كيف غير «الصفر» وجه البشرية؟
جهاز الكمبيوتر الذي تقرأ عليه هذا الموضوع يعمل وفقًا لثنائية، سلاسل من الصفر والواحد. لولا الصفر، لَمَا وُجِدت الأجهزة الإلكترونية، ولولا الصفر، لما وُجِدَ علم التفاضل والتكامل، ولَمَا وُجِدت الهندسة والتشغيل الآلي.
لولا الصفر، لاختفى كثير من جوانب حياتنا العصرية. فقد أحدث اكتشاف الصفر تغييرًا كبيرًا يوازي تعلم لغة جديدة، وفق «أندرياس نيدر»، المختص في علوم الإدراك بجامعة «توبنغن» في ألمانيا. لكن على مدار الغالبية العظمى من التاريخ البشري، لم يفهم البشر الرقم صفر، فقد كان علينا اختراعه.
تطورت الحيوانات، مثل القرود، لتفهم فكرة اللاشيء البدائية، وقد كشف العلماء أن أدمغة النحل تستطيع فهم ما يعنيه الرقم صفر، لكن البشر هم فقط من استطاع أن يجعل من الصفر أداة للاستخدام.
يكشف لنا مقال نُشِرَ على موقع «Vox» عن أهمية الرقم صفر بالنسبة إلى الإنسان، وعن جوانب مثيرة لفهم الحيوانات له.
ما الصفر؟
فهمنا للرقم صفر مهم في ضوء خلو الطبيعة من حولنا بشكل شبه تام من الرقم صفر، وفق كاتب المقال. الأرقام مثل واحد واثنين وثلاثة لها مقابل في البيئة من حولنا، فيمكننا أن نرى ضوءًا واحدًا ينير، أو أن نسمع ضربتين من آلة تنبيه السيارة مثلًا. ولكن ماذا عن الصفر؟ يتطلب فهم الصفر استيعاب أن غياب الشيء هو شيء في حد ذاته.
يقول «روبرت كابلان»، أستاذ الرياضيات بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب عن الصفر: «الصفر موجود في العقل، وليس في العالم الحسي». فحتى في الفضاء، لو رأيت نجومًا، فهذا يعني أنك تتعرض لأشعتها الإلكترومغناطيسية. ففي ذلك الفراغ الداكن يوجد دائمًا شيء ما. ربما كان الصفر الحقيقي موجودًا قبل نشأة الكون.
الصفر مثل الأفق البعيد الذي نراه في اللوحات، فهو يوحد الصورة، وإذا نظرت إليه لا ترى شيئًا، لكن إذا نظرت من خلاله، ترى العالم، فهو الأفق.
رغم هذا، لا يجب أن يكون الصفر موجودًا كي يكون نافعًا، وفق كاتب المقال، إذ يمكننا أن نستخدم مفهوم الصفر لاستخلاص كل الأرقام الأخرى في الكون. يشرح «كابلان» تمرينًا بسيطًا اقترحه لأول مرة عالم الرياضيات «جون فون نيومان» لمساعدتنا على فهم أهمية الصفر.
في التمرين نتخيل صندوقًا خاليًا، يراه علماء الرياضيات تصورًا ملموسًا للصفر، ثم نأخذ صندوقًا آخر فارغًا، ونضعه داخل الصندوق الأول.
كم شيء يوجد داخل الصندوق الأول الآن؟
يوجد شيء واحد بداخله.
نضع بعد ذلك صندوقًا آخر فارغًا داخل الصندوقين الأولين. كم شيئًا يحتوي الصندوق الأول الآن؟ اثنان. ومن هنا نستخلص كل الأرقام من الصفر، من اللاشيء، وفق «كابلان». هذا هو أساس نظام الأرقام الذي نستخدمه. الصفر شيء مجرد ومحسوس في نفس الوقت، «هو اللاشيء الموجود» حسب وصف «كابلان» .
يشرح «كابلان» الصفر بطريقة أكثر شاعرية، فيقول إن الصفر مثل الأفق البعيد الذي نراه في اللوحات، فهو يوحد الصورة. يقول: «إذا نظرت إلى الصفر لا ترى شيئًا، لكن إذا نظرت من خلاله، ترى العالم، فهو الأفق».
إذا عرفنا الصفر، فإننا نعرف أيضًا الأرقام السالبة. الصفر يساعدنا على أن نفهم أنه يمكننا أن نستخدم الرياضيات للتفكير في أشياء لا مثيل لها في العالم المادي المعيش، فالأرقام المتخيَّلة لا وجود لها، غير أنها ضرورية لفهم الأنظمة الكهربائية. يساعدنا الصفر أيضًا على فهم ضده، وهو اللانهاية.
اقرأ أيضًا: تحت الديكتاتورية: فتيات ألمانيا الشرقية متفوقات في الرياضيات
لماذا الصفر مهم في الرياضيات؟
تأثير الصفر في الرياضيات اليوم له وجهان: الأول يتمثل في أنه عنصر نائب مهم في نظام الترقيم، والثاني أنه رقم نافع في حد ذاته.
كان محمد بن موسى الخوارزمي، من أوائل المفكرين في التاريخ الذين حاولوا الترميز للاشيء برمز ما.
استُخدم الصفر لأول مرة في تاريخ البشرية قبل خمسة آلاف عام في العراق (بلاد ما بين النهرين)، وكان يستخدم للتعبير عن غياب خانة في سلسلة من الأرقام.
لشرح هذا المعنى، يعطينا الكاتب مثالًا بالرقم 103. الصفر في هذا الرقم يعبر عن وجود «لاشيء» في خانة العشرات، فهو عنصر نائب يساعدنا على فهم أن الرقم مئة وثلاثة، وليس ثلاثة عشرة.
يقول الكاتب إن قارئ المقال قد يرى هذا أمرًا لا يدعو للدهشة والإعجاب، فيذكِّرنا بأن الرومان لم يعرفوا الصفر. فالرقم 103 بالرومانية هو CIII، والرقم 99 هو XCIX. حاول الآن أن تجمع الرقمين CIII+XCIX. الأمر سخيف. وضع عنصر نائب هو ما يمكِّننا من الجمع والطرح والتعامل بسهولة مع الأرقام، ما يجعلنا قادرين على حل مسائل حسابية معقدة على الورق.
لو استمر الصفر عنصرًا نائبًا، لظل أداة مهمة حتى لو لم نستفد منه بشكل آخر. ولكن قبل نحو 1500 عام، أو حتى قبل ذلك بقليل، أصبح الصفر في الهند رقمًا في حد ذاته، يمثل اللاشيء. في القرن السابع الميلادي، كتب عالم الرياضيات الهندي «براهماغوبتا» ما اعتُبٍرَ أول توصيف مكتوب للصفر كوحدة حسابية.
«عندما يضاف الصفر إلى رقم أو يطرح من رقم، يظل الرقم كما هو دون تغيير، وحاصل ضرب أي رقم بالصفر هو صفر».
انتشر الصفر عبر أنحاء الإمبراطورية الإسلامية وقتها، قبل وصوله إلى أوروبا. كان العالم الفارسي المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، من أوائل المفكرين في التاريخ الذين حاولوا الترميز للاشيء برمز ما، ومن ثم استخدامه في الرياضيات والحساب. في القرن الثالث عشر، تسبب عالم الرياضيات «فيبوناتشي» في إكساب نظام الترقيم العربي المستخدم حاليًّا شعبيته الكبيرة. منذ ذلك الحين، أصبح الصفر مفيدًا بشكل كبير.
يدعونا الكاتب إلى التفكير في الرسم البياني الذي تبدأ دالته بالصفر، هذه الطريقة في الرسم البياني اختُرِعت في القرن السابع عشر بعد أن انتشر الصفر في أوروبا. شهد هذا القرن أيضًا ظهور مجال رياضي كامل يعتمد على الصفر، وهو «التفاضل والتكامل».
يقول «كابلان»:« كل العمليات اللانهائية، في الرياضيات، تتمحور حول فكرة الصفر».
اقرأ أيضًا: مريم ميرزاخاني: عالمة رياضيات إيرانية أسقطت حسابات العنصرية
ما هي مراحل فهم الصفر؟
لا نولد مدركين لفكرة الصفر، فنحن نتعلمه، والأمر يتطلب وقتًا.
تقول «إليزابيث برانون»، عالمة أعصاب تدرس كيف تتمثل الأرقام في أدمغة الإنسان والحيوان، إنه حتى حين يفهم الأطفال دون سن السادسة أن الصفر يعني لاشيء، تظل لديهم صعوبة في فهمه بشكل رياضي، فمثلًا، إذا سألت طفلًا إن كان الصفر أو الواحد أصغر، كثيرًا ما يفكرون في الواحد باعتباره الرقم الأصغر. قد يصعب تعلم أن الصفر أصغر من الواحد.
في تجاربها، تلعب «برانون» لعبة مع أطفال في الرابعة من العمر تضع فيها أمامهم على الطاولة بطاقتين، إحداهما مرسوم عليها نقطتان، والأخرى ثلاث نقاط، مثلًا.
تطلب بعدها من الأطفال أن يلتقطوا البطاقة المرسوم عليها نقاط أقل. عندما تضع أمامهم بطاقتين، إحداهما مرسوم عليها نقطة واحدة، والأخرى دون رسوم على الإطلاق، ينجح أقل من نصف الأطفال في اختيار البطاقة الصحيحة.
كيف تصل الفكرة إذًا؟
يفترض عالم الأعصاب الألماني «أندرياس نيدر»، وجود أربع خطوات نفسية لفهم الصفر، كل واحدة منهم أكثر تعقيدًا من سابقتها على المستوى الإدراكي.
لفهم الصفر يجب التعامل مع غياب المثير باعتباره رمزًا وأداة منطقية لحل المشكلات.
يستطيع كثير من الحيوانات أن يمر بالمراحل الثلاثة الأولى، لكن المرحلة الأخيرة، وهي الأصعب، تقتصر على البشر، وفق «نيدر».
الخطوة الأولى هي التجربة الحسية البسيطة للتعرض لمثير يعمل ثم ينطفئ. هو القدرة على ملاحظة ضوء ينير ثم ينطفىء، أو صوت يصدر ثم يسكت.
المرحلة الثانية هي الفهم السلوكي. في هذه المرحلة لا يلاحظ الحيوان فقط غياب المثير، لكن يمكنه أن يستجيب له، فحين ينفد ما لديه من طعام، يمكنه أن يهبَّ للبحث عن مزيد منه.
المرحلة الثالثة تتمثل في التعرف إلى أن الصفر، أو الإناء الفارغ، قيمة أقل من الصفر. هذا ليس سهلًا، رغم أن عددًا مدهشًا من الحيوانات، تشمل النحل والقردة، يمكنها أن تفهمه. هنا يتمثل فهم أن «اللاشيء فئة عددية»، وفق «نيدر».
المرحلة الرابعة هي التعامل مع غياب المثير باعتباره رمزًا وأداة منطقية لحل المشكلات. لا يوجد حيوان، مهما يبلغ ذكاؤه، يستطيع فهم أن الصفر يمكن أن يكون رمزًا. فهذا أمر ينفرد به الإنسان، وفق ما يذكره الكاتب.
لكن حتى البشر الحاصلين على تعليم جيد ربما يتعثرون، ولو قليلًا، حين يفكرون في الصفر. تُظهر الدراسات أن البالغين يستغرقون لحظات أطول قليلًا للتعرف إلى الصفر مقارنة بالأرقام الأخرى. وحين تكرر «برانون» تجربة البطاقات مع البالغين، يستغرقون وقتًا أطول قليلًا حين يقررون أي الرقمين بين الصفر والواحد أكبر، مقارنة بمقارنة الصفر بأرقام أكبر من الواحد.
هذا يعني أن الصفر يستهلك طاقة ذهنية أكثر للتعامل معه، حتى بين البالغين.
من غير البشر يفهم «اللاشيء»؟
لم يفهم البشر الصفر باعتباره رقمًا سوى قبل 1500 عام. ما تُظهِره التجارب على النحل والقرود أن تطوُّرَنا في فهم الصفر تعكس مدى التطور الذي شهدناه.
ربما لا نولد لدينا قدرة على فهم الصفر، لكن قدرتنا على فهمه قد تكون لها جذور تطورية، وفق ما يظهره العلم.
الخطوة الرابعة في التفكير في الصفر باعتباره رمزًا، أمر ينفرد به البشر، لكن عددًا مدهشًا من الحيوانات يمكنها أن تصل إلى الخطوة الثالثة، وهي إدراك أن الصفر أقل من الواحد. حتى النحل يمكنه أن يفعل ذلك.
قد يهمك أيضًا: الأغلبية تقرر: ديمقراطية النحل والقرود
نشرت «سكارلت هوارد»، طالبة دكتوراه في المعهد الملكي للتكنولوجيا في ميلبورن، تجربة حديثة تكاد تتطابق مع تجربة «برانون» مع الأطفال، وفيها نجح النحل في اختيار الصفحة الفارغة، من 60 إلى 70% من المحاولات. وكانوا أفضل بكثير في تمييز الأرقام الكبيرة، مثل 6، عن الصفر، مقارنة بمقارنة الصفر بالواحد، مثلما كان الحال مع تجارب الأطفال.
تقول «هوارد» معلقة على النتائج: «هذا مبهر، إذا وضعنا في الاعتبار أننا نملك دماغ ثدييات حجمه كبير، بينما يملك النحل دماغًا أصغر للغاية (وزنه أقل من ميلليغرام)». يعمل فريق «هوارد» على فهم كيفية إجراء النحل هذه الحسابات بهدف استخدام تلك النتائج لتصميم أجهزة كمبيوتر أكثر فعالية.
في تجارب مماثلة، أظهر الباحثون أن القردة تستطيع التعرف إلى المجموعة الفارغة، وكثيرًا ما يبلون أفضل من الأطفال في الرابعة من العمر. لكن قدرة النحل على إجراء تلك المقارنات مبهرة، إذا وضعنا في الاعتبار المسافة الكبيرة التي تبعدهم عن البشر من الناحية التطورية.
يقول «نيدر»: «آخر سلف مشترك بيننا وبين النحل كان موجودًا قبل نحو 600 مليون عام، وهو زمن طويل في حسابات التطور».
نحن البشر أنفسنا لم نفهم الصفر باعتباره رقمًا سوى قبل 1500 عام. ما تُظهِره التجارب على النحل والقرود أن تطوُّرَنا في فهم الصفر لا يعكس براعتنا كبشر فقط، ولكن المدى الكبير من التطور الذي شهدناه.
ما زالت هناك أمور غامضة تتعلق بالصفر لم تنكشف بعد. يقول «نيدر»: «نحن بالكاد نعرف شيئًا» حول كيفية معالجة الدماغ للصفر، وما زلنا لا نعرف عدد الحيوانات التي يمكنها فهم فكرة اللاشيء باعتبارها كمية.
ما أظهره علماء الرياضيات أن عملية البحث في اللاشيء، حتمًا سنجد من خلالها أشياء.
دينا ظافر