوعية محتملة، ليشهد ذلك التاريخ بداية عقدين من الزمان، هما عمر إيطاليا الفاشية. لكن لنعُد إلى الوراء قليلًا.
مولد الفاشية: الحاكم الساحر
في 1919 أعلن موسوليني، اليساري وعضو الحزب الاشتراكي السابق والقومي المتعصب، عن عقيدته السياسية باسم «الفاشية».
كان موسوليني انشق عن الحزب بسبب معارضة الأخير دخول إيطاليا الحرب. اشتُقت «الفاشية» (Fascismo) من الأًصل اللاتيني «Fasces» والذي يعني صولجانًا خشبيًّا به فأس كان يُرفع رمزًا للقوة والنصر في احتفالات روما القديمة.
العلاقة هنا واضحة، فعبر سنوات تكونت لدى موسوليني أوهام عن ضرورة بعث الإمبراطورية الرومانية، تركزت الفاشية حول الإيمان بـ«الأمة المستنفَرة» التي تسمو فوق الاختلافات الطبقية من أجل المصلحة الوطنية، بحيث تصبح الأمة فوق كل مستويات الولاء الأخرى، وتجتمع حول الزعيم الذي يقود الشعب إلى استعادة العظمة الوطنية في المرحلة الأخيرة، عن طريق حرب توسعية تعيد أمجاده الغابرة.
كانت الفاشية، كما يصفها المفكر والروائي الإيطالي، «أمبرتو إيكو»، مبنية على «فكرة الحاكم الساحر، والمؤسساتية، وقَدَر روما الإمبراطوري الطوباوي، والإرادة الإمبريالية لهزيمة الطغاة الجدد، والوطنية المتزايدة، والمثالية الكاملة للأمة التي تحكمها القمصان السوداء، ورفض الديمقراطية البرلمانية، ومعاداة السامية».
يمكننا تلخيص الخصائص العامة للفاشية كالآتي:
- الأمة فوق الجميع (يمثلها الحزب الذي يصادر كل السياسات القائمة على ولاءات أخرى غير القومية، ويشكل بيروقراطية ضخمة توازي الهياكل الرئيسية للدولة والحكومة وتحاول تقويضها)
- تمجيد الأمة/العرق/الشعب باعتباره مميَّزًا في ذاته، وعلى حساب باقي الشعوب
- معاداة الديمقراطية الليبرالية واليسارية على السواء
- معاداة السامية/الأقليات العرقية (الدينية في أحيان أخرى) داخل البلاد
- كراهية الأجانب
- الذكورية الفجة ومعاداة الحركة النسائية/المثلية. (تربط الفاشية بين الليبرالية والاشتراكية والأنوثة، إذ يؤمن الفاشيون بأن دور المرأة يتمثل في إنجاب أبناء أصحاء وصالحين لخدمة الحزب والوطن)
- إنكار الحريات الشخصية وقمعها باستخدام أدوات ضبط اجتماعي صارمة ومنظمة
- قمع حرية الصحافة
- حل أي شكل من التنظيم النقابي غير الفاشي
- الرقابة الصارمة والضبط الأخلاقي للثقافة والفن والأدب
- التوسع العسكري (إذا أمكن ذلك) لأجل ضمان مساحة للعيش وتوفير الموارد
- اقتنع بما يقوله الزعيم
- أطع ما يأمرك به الزعيم
- حارب من أجل الوطن
لم تنل إيطاليا ما كانت تحلم به عبر معاهدة «فيرساي»، التي كانت بمثابة إعلان رسمي عن نهاية الحرب العالمية الأولى.
لكن الأمور على الساحة لم تكن بهذه السهولة أمام موسوليني وأعضاء حزبه في أثناء صعودهم، ليكون بوسعهم تنفيذ ذلك البرنامج الطَّموح، إذ كانت إيطاليا في سنوات ما بين انتهاء الحرب، عام 1918 وحتى تولي موسوليني رئاسة الحكومة، مسرحًا لصراعات واستقطابات طبقية وحزبية كبيرة لم يكن نصيب الفاشية فيها (في البداية على الأقل) بالقوة التي تُحتِّم انتصارها المطلق وإزاحتها القسرية لكل القوى السياسية في البلاد، والحركة العمالية والنسائية في قلب الحراك الاجتماعي الإيطالي.
خرجت إيطاليا من الحرب العالمية الأولى وهي تعاني من أزمة اقتصادية سببها التضخم، وبحلول عام 1920 انخفضت «الليرة» إلى سدس قيمتها في 1913 قبل بداية الحرب، وبلغ أعداد العاطلين عن العمل نحو مليوني عاطل من 40 مليونًا هو تعداد السكان آنذاك. كان جزء مهم بينهم من الجنود العائدين من الحرب، الساخطين كذلك.
لم تنل إيطاليا ما كانت تحلم به عبر معاهدة «فيرساي»، وهي التي جرى توقيعها بين المنتصرين والخاسرين في الحرب العالمية الأولى، وكانت بمثابة إعلان رسمي عن نهايتها. تطايرت آمال إيطاليا في الحصول على جزء من ألمانيا التي احتلها الحلفاء، وكان تعويض إيطاليا عن خسائرها في المعارك ضئيلًا جدًّا من وجهة نظر الحكومة الليبرالية بقيادة «إمانويلي أورلاندو»، والقوميين بالطبع، ومنهم موسوليني.
لقد شعروا بنوع من الهزيمة رغم انتمائهم إلى الجانب المنتصر، وشعر هتلر والقوميون الألمان جراء نفس المعاهدة، وهم على الجانب الآخر منها (وإن كانت خسارة ألمانيا أضخم على كل المستويات بالطبع)، بشعور يمزج بين الإذلال والخيانة حيال نتائج الحرب العالمية الأولى، إذ كان ذلك الشعور المحرك الرئيسي للنزعة القومية التي تقع في قلب الفاشية، واتخذت صورة عرقية خالصة في النازية.
الأعوام الحُمر
عُرفت السنوات بين 1918 و1921 بـ«الأعوام الحُمر». في انتخابات 1919 فاز الحزب الاشتراكي (أكبر تنظيم سياسي لليسار) بـ32.3% من مقاعد البرلمان، بينما فاز حزب «الشعب» الإيطالي المؤسس في نفس العام، وممثل المسيحيين الديمقراطيين (المحافظين الكاثوليك) بـ20.5%، وأخيرًا فاز الحزب «الديمقراطي الليبرالي» بـ15.9% من المقاعد.
خلال العام التالي اجتاحت إيطاليا موجة من الاحتجاجات الواسعة، تمثلت في احتلال الفلاحين العفوي للأراضي غير المزروعة في الجنوب، والإضرابات العمالية الواسعة في مصانع الشمال. شملت الإضرابات كذلك: السكك الحديدية والبريد والتلغراف.
كانت معاداة السامية تتجذر بين الفاشيين، إذ كان كل يهودي شيوعيًّا، وكل شيوعي يهوديًّا، من وجهة نظر الفاشيين.
في يونيو 1920، اندلعت أحداث شغب في منطقة أنكونا، وكانت على شفا التحول إلى عصيان مسلح. بحلول سبتمبر كان العمال احتلوا معظم مصانع الشمال متولين إدارتها بدرجة كبيرة، سيطر الاشتراكيون والمسيحيون الديمقراطيون على الحركة العمالية.
لكنهم لم يتحالفوا مطلقًا في وجه الخطر الفاشي الذي برز مع حملة «أصحاب القمصان السود» (الميليشيات شبه العسكرية)، الميليشيات التي أنشأها الفاشيون لقمع الحركة العمالية، بدافع من أصحاب المصانع الذين أجبرتهم الحركات العمالية على تقديم تنازلات تتعلق بزيادات في الأجور ومشاركة أكبر في الإدارة. وأيضًا مدفوعة بحذر المحافظين من الحركة النسائية التي طالبت بحق المرأة في الاقتراع، وارتفاع سقف مطالبها، وبخاصة بعد أن عملت النساء في أثناء الحرب بوظائف كانت محظورة عليهن من قبل.
لقد بحثوا عن حل بعيدًا عن الحكومات الليبرالية التي كانت في نظرهم عاجزة عن استعادة النظام بشكل كامل، لتعوِّض ضعفها بإجبارهم على تقديم التنازلات لصالح العمال.
كذلك كان ملاك الأراضي الكبار في الريف منزعجين من استمرار سيطرة الفلاحين على الأراضي غير المزروعة، وبخاصة بعد تولي حزب الشعب وزارة الزراعة وإبقائه على الأمر الواقع.
إضافة إلى كل ذلك، كان هناك شعور عام لدى المحافظين بالخوف من ثورة حمراء «بلشفية» قريبة.
لم تكن جروح القوميين الذين مالوا بالتدريج نحو موسوليني قد شفيت بعدُ من جراء الأزمة التي سببتها الحرب، وبشكل أكبر جراء الاحتجاجات المتصاعدة خلال نفس الفترة من الأقلية الألمانية واليوغسلافية. وكما يذكر المؤرخ الأمريكي «جيمس بورغوين»، في عمله عن السياسة الخارجية الإيطالية لتلك الفترة، فقد رأى الفاشيون أن اليوغسلافيين «يتآمرون مع ماسونية الشرق الكبرى» ضد إيطاليا، وأنهم جزء من «مؤامرة ديمقراطية ماسونية يهودية». وصفهم موسوليني في ما بعد بالعرق «الوضيع والبربري». وقاد حملة «طلينة» موجهة إلى الأقليات السلافية والألمانية لفرض اللغة والثقافة الإيطالية عليهم.
كانت معاداة السامية، بالرغم من عدم انتشارها الواسع في إيطاليا كما في روسيا قبل الثورة البلشفية وفي ألمانيا مثلًا، تتجذر شيئًا فشيئًا بين الفاشيين، إذ كان كل يهودي شيوعيًّا، وكل شيوعي يهوديًّا، من وجهة نظر الفاشيين. وأيضًا للمفارقة، فقد اتُّهم نفس اليهود بأنهم الرأسماليون الأغنياء المسؤولون عن الأزمة الاقتصادية التي خاضتها البلاد بعد الحرب.
خلال فترة ما بعد انتخابات 1919، سيطر على الحزب الاشتراكي جناح الزعيم الراديكالي «جياشينتو سيراتي» الذي تخلى عن السياسة الإصلاحية التي اتبعها الحزب ما قبل الحرب، لصالح سياسة أكثر راديكالية. لكن رغم ذلك، لم يبذل الحزب كثير من الجهد من أجل التحضير لثورة اجتماعية، وتجوهلت ميول الطبقات الوسطى ودورها الحاسم (الذي سيوجه البوصلة نحو الفاشية في النهاية) في غمرة الصراع السياسي، حين هدد التضخم أصحاب الدخول الثابتة من الإداريين والمتقاعدين.
أخيرًا في يناير 1921، انشقت مجموعة من الحزب الاشتراكي مكونة الحزب الشيوعي الإيطالي ذا التبعية الأكبر لموسكو و«ستالين»، ما أسهم في انقسام اليسار سياسيًّا، وأسهمت سياسات ستالين في رفض المقاومة المسلحة ضد الميليشات الفاشية، وأيضًا في رفض التحالف مع الديمقراطيين من القوى الأخرى المناهضة للفاشية (كان الوضع أسوأ في ألمانيا، حيث وصف الشيوعيون الألمان، أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي، أكبر أحزاب البلاد، بالاشتراكيين الفاشين، وذلك بتعليمات من ستالين).
خلال نفس الفترة، حسبما يذكر المؤرخ «كيفن باسمور»، نظمت الحركة الفاشية نفسها داخل المناطق الريفية المتضررة من اضطرابات الفلاحين، حين انضم إلى النشاط الفاشي «شباب البرجوازية الريفيون من أبناء مديري الإقطاعيات ومسؤولي البلدات الصغيرة والمعلمين (ومعظمهم من قدامي المحاربين) وأصبحوا يتحركون بأعداد كبيرة»، ووجدوا في الفاشية «وسيلة للاضطلاع بمحاربة الجماعات الاشتراكية والكاثوليكية».
وقد تولوا بالفعل تطبيق القانون والنظام في تلك المناطق بحلول 1922، وواصلوا التوسع حتى وصلوا إلى المدن، وتحركوا داخل النقابات، وقد نجحوا (باستخدام العنف والترهيب) في إنهاء إضراب عام في نفس العام الذي بحلول نهايته كانت أعدادهم وصلت إلى ربع مليون.
كانت إيطاليا ملكية دستورية يدين فيها الجيش والشرطة (حيث الثقل الحقيقي للسلطة) بالولاء للملك، بينما كان العمل الفاشي «جماهيريًّا» بصورة كبيرة بين الشبيبة الريفية والطلابية والنقابات، أي إنها لم تكن حركة من داخل الجيش أو الشرطة اللذين رفضا إقحامهما في الصراع بوضعهما في مواجهة «أصحاب القمصان السوداء» الذين بلغت أعدادهم حينئذ 30 ألفًا فقط، خوفًا من الحرب الأهلية، ومن أن يكون الرابح الأكبر من أي صراع مسلح بغرض القضاء على الفاشية هو اليسار.
في انتخابات إبريل 1924، ربح الفاشيون نسبة 64.9% من الأصوات باستخدام حملات ترهيب واسعة غير مسبوقة ضد منافسيهم.
أما بالنسبة إلى القوى الاقتصادية الكبرى، فإنها كما يرى «رينسو دي فليتشي»، مؤرخ الفاشية الإيطالية وكاتب سيرة موسوليني السياسية، انتفعت من جلب الفاشية إلى السلطة، إذ مثلت «مراقبة بيضاء. وكان واجبها محددًا، ولا يتسع ليكون استبداديًّا، وعليها بعد انتهاء واجباتها العودة إلى بيتها، وليس النهوض بأعباء السلطة».
تمثلت تلك المهمة بالطبع في قمع الحركة العمالية. وقد أمل بعضهم في أن إدخال الفاشية إلى السلطة سيعمل على «إفراغها وشل حركتها». أراد بعضهم أن يكون موسوليني فقط وزيرًا للداخلية ضمن حكومة تحالف، وذلك من أجل «لجم التنظيمات الفاشية، ووضعها في نصابها»، وذلك لا ينفي أن بعض أصحاب الأعمال أيدوا فقط إقامة ديكتاتورية محافظة تحكمها كيانات الجيش والشرطة والكنيسة، وليس نظامًا فاشيًّا يوازي فيه الحزب سلطة الدولة، ويعمل على تقويض تلك الهياكل التقليدية للسلطة.
بالنسبة إلى عدد من الناس، احتوت التنظيمات النقابية الفاشية على جانب مبهم. إذ رغم عدائها الشديد لليسار، فإنها وعدت بتدخلٍ ما في المستقبل، في العملية الاقتصادية، فقد تبنت نموذج «الكوربوراتية» التي تعني أن «يتولى اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة، كيانات تنظيمية تمثل أصحاب العمل المعنيين بهذه القرارات: نقابات عمالية أو اتحادات أرباب العمل أو جماعات تمثل الأسرة والفلاح».
تُعلى «الكوربوراتية» المصلحة الوطنية فوق اعتبارات الربح الخاصة (وإن كان سيتبين في أثناء الحرب العالمية الثانية، أن الشركات تحكمت في عملية تصنيع السلاح وحققت أرباحًا دون أي اعتبار لتلك المصلحة الوطنية)، مع وعد ببعض إجراءات التأميم (سيجري بالفعل تأميم البنوك الكبرى دون المساس بالشركات الكبرى)، ويَعِد بتدخلات في خطط الإنتاج وقوانين العمل لصالح الإيطاليين (الأنقياء عرقيًّا والمطيعين فقط)، لكنهم، أي كبار رجال الصناعة وملاك الأراضي الزراعية، أيدوا في النهاية صعود موسوليني في أكتوبر 1922، مدفوعين بعداوتهم الأشد لليسار.
تحولت إيطاليا في 1926 إلى إيطاليا الفاشية التي ستغزو إثيوبيا، وتشارك بالحرب العالمية الثانية في تحالف مباشر مع ألمانيا النازية.
في انتخابات إبريل 1924، ربح الفاشيون نسبة 64.9% من الأصوات باستخدام حملات ترهيب واسعة غير مسبوقة ضد منافسيهم. وحين عارض النائب اليساري «جياكومو ماتيوتي» النواب الفاشيين داخل البرلمان، وطالب بإلغاء نتائج الانتخابات، اختُطِف ثم عُثِر على جثته في ما بعد خارج روما، انهار حزب الشعب الكاثوليكي تحت ضربات الميليشيات الفاشية، وبعدما رفع البابا الدعم عنه مقابل وعد من موسوليني بتحسين مكانة الكنيسة مقابل ذلك.
ثبت في ما بعد أن هذا النموذج الكوربوراتي الفاشي الغامض بالنسبة إلى الرأسماليين، كان وهمًا بإتمام تحول الفاشية التدريجي من حركة إلى نظام في 1925، حين جرى في نهاية العام كذلك:
- حظر المعارضة السياسية بحل جميع الأحزاب والنقابات العمالية غير الفاشية
- قمع حرية الصحافة ومنع أي تجمعات غير فاشية
- إلغاء انتخابات الحكومات المحلية
- إقرار عقوبة الإعدام
- إنشاء محكمة خاصة بصلاحيات واسعة جدًّا، من ضمنها إرسال الأشخاص غير المرغوب فيهم إلى السجن من خلال إجراء إداري
تروتسكي.. السعار والبارود الرطب
يعد التحليل الماركسي للفاشية بواسطة «ليون تروتسكي»، أحد قادة الثورة الروسية، والمنفي خارج روسيا الستالينية في ذلك الوقت، من أول وأهم التحليلات التي تناولت صعود الفاشية وما آلت إليه، وكذلك طرق مقاومتها في وقت مبكر جدًّا ومعاصر لتلك المراحل.
ينطلق تروتسكي في تحليله للفاشية من سؤال: «هل حقق هذا النظام القوانين الملازمة التي تحكم تطور نمط الإنتاج الرأسمالي أم أنكرها؟»، وإجابته أنه حققها بالفعل، وضمن استمراريتها في ظل أزمة كادت تقضي عليها.
بالنسبة لتروتسكي، الفاشية نتاج عجز الوسائل التقليدية البوليسية والعسكرية للديكتاتورية البرجوازية، عن إبقاء المجتمع في حالة توازن.
بصيغة أخرى يوضحها «إرنست ماندل» عن تروتسكي، فإن الأمر كله يتعلق بأزمة إعادة إنتاج رأس المال المتمثلة في «استحالة مواصلة تراكم طبيعي له» خلال الأزمة الاقتصادية ما بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك يرجع لأسباب تتعلق بالمنافسة القائمة في السوق العالمية بصورة رئيسية، وتتمثل في:
- مستوى الأجور الفعلي
- إنتاجية العمل
- الوصول إلى المواد الأولية
- أسواق تصريف السلع
فقد أثَّر التضخم، ما بعد الحرب، في القيمة الفعلية للأجور. وكانت إيطاليا التي لم تمتلك مستعمرة كبيرة كفرنسا وبريطانيا، بحاجة للوصول إلى المواد الخام اللازمة للتصنيع، ما سيعزز من نزعة التوسع ويدفعها إلى الحرب (في إثيوبيا ثم الحرب العالمية الثانية)، وكانت بحاجة لإيجاد سوق خارجية لمنتجاتها، إذ كانت السوق المحلية تعاني من ركود نسبي بفعل التضخم.
بالنسبة إلى تروتسكي، فإن الفاشية نتاج «عجز الوسائل التقليدية البوليسية والعسكرية للديكتاتورية البرجوازية، وواجهاتها البرلمانية، عن إبقاء المجتمع في حالة توازن»، ذلك التوازن الذي يضمن العقد الاجتماعي للديمقراطية الليبرالية، قائمًا على حفظ قوانين الإنتاج الرأسمالية.
في رأي تروتسكي، انتهت «أنصاف الحلول» البرجوازية، لتتخلى البرجوازية عن سلطتها السياسية لصالح شكل أكثر صراحة ودموية من السلطة التنفيذية (الفاشية)، بغرض القضاء على خطر الثورة نهائيًّا، وإعادة تربية الشعب بغرض أساسي هو تقويض الصراع الطبقي للأبد، الدور الذي تؤديه النزعة القومية للفاشية بتوحيدها لعموم الطبقات تحت راية واحدة هي «الأمة»، بينما تتمثل أداة الفاشية الأساسية الجماهيرية لدى تروتسكي في «البرجوازية الصغيرة المهتاجة»، إلى جانب الفئات الاجتماعية الوسطى المهددة والبروليتاريا الرثة التي يثيرها استمرار الأزمة الاقتصادية.
تضم البرجوازية الصغيرة تحت مظلتها رجال أعمال متوسطين وصغارًا، وموظفين حكوميين، وحرفيين أصحاب ورش، وتجارًا صغارًا، وأصحاب محال، وداخل المصانع من تقنيين ومدراء صغار ومتوسطين. وقد خاف هؤلاء من هبوطهم جراء الأزمة الاقتصادية إلى مستوى الطبقات الأقل، وسط «الشكاوى الحادة للملاك الصغار غير البعيدين إطلاقًا عن الإفلاس، ولأولادهم الجامعيين دون وظائف، وبناتهم دون مهر، ودون من يطلبهن للزواج».
أطلق هذا حالة «اليأس والسعار» كما يصفها تروتسكي لديهم، وقد ازدادت نقمتهم بسبب التغيير المستمر للوزارات، وعلى الأحزاب الموجودة لعدم قدرتها على تحسين الأوضاع، وأيضًا لتساهلها مع تهديد الطبقة العاملة الثوري (الذي تمثل في إيطاليا في السنوات الحُمر). لقد خانتهم الأحزاب، لذلك فهم يسعون لاستعادة النظام بأي ثمن، على جثة البرلمان والديمقراطية والأحزاب الليبرالية واليسارية على السواء.
إن البرجوازي الصغير، في نظر تروتسكي، معادٍ للتطور الذي يناقضه دومًا، والذي لم يُقدم له سوى «ديون لا تنتهي»، وحيث «انتصار التكنولوجيا على الطبيعة، تعني انتصار الرأسمال الكبير على الرأسمال الصغير» الذي يمثله، ويتمثل البعد الخرافي في الفاشية وسعيها لتصفية «المنطق العقلي» في أن دور البرجوازية الصغيرة التاريخي لا يسمح لها بالوصول بأي فكرة إلى نتيجتها، إذ تمثل «المثالية الوطنية» هنا الأسطورة في ذهن البرجوازي الصغير، والتي تقف فوق المادة والتاريخ، محمية من المنافسة والتضخم والأزمة ومنصة المزاد العلني، ضد «عقلانية الفكر الاقتصادي» للقرون من الثامن عشر حتى العشرين.
لقد كانت تلك الأسطورة منبعًا لأفكار العرق لدى الفاشية التي تعلو فوق كل الاعتبارات الصحيحة للتاريخ والاقتصاد، وحتى البيولوجيا نفسها. لكن رغم ذلك تظل الفاشية في الحكم أو الفاشية كنظام متحقق، وليس مجرد حركة جماهيرية «أكثر الديكتاتوريات قساوة للرأسمال الاحتكاري»، لأن الطبقات الوسيطة رغم كل شيء لا تمتلك، في رأي موسوليني، أي «سياسات مستقلة».
وقد كانت البرجوازية الصغيرة والبروليتاريا الرثة من اكتشفته، وساعدته في الوصول إلى السلطة حتى دون «برنامج جاهز». لقد كان العزاء والتفجع المتكرر على سوء الأوضاع الذي مارسته البرجوازية الصغيرة، طوال سنوات الأزمة والثورة، حتى دون تقديم حلول منظمة، يصف تروتسكي خطابات هتلر (وينطبق وصفه على خطابات موسوليني) بأنها «العاطفة الفارغة، وغياب التفكير المنظم، والجهل، والنصوصية المبهرجة»، ويوضح كيف أن تلك العوامل ساعدته في تشكيل حركة جماهيرية تتبعه، إذ «أصبحت جميع تلك النواقص زوائد، لقد زودته بإمكانية توحيد كل أنواع السخط حول جمعية المتسول الاشتراكية الوطنية».
رأى تروتسكي التوسع الإمبريالي بمثابة «المهمة التاريخية» للديكتاتورية الفاشية، حيث التجميع الإجباري للقوى والموارد لمصلحة العظمة الوطنية.
إلا أن موسوليني في رأيه كان «أوضح ذهنًا وأكثر شكًّا»، فقد أدرك منذ البداية قيمة دور الطبقات الوسطى في الانحياز لإحدى الطبقتين البرجوازية أو البروليتاريا في اللحظات الحاسمة، وقد جعلها موسوليني تنحاز ضد البروليتاريا. وساعدها في ذلك دور الاشتراكية الديمقراطية في كبح المقاومة العمالية حتى لحظة تمكن موسوليني وهتلر من السلطة.
لقد التزمت الاشتراكية الديموقراطية(إذ يركز تروتسكي على ألمانيا) السياسة الإصلاحية عبر البرلمان، وتراجعت أمام هجمات الفاشية باستسلام، عطلت مقاومة الطبقة العاملة، وهي لم تزل متماسكة، وفي النهاية عندما قرر قاداتها المقاومة ودعوا العمال إلى إضراب عام، فقد «واجهوا إخفاقًا تامًّا. لقد رطبوا البارود لئلا ينفجر. وأخيرًا، عندما وضعوا فتيلًا مشتعلًا بيد مرتجفة، لم يحترق البارود». ذلك ما حصل في إيطاليا عام 1922، خلال الإضراب العمالي الأخير الكبير التي فضته الفاشية.
بالفعل توقع تروتسكي في الثلاثينيات دخول أوروبا في حرب سيحددها «الوقت الضروري لتسليح ألمانيا»، فيما لم يعر انتباهًا في تلك النقطة، لمنشأ الفاشية، أي إيطاليا نفسها، حيث لم تكن الأخيرة بقدراتها العسكرية المحدودة، بالقوة التي تستطيع قيادة حرب.
لكن رغم ذلك، لم تقدم التحليلات الماركسية المعاصرة لصعود الفاشية الإيطالية نظرية واضحة حول النزعة القومية، بحيث لا يمكن اختزالها للعامل الطبقي فقط. لقد حاول تروتسكي في طرحه عن أسطورة المثالية الوطنية التي تعلو في ذهن البرجوازي الصغير فوق اعتبارات العقلانية والاقتصاد الحديث، لكن ماذا عن الفئات الوسطى الأخرى، والعمال الذين خاضوا (حتى قبل ظهور الفاشية) الحرب العالمية الأولى ضد بعضهم متلفحين بالراية القومية؟ ذلك ما سيحاول «رينسو دي فليتشي» تفسيره من خلال عمله على حركة الفئات الوسطى التي في رأيه لم تكن مجرد رد فعل على أزمة أو ثورة محتملة، لكنها تعبر أيضًا عن رغبة في تقديم نفسها طبقة.
رينسو دي فليتشي.. الفاشية كحركة والفاشية كنظام
«رينسو دي فليتشي» من كبار مؤرخي الفاشية على مستوى العالم، وهو كاتب سيرة موسوليني السياسية في عدة أجزاء، ويركز في كتاباته على الفاشية التاريخية، أي تلك التي ظهرت بين 1919 و1945، ويراها مختلفة عن كثير من الأنظمة على امتداد العالم، والتي وُصفت في ما بعد بـ«الفاشية»، ولا يرى فرصًا لإعادة إحياء تلك الفاشية التاريخية من جديد.
يرى دي فليتشي أن الفاشية لم تكن ممكنة من دون الحرب العالمية الأولى، إذ نضجت الشروط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لصعودها. ولأن الفاشية نظام من دون حرب، أي نظام دون تعبئة جماهيرية مستمرة، وعسكرة ممنهجة للتنظيمات الاجتماعية (من المدرسة حتى منظمات المجتمع المدني)، استعدادًا لمعركةٍ ما في المستقبل، فهي: «مغلقة، ومن النوع التقليدي والشمولي اليميني والكاثوليكي».
ويسلِّم بأن استلام موسوليني السلطة كان نتاج تسوية بين الفاشية البازغة والقيادات التقليدية المحافظة والليبرالية التي سمحت بصعوده (ليس من بينهم المسيحيون الديمقراطيون ممثلون في حزب الشعب)، خلال السنوات الثلاثة الأولى حكم موسوليني عبر ما يشبه تحالفًا بين تلك القوى، ولم يجزم أحد بأنه كان في طريقه حقًّا لإقرار نظام فاشي، لكن بمجرد حدوث ذلك، برز صراع من نوع آخر داخل الفاشية نفسها، بين الراديكاليين الذين يضمنون أن انتصار الفاشية يتحقق في أول سنتين (كانوا على الأرجح بين النقابيين وأصحاب القمصان السوداء) والمعتدلين الذين أرادوا العودة لطبيعة الأمور، وقد تولوا مناصب مهمة داخل الحكومة عن طريق الحزب.
كان الخلاف هنا حول كيفية بناء الفاشية لشكلها الدستوري من خلال «امتصاص النماذج التقليدية المحيطة بها»، وكيف يمكن إنقاذ الأفكار والتوجهات المركزية عبر ذلك.
مثلت الفاشية كحركة، العناصر المتصلبة التي سبقت المسيرة إلى روما، وكانت تمتلك زخمًا «ثوريًّا» بمثابة محاولة لبناء شيء ما جديد، بحيث تؤسس رؤيتها المستقبلية وتتوفر على عنصر «أخلاقي»، وهي التي أقامت قطيعة واضحة بين فترة ما قبل الفاشية والفاشية ذاتها.
يرى كثير من الفاشيين أن النظام الذي تشكل بعد الإمساك بالسلطة، خان الحركة الفاشية. ينطلق دي فليتشي لتفسير ذلك من تعريف بسيط، هو أن الحركة «فكرة للحقيقة»، بينما الحزب والنظام «تحقيق وتحول لهذه الحقيقة»، يواجهان الصعوبات الموضوعية في التصرفات والسلوكيات. لكنه يعود لينكر فكرة الخيانة لصالح فكرة أن النظام كان ضمانًا للوجود والاستمرارية، وأن شخصية موسوليني كانت حاسمة، بحيث ظلت الحركة واضحة في اللحظة التي يمكن فيها الإنصات إليه.
أما في ما يتعلق بالآلية الجماهيرية للصعود الفاشي، لا يكتفي دي فليتشي بالتفسيرات التي تختزل الأمور إلى تدني مستويات عيش الفئات الاجتماعية الوسطى التي، للتخلص من الفاقة، ثارت وانتفضت، أي قراءة الفاشية فقط كظاهرة تمس قطاعات كبيرة من «المتشككين والخاسرين والساخطين». لكنه يرى أن قسمًا كبيرًا من الفئات الاجتماعية الوسطى سعى للتعبير عن تطلعاته، بمعنى تطلعهم لإتمام فعل اجتماعي متميز، ما يمكنهم من إعلان مشاركة واكتساب سلطة سياسية.
كانت الفاشية مشروعًا للهندسة الاجتماعية. وسعت إلى إحلال نموذج المواطن الإيطالي الجديد في المستقبل، وتنشئة أجيال جديدة فاشية.
حوصرت تلك الفئات بين البروليتاريا والبرجوازية الكبرى، وقد حاولت «تقديم نفسها كطبقة اجتماعية دون تنكر أو قناع يخفي مطالبها ورغباتها»، مع محاولة «تأكيد هويتها وإثبات وظيفتها وثقافتها التي هي بالضبط سلطتها السياسية ضد البرجوازية والبروليتاريا»، بحيث أعلنت ثورة. وقد استهدفت الفاشية تلك الفئات باعتبارها برجوازية صغيرة مستقبلية وصاعدة كي تصبح طبقة اجتماعية في النهاية.
لذلك، فإن الاستنتاج الأخير لهذا الطرح أن دي فليتشي لا يرى الفاشية مجرد حركة ضد التهديد البروليتاري الأحمر، لكن حركة للفئات الاجتماعية الوسطى الصاعدة الراغبة في إثبات نفسها بعيدًا عن المشروعات التقليدية للبرجوازية والبروليتاريا.
يتفق دي فليتشي مع تروتسكي في أن عمود الحركة الفقري، والمتعلق بعناصرها السياسية والعسكرية الأكثر حيوية قياديًّا، أخذ طابعًا برجوازيًّا صغيرًا، إذ تطلعت هذه العناصر التي «لا تعترف بالخبرة ولا بشرعية الحكم»، وتعارض حتى التنظيمات الاجتماعية التي تمثلها، إلى المشاركة الواسعة في الحياة الاجتماعية والسياسية.
الجذور التنويرية والرجعية للفاشية
كانت الفاشية مشروعًا للهندسة الاجتماعية. فقد سعت إلى إحلال نموذج المواطن الإيطالي الجديد في المستقبل، وتنشئة أجيال جديدة فاشية وامتثالية بالكامل، عبر المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام. سعت الفاشية لخلق مستقبل ضد التقاليد الحداثية للمجتمع البرجوازي «الأنثوي»، والليبرالية التي تتقبل التنوع داخل المجتمع الواحد في ظل القانون، وربما يقع ذلك العداء للحداثة والتصنيع لربط الفاشية بين الانتماء القومي والانتماء للأرض.
لقد مثَّل الفلاحون في المخيلة والأدبيات الفاشية الامتداد الراسخ لمواطني إيطاليا الأنقياء، وكذلك لنمو الفاشية بين جماهير البرجوازية الصغيرة وجماهير الريف المناهضة للمدنية والتقدم الصناعي، والتي أقحمت نفسها طبقًا لفليتشي في بعض التقاليد الديمقراطية لتلك البرجوازية الصغيرة. الروماني «كورنيليو كودريانو»، قائد «كتيبة رئيس الملائكة ميخائيل» الفاشية، والتي نفذت اغتيالات سياسية كثيرة في رومانيا، كان يرتدي لباسًا ريفيًّا تقليديًّا تحت المعطف والقبعة.
إلا أن ذلك لا يحد من فرضية ارتباط الفاشية بالتراث التنويري الأوروبي للقرن الثامن عشر، كما يرى «كيفن باسمور»، إذ إن معاداة التقاليد نفسها مستمَدة من ذلك التراث الذي يرى أنها لا يجب أن تشكل المجتمع. في رأي باسمور وفليتشي، كان تبرير العنف بحجة «بناء نظام جديد واجتثاث من يعارضون الإرادة العامة» لدى الفاشية كما اليعاقبة، أكثر أطراف الثورة الفرنسية جذرية، فقط حلت «الأمة» لدى موسوليني محل «الإرادة العامة» لدى فيلسوف التنوير «جان جاك روسو» والتي تقوم لديه على مبدأ عالمي.
على الجانب المعاكس، تمثل الفاشية امتدادًا لأفكار الداروينية الاجتماعية لدى منظري القرن التاسع عشر اليمينيين، كما لدى الإنجليزي «توماس مالتوس». فقد رفض الفاشيون تطوير وسائل الراحة خوفًا من انحلال الجماهير، متسقين مع دعواهم لإقامة أمة مستنفَرة. وقد دعا موسوليني مرارًا إلى ضرورة التعفف والتشقف ونبذ الاستهلاك.
وامتدادًا للجماهيرية، كما عند الفرنسي «غوستاف لوبون»، وحديثه عن لاعقلانية الجماهير وكيفية توظيفها وتحريكها، وكما يرى فليتشي، فقد أدرك موسوليني أن بإمكانه، عبر إجراء التواصل مع الشعب بالقدر الكافي من الحماسة والطاقة الفعالة، أن يضمن ولاء الجماهير وانصياعها الكامل. إذ يمثل «موضوع موسوليني» المُعلَّقة صورته، والمُذاعَة خطاباته، والمُقروءة أفكاره في كل مكان، «لحظة الذروة» المدعومة بسلطته الكاريزمية بالنسبة إلى الجماهير.
غزو إثيوبيا
اهتم موسوليني بتوفير الحيز المعيشي. إذ رأى أن التوسع الاستعماري مهم لتوفير المواد الخام وتنشيط الاقتصاد، وأيضًا توطين أعداد كبيرة من الإيطاليين في المستقبل.
في أكتوبر 1935، أُرسِل نصف مليون جندي إيطالي لغزو الإمبراطورية الإثيوبية. لم يكن النصر سهلًا للغاية كما توقع موسوليني، وقد حققه في مايو 1936 بعد إلقاء 300 طن من غاز الخردل السام على المدن والقرى الإثيوبية. قتل نحو 400 ألف إثيوبي، 300 ألف منهم من المدنيين، وذلك حتى الانسحاب في 1941، في مقابل 10 آلاف قتيل إيطالي، و44 ألف جريح.
اتبع موسوليني سياسة خارجية مُسالمة نسبيًّا حتى عام 1934 لتعزيز مكانته كممثل للسلام الاجتماعي. في رأي فليتشي، فإن موسوليني اعتقد أن من شأن ذلك إيقاف الصعوبات العالمية التي اجتاحت فرنسا وإيطاليا في ذلك الوقت، حينما لم يحظ بالدعم الشعبي الكامل للحرب في بدايتها، لكن عندما استولت القوات الإيطالية على إثيوبيا، وقفت النزعة القومية الجماهيرية وراء الحرب. كانت، كما يصفها، «هيجانًا شعبيًّا»، لكن ليس إمبرياليًّا كلاسيكيًّا على الطريقة الفرنسية أو الإنجليزية، بل باعتبار الإيطاليين «جنوبيين» ينزحون من أجل توطين أنفسهم والحصول على العمل والإمكانيات غير المتوفرة في بلادهم.
التحالف مع النازية والسقوط الأخير
في يونيو 1940، انضم موسوليني إلى تحالف دول المحور، إذ كان النصر محسومًا في ذلك الوقت لصالح ألمانيا النازية، آملًا في السيطرة على مساحات من الأراضي المُحتلة في أوروبا، وربما خوفًا من انتقام غير مضمون لهتلر بسبب أن إيطاليا كانت في صف المنتصرين ضد ألمانيا في معاهدة فيرساي.
في أكتوبر من نفس العام، فشل الجيش الإيطالي في احتلال اليونان حتى تلقى مساعدة من وحدات النخبة النازية (SS)، وقد خسروا امبراطوريتهم في شرق إفريقيا عام 1941، وانهزموا أمام البريطانيين في شمال إفريقيا في معركة «العلمين» في أكتوبر 1942، وتراجعت قواتهم في شمال إفريقيا حتى أعلنت استسلامها في مايو 1943.
شاركت القوات الإيطالية في غزو روسيا بجيش مكون من 250 ألف جندي، وقد أسهم الإيطاليون في المجهود المخابراتي الألماني لاصطياد البلشفيين واليهود في المناطق المحتلة، ليهزمهم الصقيع والجيش الأحمر وليبلغ عدد القتلى والأسرى من الإيطاليين 85 ألفًا.
كان التجهيز العسكري الإيطالي ضعيفًا، امتلكوا القليل من الدبابات ومن الأسلحة المضادة لها، وسلاح طيران هزيل للغاية، إلى جانب ندرة الطعام والملابس والوقود والمركبات. لم تستطع المصانع إنتاج السلاح بسبب نقص خامات الحديد والفحم، وتعرضت لقصف مُركَّز على يد الحلفاء بين عامي 1942 و1943.
في مارس 1943 أقيم أول إضراب كبير منذ 1925، في مصانع ميلانو وتورينو من أجل الإجلاء الآمن لعائلات العمال من مناطق القصف. ومع دخول قوات الحلفاء، كان الولاء للنظام ينحدر مع النقص الحاد في الطعام ونزوح مئات الآف للريف هربًا من القصف. في ذلك الوقت بدأ السلافيون تنظيم مقاومة مسلحة ضد الفاشية، وبين 1942 و1943 صعدت المقاومة الداخلية ضد الفاشية مجددًا، مسلحة هذه المرة، إذ نظم الشيوعيون الإضرابات، وتشكل أيضًا الحزب المسيحي الديمقراطي من طليعة الكاثوليك، وتشكل حزب العمل من الجمهوريين والراديكاليين.
بدأت طليعة الشيوعيين في تنظيم مقاومة مسلحة، ومد جذور للحزب الشيوعي على امتداد البلاد. وعملت معظم الأحزاب السرية معًا للإطاحة بالفاشية. في 24 يوليو 1943، وبعد إنزال ناجح للحلفاء في صقلية، صوَّت المجلس الفاشي الأعلى ليعلن الملك والمجلس الفاشستي الأعلى، في 25 يوليو 1943، عزل موسوليني واعتقاله في فندق داخل منتجع للتزلج بجبال أبروزو، لتحرره وحدة من قوات «SS» يوم 12 سبتمبر بأوامر مباشرة من هتلر الذي سيعينه رئيسًا على جمهورية «سالو الاشتراكية الوطنية» شمال إيطاليا، حيث كانت خاضعة لسيطرة قوات ألمانية.
في 18 إبريل 1945، ومع الحصار المفروض على هتلر باقتراب الجيش الأحمر من موسكو، وقوات الحلفاء من بولندا، يغادر موسوليني مخبأه في سالو متجهًا إلى أسقف ميلانو كي يتوسط بعقد اتفاق بينه وبين الأنصار (وحدات المقاومة التي أدارها الحزب الشيوعي الإيطالي)، غير أنهم نشروا تعميمًا بالقبض عليه وإعدامه.
توجه موسوليني شمالًا صوب الحدود السويسرية متنكرًا في زي جندي نمساوي رفقة عشيقته «كلارا بيتاتشي» قبل أن يوقفهم كمين للأنصار في بلدة دونغو. كان وجه موسوليني الملصق على كل جدار في إيطاليا على مدار عقدين، معروفًا بما يكفي ليتأكدوا من أنهم قد أمسكوا به. ليُعدَم في اليوم التالي رميًا بالرصاص، وفي ساحة لوريتو بميلانو، حيث أعدمت وحدات فاشية قبل ثمانية أشهر، 15 من أعضاء المقاومة بأوامر من وحدات «SS» النازية. ستُعلَّق جثته رفقة عشيقته و14 فاشيًّا آخرين في محطة بنزين.
أمين حمزاوي