صراع الإنسان والآلة: التكنولوجيا عدو أم صديق؟
من الصعب أن نخفي إعجابنا برؤية الآلات الحديثة والتكنولوجيا وهي تنفذ في خطوات قليلة وبدقة متناهية ما كان يحتاج ساعات عمل من شخص أو عدة أشخاص، فمع كل يوم تخطو الآلات خطوات كبيرة نحو ما نطلق عليه «جعل حياة الإنسان أسهل».
ولكن هناك جانب مظلم في الأمر؛ فبقدر ما تجعل الآلات حياة الإنسان أكثر سهولة، فهي توقف في طريقها عمل عدة موظفين، أدت هي عملهم بالفعل وبكفاءة أكبر غالبًا.
عبر التاريخ، دائمًا ما كانت الآلات أو الروبوتات مخيفة للعمال، وتطرق ناقوس زيادة معدل البطالة. من أجل هذا ثار العمال على الآلات في إنجلترا عام 1811 ودمروها، فيما يعرف بـ«شغب اللوديين» (Luddite riots). واللوديون لقب جماعة العمال الذين أشعلوا هذه الحركة.
حتى العباقرة انحازوا ضد التكنولوجيا، كآينشتاين الذي لام الآلات على البطالة التي زادت في الثلاثينات.
ولكن يبدو أن خوف الإنسان من الآلات وإمكانية أن تحل محله لم ينته في القرن التاسع عشر، بل أخذ في الازدياد مع تغير أشكالها عامًا بعد الآخر. نظرة إلى عناوين الصحف والمواقع خلال القرن الماضي كما قدمها موقع Timeline ستخبرنا بالكثير عن العلاقة الملتبسة بين الإنسان والآلة.
العشرينات: هل تفترس الآلة الإنسان؟
في عام 1921، وعلى صفحات جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية، عُرِض كتاب بعنوان (Will Machines Devour Man)، أو «هل ستفترس الآلات الإنسان؟»، مع رسم كاريكاتوري لشخص يضع إنسانًا في مفرمة اللحم، فيما الحيوانات واقفة تشاهد. بالإضافة لهذا كان هناك رسم بعنوان «رؤية لعصر الآلات»، يُظهر الكثير من الناس بحجم صغير كأنهم نمل، وفي خلفية الصورة تروس تأخذ الحيز الأكبر من الرسم.
بعد هذا بعدة أعوام، وعلى صفحات الجريدة نفسها، كان هناك عنوان بالخط العريض يقول: «زحف الآلات يؤدي للمزيد من البطالة»، مع صورة للعمال في طابور طويل خارج المصنع، فيما يرتفع الدخان من قلب المصنع دليلًا على تشغيله دون عمال.
الثلاثينات: العباقرة أيضًا يلومون التكنولوجيا
حتى العباقرة لم يشفقوا على التكنولوجيا، لهذا نرى آينشتاين يلوم الآلات على البطالة التي زادت في الثلاثينات مع الكساد الكبير.
ربما يهمك أيضًا: كيف أدت سياسات صندوق النقد لتفاقم الأزمات الاقتصادية في العالم؟
فيما ذكر الاقتصادي جون ماينارد كينز (John Maynard Keynes) أن الآلات أحد أسباب البطالة التي شاركت في حالة الكساد. وكان لكينس الفضل في صك مصطلح جديد ليعبر عن المشكلة، حين قال: «أُصبنا بمرض جديد، بطالة التكنولوجيا»، وكان «بطالة التكنولوجيا» هو المصطلح المناسب في الوقت المناسب، لاستخدام الآلات كبش فداء لما وصل إليه هذا العصر.
في أربعينات القرن الماضي، اقترح سيناتور أمريكي فرض ضرائب على الآلات.
وبدراسة بسيطة للفترات التي تزداد فيها معدلات البطالة في الولايات المتحدة الأمريكية، سنجد أنها تتزامن مع استخدام المصطلح السابق، ويقل استخدامه بانخفاض معدلات البطالة.
ولكن لم يكن كل ما كُتب في هذه الفترة يحمل هجومًا فقط، بل كان هناك مقال يدافع عن الآلات بعنوان «الآلات وزراء عن الإنسان»، كتبه «هنري فورد» (Henry Ford) مؤسس شركات «فورد» الشهيرة لصناعة السيارات، حاول فيه توضيح أن زيادة الآلات ستخلق فرص عمل للبشر أكثر مما تأخذ. في نهاية الأمر، فورد كان لديه خطوط إنتاج تعتمد على الآلات بشكل أساسي وكان من الصعب أن يهاجمها، بل على العكس يجب أن يخطب ودها.
الأربعينات: لماذا لا تدفع الآلة الضرائب؟
مع زيادة عدد الآلات، اقترح سيناتور أمريكي فرض ضرائب عليها، مفسرًا ذلك بأن العامل يدفع الضرائب لكن العاطل لا يدفع، ولهذا يجب أن تُدفع الضرائب عن الآلات بحساب عدد العمال الذين تؤدي الآلة عملهم، وتُدفع الضريبة مكافِئة لما كانوا سيدفعونه.
فيما اتجه الكاتب هال بويل (Hal Boyle) لمساحة أكثر سوداوية من سابقيه؛ إذ كتب أن الآلات بدأت في السيطرة على الإنسان، وذلك تحت عنوان «الآلات تسخر من الإنسان».
الخمسينات: بريطانيا ليست أفضل حالًا
لم يكن الخوف من الآلات مقتصرًا على الولايات المتحدة، بل ظهر بقوة في بريطانيا أيضًا بسبب زيادة معدلات البطالة. وعلى صفحات جريدة «نيويورك تايمز» كُتب أن العمال الإنجليز يخشون من ثورة للآلات تزيحهم من أعمالهم. في المقابل، كان الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور (Dwight D. Eisenhower) يرى أن الخوف من تزايد الآلات غير منطقي، وأنه سبَّب اضطرابات منذ 150 عامًا، وفي كل مرة كان يثبت أن الأمر غير منطقي.
الستينات: الإنسان ضد الآلة
شهدت مرحلة الستينات كثيرًا من الجدل والصراع بين رجال الصناعة الذين يتبنون فكرة الميكنة، والعمال ومعهم بعض رجال الدولة في أمريكا، الذين يرون أن الآلات تؤثر سلبًا على فرص عملهم، ما تسبب في أن يطلق ويلارد ويرتز (W. Willard Wirtz)، سكرتير الرئيس الأمريكي كينيدي لشؤون العمال، تصريحًا بأن ملايين العمال سينتهي بهم الأمر إلى التحول لكومة من الخردة غير النافعة، حتى في أكثر العصور رخاء.
ما حدث دفع بيتر دراكر (Peter Drukcer)، أحد الآباء الروحيين لعلوم الإدارة وإدارة الأعمال، لكتابة مقال عام 1965 بعنوان «الآلات ليست شريرة».
السبعينات: عصر شرائح الكمبيوتر الذكية
مع اقتراب الألفية الجديدة، بدا أن هناك حالة من الوفاق تتكوَّن مع الماكينات والتكنولوجيا.
هدأت موجة الصراع في السبعينات، ولكن ليس إلى الأبد، فقرب نهاية هذه المرحلة، وتحديدًا عام 1978، أطلق رئيس وزراء بريطانيا جيمس كالاهان (James Callaghan) برنامجًا لتحري تأثير الشرائح الذكية على فرص العمل. هذا الصراع كان متوقعًا بالتأكيد مع زيادة الاعتماد على هذه الشرائح، وهذا في الوقت الذي لم تكن تبلغ فيه جزءًا صغيرًا مما هي عليه الآن.
الثمانينات: الكمبيوتر أحدث الأعداء
شهدت هذه المرحلة بزوغ وانتشار الكمبيوتر، فعادت كل المخاوف القديمة للظهور مرة أخرى. بدأ العقد مع عنوان «الروبوت يطارد وظيفتك» في صحيفة «نيويورك تايمز»، لتبدأ بعدها كثير من الصحف في دراسة تأثير الكمبيوتر على وظائف البشر.
قد يعجبك أيضًا: مسلسل Westworld يثير التساؤل: هل نعيش في واقع افتراضي؟
وهكذا عادت مانشيتات الثلاثينات إلى الظهور مرة أخرى: الآلات وزيادة معدلات البطالة.
التسعينات: مرحلة الهدنة
مع اقتراب الألفية الجديدة، بدا أن هناك حالة من الوفاق مع الماكينات والتكنولوجيا، ربما تعود لاعتماد الكثير من المشاريع الاقتصادية الضخمة على التقنيات الحديثة، بالإضافة لارتباط الناس بالتكنولوجيا عبر الإنترنت، وهكذا مرت هذه الحقبة بسلام دون مزيد من المناوشات.
العقد الأول من الألفية الثالثة: المستقبل الأسود
أنت الآن تقرأ هذا المقال وأنت محاط بالتكنولوجيا بشكل لا يمكنك الفكاك منه.
رغم الانتشار الرهيب لمواقع الإنترنت وإقبال العالم كله على التكنولوجيا، لم يمنع هذا الاقتصادي الأمريكي آلان غرينسبان (Alan Greenspan) من التحذير من خطورة التكنولوجيا على وظائف البشر، موضحًا أنه في عصر المعلومات التي يسهل الوصول إليها وزيادة استخدام الإنترنت، قل الإقبال على شراء الكثير من المواد؛ ما قد يزيد من حالات البطالة.
ويُختتم العقد بمقال شامل على موقع (The Atlantic)، بعنوان «الروبوتات ومستقبل البطالة»، يحلل تأثير التكنولوجيا على الكثير من الوظائف والصناعات، مع الاستعانة بالأفلام التي كانت قد بدأت هي الأخرى إطلاق أفكار التحذير من التكنولوجيا. ولم ينس الموقع أن يفسح جزءًا كبيرًا من المقال تحت عنوان «ديستوبيا الروبوتات»، أو المستقبل الأسود الذي قد يحدث إذا استمر انتشار الروبوت كبديل للإنسان، مع الاستعانة بالأرقام لتحليل تغير معدلات التوظيف والبطالة عبر السنوات الأخيرة.
والآن، الروبوت أفضل أم الإنسان؟
أنت تقرأ هذا المقال عبر شاشة جهاز اللاب توب، أو ربما شاشة هاتفك المحمول، وربما تقرأ عبر اللاب توب وأنت تقلب في الهاتف وتنظر إلى ساعتك الذكية، التي يمكنها إخبارك بحالة الطقس وقراءة رسائلك. نعم، أنت محاط بالتكنولوجيا بشكل لا يمكنك الفكاك منه الآن، ولكن كيف يرى الاقتصاديون الأمر؟
اقرأ أيضًا: خبير سابق في غوغل يرصد كواليس هوسنا بوسائل التواصل الاجتماعي
تفاوتت المقالات الحديثة التي تناقش ظاهرة دخول الروبوتات والتكنولوجيا في كل شيء، بين من يرى أهمية أن تأخذ الروبوتات وظائف البشر، ومن يؤكد أن التكنولوجيا تسرق وظائفنا وتهدد الطبقة المتوسطة.
السؤال الأهم هنا؛ هل تكون هذه العناوين مجرد تكرار للعناوين نفسها التي كُتبت قبل قرن من الزمان؟ أم أن الموضوع أصبح يمثل تهديدًا حقيقيًّا الآن؟ الأيام المقبلة ستكشف كل شيء، ولكن لا نعد بأن تكشف عن شيء نحبه.
أندرو محسن