كاسياس: قديس مُكلَّل بالنسيان
على بعد 10 كيلومترات من قلب باريس، تحديدًا في ضاحية سان دوني حيث يقع ستاد دو فرانس، وبعد عامين من احتفال لاعبي المنتخب الفرنسي بالتتويج بكأس العالم 1998، كان لاعبو نادي ريال مدريد الإسباني يحتفلون بالفوز ببطولة دوري أبطال أوروبا.
نقلت الكاميرات فرحة اللاعبين إلى العالم، لكنها توقفت قليلًا عند دموع الحارس الشاب ذي الوجه الطفولي، الذي ما أن لمح الكاميرا حتى بدأ في تجفيف دموعه وخبَّأ وجهه خلف القفازات، ثم ارتمى في أحضان أحد زملائه بوجه يبكي فرحًا. كان هذا الحارس الذي أتمَّ عامه التاسع عشر منذ أربعة أيام فقط يسمى «إيكر كاسياس»، وفي ذلك اليوم تحديدًا بدأت صداقتنا.
علاقتي بكرة القدم تتجاوز كثيرًا كونها رياضة مسلية إلى اعتبارها خريطة زمنية، وعبر علامات مميزة وضعتُها على تلك الخريطة أستطيع أن أحدد كيف تبدو طفولتي وسنين المراهقة والشباب.
أتذكر من طفولتي القليل، لكني أتذكر بصورة واضحة العلامة المميزة الأولي: كأس العالم 1994 حين كنت في السابعة. أتذكر تعلقي بكرة القدم وأبطالها وبما تقدمه من دراما. توالت العلامات بمرور السنين، لكن أكثر تلك العلامات خصوصيةً كانت صداقتي بكاسياس.
استُدعي كاسياس لقائمة فريق ريال مدريد الأول في التاسعة عشرة، ليصبح أصغر حارس يشارك في نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا.
يستطيع المشجع أن يعقد صداقات افتراضية مع لاعبيه المفضلين كيفما شاء، ربما يشعر أنهما متشابهان أو بينهما خلفية مشتركة، يتنميان إلى نفس المدينة أو يتشاركان الذوق ذاته، لهذا يحظى اللاعبون المهاريون بكل هذا الحب والدعم، فالصداقات هنا تتعدد بقدر ما يُمتِعون ويُفرِحون وينصرون مشجعيهم. أما أنا فقد رأيت في دموع كاسياس، الذي يكبرني ببضع سنوات، رسالتي الخاصة: لا حاجة لك بأن تكون قاسيًا كي تنتصر، تستطيع أن تحقق إنجازك الخاص حتى قبل أن تصل إلى العشرين، دعك من الجميع وأحاديثهم، فقط كُن كما أنت وحاول.
قد يهمك أيضًا: كيف استغل الساسة شغف جماهير كرة القدم؟
ربما وثقتُ في كاسياس لأنه يملك ذلك الوجه القابل للتصديق، يبدو كمُعلم شاب يجذبك لسماعه عوضًا عن هؤلاء الناصحين المسنين، قديسًا مبتسم الوجه يشير بهدوء قائلًا: اتبعني، فأنا أعرف طريق النجاح.
بدأ الإسباني حياته كحارس مرمى في نادي ريال مدريد وعمره تسع سنوات، واستُدعِي إلى قائمة الفريق الأول في التاسعة عشرة، ثم أصبح أصغر حارس يشارك في نهائي بطولة دوري أبطال أوروبا، وصار حارس مرمى مدريد الأساسي وعمره 21 عامًا. ولمدة 15 سنة، كان كاسياس الحارس الأساسي لمدريد، أيقونة الريال ورمز الفريق، محققًا كل البطولات المتاحة.
خلال متابعتي المباراة النهائية لكأس العالم 2010 كنت في بداياتي العملية، أراني على بعد خطوت من امتلاك العالم، شغوف بنتائج أعمالي الواضحة للجميع، أتابع صديقي كاسياس يقدم أفضل مستوياته، يمنع الهولندي «آريين روبين» من تسجيل هدف في مرماه في أهم مباراة، يحافظ على شباكه نظيفة ويرفع كأس العالم في النهاية وعلى ذراعه شارة القيادة، ويتوَّج بالقفاز الذهبي لأفضل حارس مرمى على كوكب الأرض.
كانت صداقتنا قد تطورت كثيرًا عبر تلك السنوات، فحتى مع تقلص حجم متابعتي لكرة القدم، كان مجرد رؤيتي لتصدٍّ إعجازي معتاد من كاسياس قادرة على أن تعيد بداخلي الحنين إلى سنوات مضت. وبينما يصرخ المتابعون شغفًا جراء التصدي، كنت أبتسم في هدوء مرددًا في قرار نفسي: «حسنٌ، لا زلتَ بخير يا صديقي، كلانا لا يزال يحاول»، ثم حدث ما حدث وبدأ كل شيء في التغير.
استطاع فريق إنتر ميلان الإيطالي أن يُقصي الغريم التقليدي لمدريد، فريق برشلونة، الذي كان يهيمن على العالم تمامًا آنذاك، من بطولة دوري أبطال أوروبا ويفوز بها في نسخة 2010، بفضل مديره الفني البرتغالي «جوزيه مورينيو»، ووقتها قرر «فلورنتينو بيريز»، رئيس مدريد، أن مورينيو هو الرجل المناسب لقيادة الفريق لكسر هيمنة برشلونة في نسخته الأفضل على الإطلاق.
خلال موسمه الأول كانت العلاقة بين مورينيو وكاسياس جيدة، فالحارس حمل في نفس السنة كأس العالم، وربما لاحظ مورينيو عندما التقاه لأول مرة قفازه الذهبي وشارة قيادة الريال بعد اعتزال راؤول وجوتي، وهي أشياء يكرهها مورينيو بالمناسبة.
قد يهمك أيضًا: كلاسيكو المتعة والصناعة: من يفوز بـ«كرة القدم»؟
كأس إسبانيا في الموسم الأول، والدوري في الموسم الثاني، ثم تعرض كاسياس في موسمه الثالث مع مورينيو لإصابة في يده، فانتدب المدير الفني حارس إشبيليه «دييجو لوبيز» ليقف بين الثلاث خشبات خلال إصابة كاسياس، أو هكذا كان الأمر يبدو.
لم تسِر الأمور في ذلك الاتجاه، فحتى بعد رجوع كاسياس من الإصابة ظل حبيس مقاعد البدلاء، فكان من المنطقي أن يهتز مستواه. لم يحاول مورينيو أن يعيد الثقة إلى حارسه الأول، أو حتى يدافع عنه أمام الجميع. لا يأبه مورينيو بكل تلك الأشياء، وربما لو كان البرتغالي قد تولى تدريب يوفنتوس الإيطالي لكنا نرى «جيجي بوفون» محللًا رياضيًّا على شاشات التلفزيون الآن.
قرر مورينيو إزاحة كاسياس من حساباته، خصوصًا بعد تدخله لمحاولة تهدئة الأجواء مع لاعبي برشلونة إثر الخلاف الشهير بين مورينيو و«تيتو فيلانوفا» آنذاك. لم يعجب الأمر جوزيه مورينيو، ومع انهيار النتائج في الموسم الثالث لم يجد كاسياس من يدافع عنه.
تعاملت جماهير مدريد مع كاسياس بمبدأ «بريجيب»، أي محاولة تقويم العصا بطريقة تؤدي إلى ثنيها في الاتجاه الآخر. الجمهور قرر أنه لن يقف خلف كاسياس على حساب حبه لريال مدريد، وكأنه لا يوجد خيار ثالث. ولإثبات ذلك، كانت المعاملة قاسية على نحو أن «لكل زمن رجاله، وهذا ليس زمنك يا إيكر». رحل كاسياس في العام التالي إلى بورتو في البرتغال، وربما سقطت برحيله واحدة من الدُّرر التي تميز تاج «الملكي».
أربع سنوات فقط كانت كافية كي تظهر النسخة الأسوأ من كاسياس في كأس العالم 2014، فخلال مباراتين استقبل مرمى إيكر سبعة أهداف، كان مسؤولًا عن ثلاثة منها مسؤولية واضحة. خرج الحارس ليعتذر للجميع، لكن الأمر أصبح واضحًا: لقد فقد كاسياس القدرة على أن يحاول.
لا أعرف متى تحديدًا توقفت أنا الآخر عن المحاولة وارتضيت بالجلوس إلى مكتب خشبي أمارس عملي الروتيني. لم تكن لديَّ فكرة أن الأمر سينتهي هكذا، فقد كنت متحمسًا للحياة، أضع صورة كاسياس البطل الصغير دومًا في ذهني، ثم بدأ الأمر يختلف شيئًا فشيئًا: الاصطدام بالواقع ربما، ثم محاولة التغلب عليه محققًا انتصارات صغيرة هنا وهناك، ثم الانتهاء إلى أن الأمر لن يختلف كثيرًا.
لا أريد أن أظهر كمن كان وحده يعلم أن كاسياس لن يستعيد مستواه في ظروف كهذه، لكن يمكنني أن أؤكد أنني أعرف كيف تبدو الأمور عندما تشعر أنك لا تستطيع أن تستمر في المحاولة.
بقميص أزرق داكن، وبوجه شاحب حزين ونظرات زائغة تمامًا، بدأ إيكر كاسياس حديثه في مؤتمر وداعه لريال مدريد، دون حضور جماهيري ورسمي يليق به. حاول أن يمنع دموعه، تمامًا كمحاولاته خلال الاحتفال بلقبه الأوروبي الأول، لكن سبب البكاء اختلف. لم تكن محاولات مثالية على كل الأحوال، لكنها كانت ضرورية حتى لا يتحول الأمر إلى مشهد مثير للشفقة، فبطل المشهد لا يستحق ذلك إطلاقًا.
ألمح بقايا وشم على ظهر كاسياس، وشم يمثل شعار ريال مدريد. كنت الوحيد الذي يتذكر إيكر القديس، الذي يحاول أن يخفي بقايا الوشم ليبدأ من جديد.
بقميص أزرق داكن أنا الآخر، وبوجه متعَب بدأ يتغير بفعل الزمن تمامًا مثل وجه إيكر، وبروح وحيدة للغاية مثله، في تلك الليلة كنت أجلس في العمل أمام جهاز الكمبيوتر الخاص بي أشاهد مقطع فيديو الوداع.
كنت قد شاهدته عددًا من المرات لا أستطيع أن أحصيه بدقة، وفي كل مرة يختنق صوت كاسياس بالدموع في جملته الحزينة «بغض النظر عن الذكرى التي سأتركها لكم كحارس جيد أو سيئ، كل ما أريده أن يتذكرني الناس كشخص حاول أن...».
قد يعجبك أيضًا: هل تحارب كرة القدم العنصرية أم تدعمها؟
تستطيع أن ترى مسحة الحزن التي ترتسم على وجه كاسياس خلال حديثه عن ريال مدريد، فإيكر لا يملك كاريزما النجوم التي يستغلها بعض اللاعبين للحفاظ على أماكنهم لسنوات إضافية، لكن أحدًا لا يمكن أن ينكر إخلاصه لقميص الريال وإسبانيا. الرجل الملقب بالقديس كان يدرك أن عليه أحيانًا مغادرة البيت والعثور على نفسه مرة أخرى، كان يدرك أن الوقت يعالج كل شيء، كان ينتظر أن يعامَل كما يستحق: رمز وجزء من تاريخ ريال مدريد، بل وإسبانيا ذاتها، لكن دون أن يستجدي ذلك من أحد.
لا أذكر كم مرة رأيت فيها إيكر عاري الجذع، لكن عقلي يهيِّئ إليَّ أحيانًا أني ألمح بقايا وشم على ظهره، وشم يمثل شعار ريال مدريد. كنت أشعر أنني ربما الوحيد الذي ما زال يتذكر إيكر «القديس»، الذي يحاول أن يخفي بقايا الوشم حتى يمكنه البدء مرة أخرى في مكان آخر.
كنت أدرك أنني لن أنسى أبدًا كاسياس، الرجل الذي «حاول»، صديقي الافتراضي الذي نسيه الجميع. الناس تتذكر راؤول وزيدان وروبرتو كارلوس ورونالدو وبيكهام وفيجو، لكن كاسياس صار طيَّ النسيان. أنا أيضًا يا صديقي أعتزم أن أترك استقرار المكتب الخشبي، وأحاول أن أجد نفسي مرة أخرى.
محمود عصام