أسلاك شائكة وأكياس رملية: الخوف يغير العمارة العراقية
خلف الباب المرشوق بثلاث رصاصات، والنوافذ ذات الزجاج المهشم، يضع «حسن» أكياسًا رميلة كما لو أنها ثكنة عسكرية، وفي أكثر من زاوية في البيت كاميرا مراقبة، ليعزز احترازاته الأمنية بعد أن تعرض لثلاث هجمات مسلحة تخللها إطلاق رصاص وقنابل.
خلَّفت الاحداث الأمنية التي شهدتها مدن العراق على امتداد خارطته، أثرها في الناس والحجر على حد سواء، ما أدى إلى ظهور سمات احترازية لم تكن حاضرة في العمارة العراقية والبنيان سابقًا، سواء على مستوى المنازل أو الدوائر التابعة للدولة، التي تعد مؤمَّنة نسبيَّا بفعل وجود الحرس في غالبية الأحيان.
حتى سبعينيات القرن العشرين، كانت العمارة العراقية امتدادًا للفكر العمراني في الفترة الملكية، ونتاجًا لظرفها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، قبل أن تعصف بها التحولات السياسية والاجتماعية منذ بداية الثمانينيات.
قبل أن تكتظ المدن، تكونت المنازل في المدن العراقية من طابق واحد، وكانت مسوَّرة بجدران منخفضة، باستثناء بعض المدن التي شاعت فيها الشقق والعمارات السكنية، فيما كانت الحدائق جزءًا من تصميم مؤسسات الدولة، لكنها اختفت في الوقت الحالي.
العمارة في العراق: ترى المدارس فتحسبها سجونًا
حسن صباح (27 عامًا) صحفي في محافظة البصرة (500 كيلومتر جنوب شرق بغداد)، يؤكد أنه تعرض لتهديدات عسكرية من جهات متنفذة، بعد أن كشف ملفات فساد تتعلق بها خلال عمله في قنوات فضائية محلية.
يقول حسن لـ«منشور»: «تعرَّض منزلي لثلاث هجمات مسلحة بعد أن كشفت ملفات فساد تتعلق بجهات متنفذة: مرة بإطلاق الرصاص العشوائي، وأخرى بقنبلة يدوية، والأخيرة بعبوة ناسفة محلية الصنع من مادة TNT».
يشير حسن إلى الأكياس الرملية، موضحًا أنه وغيره من البصريين صاروا يستخدمونها للحماية من رصاص الخلافات العشائرية وعناصر الميليشيات: «كل موظف معرض للخطر، وكل صحفي ورجل أمن كذلك».
لا ينفك المكان يستجيب للظرف الاجتماعي الذي يعيشه البلد، منذ حرب 2003 وحرب المليشيات المسلحة مع القوات العراقية والحرب الطائفية بين 2005 و2007، واستهداف المدنيين ومؤسسات الدولة، وسقوط عدة محافظات تحت سيطرة تنظيم داعش، إلى الإرهاب الذي تمارسه العشائر المسلحة. كل هذا ترك أثرًا في المكان والعمارة العراقية.
يتمثل أثر الخوف في الاحترازات الأمنية التي تحيط بمنازل المدنيين والمسؤولين على حد سواء، وفي مؤسسات الدولة بشكل واضح، التي تحميها خرسانات مسلحة مرتفعة، تعلوها أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة، تجعلها تبدو كأنها سجون صغيرة أو ثكنات عسكرية.
عدد من المنازل التي تستشعر الخطر تضع أسلاكًا شائكة فوق الجدران، وكذلك تحيط الأسلاك بالمدارس والمساجد والكنائس، وربما الخرسانة المسلحة أيضًا، التي تُطلَى بألوان ورسومات في محاولة تجميلها، لا سيما بعد أيام الطائفية التي شهدتها العاصمة بغداد وبعض المحافظات المجاورة.
«الصنكر» حفرة محاطة بأكياس رملية، وهي عادة عسكرية كانت منتشرة لدى عشائر العراق، لكنها وصلت الآن إلى المدن.
في جنوبي العراق، تستفحل النزاعات العشائرية لتشكل خطرًا مستمرًّا يُداهم سكان تلك المناطق، وتعجز السلطات العراقية عن وضع حد لها، ما يُسفر عن هجرة كثير من العوائل، فيما تبقى نية الهجرة مبيتة لدى عوائل أخرى.
مصادر متطابقة أكدت أن سكان البصرة، وميسان (327 كيلومترًا جنوب شرق بغداد)، وذي قار (300 كيلومتر جنوب شرق بغداد)، يراعون مسألة تردي الوضع الأمني والخطر الذي قد يداهمهم في أي لحظة عند تشييد منازلهم، أو تحصين منازلهم المبنية، وأن نظام «الصناكر» جزء من منظومتهم.
كاميرات المراقبة في نصف المنازل
موضع آخر من البلاد تهدد الهجمات الإرهابية عمارته، تحديدًا بعقوبة، مركز محافظة ديالى (نحو 90 كيلومترًا شمال شرق بغداد)، التي تعرضت لهزات أمنية عنيفة عقب بروز تنظيم القاعدة بعد عام 2005، تلاها سيطرة تنظيم داعش عقب 2014.
يقول المقاول رياض القيسي (54 عامًا) وهو يقف على أساسات بناء منزل سكني في منطقة التحرير، كبرى أحياء بعقوبة الشعبية: «الخوف ملموس في العمارة بشكل عام، وفي بعقوبة خصوصًا، لأنها مرت بتجربة قاسية جدًّا بعد 2005، عقب ظهور القاعدة وسيطرته على 85% من أحيائها، وكانت منطقة التحرير في قلب تلك الفوضى».
يوضح القيسي أن «أسوار المنازل صارت أعلى وأقوى. تسألني لماذا؟ أقول لك: لأن السور يمثل خطًّا دفاعيًّا للمنزل، ولا بد من أن يكون قويًّا من الخارج لمواجهة العبوات الناسفة».
عدنان التميمي، المختص بديكورات المنازل، يشير إلى أن «50% من المنازل الآن تضع كاميرات مراقبة بسبب الخوف من الخلايا المتطرفة أو عصابات الجريمة المنظمة، وهذا ما لم يكن موجودًا قبل أعوام».
الكاميرات تُبلي بلاء حسنًا وفقًا للتميمي: «بعض السكان تعرضوا للسرقات أو الاستهداف بعبوات، وكانت الكاميرات الوسيلة الوحيدة لكشف المنفذين».
أما علاء الشمري، الموظف الحكومي، فيحكي لـ«منشور» أن منزله يقع على شارع رئيسي، لكنه اضطر إلى تغيير مكان بوابته إلى شارع جانبي: «وقعت عدة تفجيرات في الشارع الرئيسي خلال الأعوام الماضية، ما دفعني إلى هذا القرار رغم اعتراض زوجتي».
تظهر ملامح الخوف في ارتفاع أسوار المنزل الخارجية، وإلغاء مساحة التَّرِكة خلف المنازل.
للخوف تداعيات تؤثر في كل مظاهر الحياة، ومنها البناء، بحسب نجاة الطائي عضو مجلس ديالى، التي توضح أن «هناك تغييرات في العمارة، لكنها ليست كبيرة».
العمارة ليس واجبها مواجهة القنابل
في الناصرية، مركز محافظة ذي قار التي تشهد استقرارًا أمنيًّا نسبيًّا، يسود نوع آخر من الخوف.
ينبه المقاول صلاح عبد الرضا إلى أن «أصحاب المنازل يمتنعون عن إكمال واجهات منازلهم المشيدة حديثًا، خشية الحسد»، بينما تظهر ملامح الخوف في «ارتفاع أسوار المنزل الخارجية، وإلغاء مساحة التَّرِكة خلف المنازل، واللجوء إلى المَنور بدلًا منها».
خلافًا لهذا، يرى المهندس المعماري أسعد الأسدي أن «الخوف من الخطر أمر ملازم للعمارة، التي تتكفل بأن تدافع عمن داخل المبنى بكل جدرانها. العمارة في ماهيتها تحمي الإنسان وتخلق بيئة مناسبة له، كي تجعل العيش في العالم ممكنًا».
لا يعتبر الأسدي الاحترازات الأمنية الحالية «حلولًا» ولا «تقنيات معمارية» لمواجهة الخطر: «هذا التشويه يقع خارج العمارة، ويتعدى على حضورها. لو كُلِّفت العمارة بذلك، لكان لها قول آخر على مستوى الشكل والمادة البنائية. المعماري لديه حلول أخرى لمواجهة الأخطار».
يشدد صاحب كتابي «أشياء وأمكنة» و«معرفة المكان» على أن العمارة «ليست مكلَّفة بمجابهة القذائف. تلك وقائع جريمة. العمل الإنساني للعمارة لا يصح أن يشترك في الحرب».
المهم من وجهة نظر الأسدي ألا نُثقل العمارة بوقائع هي «ألاعيب طارئة، يذهب إليها الإنسان ملتفًّا كي ينجو من خطر طارئ قريب».
ارتفاع سور المنزل في العراق أسبابه اجتماعية، لأجل توفير مزيد من الخصوصية لمن في الدار، بعد أن كانت الأسوار في السبعينيات وما قبلها واطئة وشبه شفافة: «وقتها كان الناس يحترمون مَن في داخل البيت أو الحديقة، ولاحقًا وقع هذا الاستهتار المجتمعي والتلصص».
غسان البرهان