كيف نكبر وتكبر هُوياتنا معنا؟

إسراء فاروق الجزار
نشر في 2018/01/23

الصورة: Getty/Giulia Fiori Photography

يشغل القَصَص الذاتي مساحة كبيرة في نصوص الشعراء والأدباء والمؤرخين، وكثيرًا ما نتوهم أن قصصنا عن أنفسنا واضحة ودقيقة، حتى تأتي لحظة نشعر فيها بالحاجة إلى تغييرها مرة أخرى.

ما يتغير فينا بينما نكبر ليس فقط العظام والأنسجة، إذ نكبر وتكبر معنا نوافذنا للعالم والزاوية التي ننظر من خلالها إلى ماضينا. نكبر فنطور قدراتنا على مَنطَقَة سيرتنا الذاتية وتأصيل هويتنا.

يُقصد باستخدام المنطق في سرد حكاياتنا أن نجعل قصتنا عن أنفسنا منطقية ومتماسكة، وأن نوجد ونضفي المعنى على تاريخنا الشخصي. إنها الكيفية التي ننظر بها إلى أنفسنا في الماضي، عندما فعلنا هذا الأمر أو ذاك، وهي أيضًا جزء من الطريقة التي نبني بها سردياتنا الخاصة وتصورنا الشخصي عن «من نحن؟» و«إلى ماذا نطمح؟».

في إطار عمله كأستاذ علم نفس في جامعة نورثويسترن الأمريكية وإنتاجه في ما يخص أُطُر الهوية الشخصية، يحكي «دان ماك-آدامز» عن الطريقة التي نبني بها هذه الهوية وكيف تتغير بتقدم العمر، في حوار له على موقع «Nautilus».

ما السرد الهوياتي؟ متى نبدأ في تطوير سردياتنا؟ 

السرد الهوياتي هو القصة التي نملكها عن كيفية تحولنا إلى ما نحن عليه الآن: مَن أنت؟ وإلى أين تمضي حياتك؟ قصتك ليست هويتك بأكلمها، فهناك أشياء كثيرة أخرى تشكل هويتك، لكن قصتك جزء حيوي منها.

منذ عامهم الرابع، يمكن للأطفال أن يحكوا عن أنفسهم، لكنهم لا يرون حيواتهم ضمن سرديات كبرى يكونون أبطالها.

أن يستطيع الإنسان أن يسرد تطوُّر هويته، هذا من جهة هو الصورة التي يرى بها المستقبل، رغم أنه لم يحدث بعد، ومن جهة أخرى: إنه الطريقة التي يبني بواسطتها الإنسان روايةً للماضي. إذا كنت مثلًا تخطط لتكون رئيس دولة، بينما أنت، في الوقت الحالي، تعمل بالأكاديميا، عليك أن تجد خطًّا واصلًا بين ماضي وحاضر ما أنت عليه، وأهدافك للمستقبل.

علميًّا، يطور الناس خلال فترة المراهقة مهارات لحكاية ومنطَقَة سِيَرهم الذاتية، يطورون قدراتهم على استنتاج المعنى من الماضي، وهذا هو المفتاح الأساسي للسردية الذاتية.

انتبه، فربما تفقد ذاتك لو لم تفعل

يملك الأطفال بالطبع ذكريات منذ عامهم الرابع، يمكنهم منذ هذا الوقت أن يحكوا عن أنفسهم، لكنهم لا يرون حيواتهم ضمن سرديات كبرى يكونون هم أبطالها، هذا تحديدًا يبدأ في المراهقة.

كلما تقدم الناس في العمر، تجنبوا تذكُّر الأشياء السلبية.

ما الذي يحكم هويتنا كأطفال؟

الصورة: woodleywonderworks

نبدأ حياتنا الاجتماعية في سن مبكرة، وفي هذا الوقت تتبلور بعض السمات الشخصية المبدئية، مثل الوعي ودرجة الميل الاجتماعي. يدرس معظم علماء النفس هذه الأبعاد لأنها محددات مهمة للطريقة التي نؤدي بها أدوارنا، والكيفية التي نتصرف بها بوصفنا فاعلين اجتماعيين.

يستمر وعينا بذاتنا في التطور منذ الصغر ليشكل الطبقة الأولى من أنفسنا، بينما تنشأ طبقة ثانية، ربما في المدرسة الإبتدائية، حين نبدأ في التفكير في حياتنا في ظل وجود أهداف. هذه الأهداف ليست بالضرورة كبيرة وبعيدة، ويستطيع طفل في الثامنة أو التاسعة التخطيط لهدف صغير مثل «عليّ اليوم الذهاب إلى المدرسة»، وبينما يخطط لذلك تتشكل طبقة أخرى من شخصيته مدفوعةً بما يمكن تسميته «العامل المحفز»، الذي يشير إلى خططنا بعيدة المدى وقِيَمنا وخططنا لتحقيق هذه الأشياء.

في فترة المراهقة وما يتلوها، تفرض طبقة ثالثة جديدة نفسها، حين ينشأ داخلنا ما يمكن تسميته «مؤلف السيرة الذاتية»، هنا نحصل على قصة حياتية.

كيف يغير التقدم في العمر هوايتنا؟

الصورة: pxhere

كلما تقدم الناس في العمر قلت رغبتهم في تذكر الأمور السيئة، وبمرور الزمن تصير تلك الأشياء عبئًا دون مردود، فيتجاهلونها.

من وجهة نظر اجتماعية، هنالك ما يشير إلى وجود علاقة بين السمات الشخصية والوعي والانسجام، فيصبح الناس من جهة جديرين بالمسؤولية وجادين في أعملهم وأخلاقيين صارمين، وكذلك على الناحية الأخرى: حانيين ومنخرطين عاطفيًّا مع الآخرين. يحدث هذا في الوقت نفسه.

إن نظرنا إلى الدوافع، سنرى أن دوافع الإنسان في بداية حياته، ولتكن فترة المراهقة، تكون من أجل التطور والنضج، فتنشأ أهداف تتعلق بالانضمام إلى جماعات لعيش لحظات بعينها، لاكتساب صداقات جديدة، للترقي علميًّا.

لكن هنالك نقطة ما يصل إليها الفرد في أربعينياته أو خمسينياته، حين تصبح أهدافه مدفوعة بالخوف من الخسارة، دافع يقتضي التمسك بما تملك وتعويض ما خسرت.

ماذا عن «مؤلف السيرة الذاتية»؟ شيئان يميزان الطريقة التي نرى بها ذواتنا:

  1. أننا نطور مهارات أكثر تعقيدًا وتطورًا لبناء سردياتنا الخاصة كلما تقدمنا في العمر
  2. أن قصصنا الحياتية، خصوصًا بعد سن الخمسين، تصبح أكثر إيجابيةً وبساطةً مما كانت عليه في ما مضى، كأن التقدم في العمر ينحاز بطبيعته إلى الحياة

كلما تقدم الناس في العمر قلت رغبتهم في تذكر الأمور السيئة، وبمرور الزمن تصير تلك الأشياء عبئًا دون مردود، فيتجاهلونها. كم مرة سمعت عبارات مثل «تعرضت للضرب المبرح من أمي حين كنت طفلًا وكان شيئًا شديد السوء. لكنه لم يكن في الحقيقة بالسوء الذي تصورته حينها، وأستطيع الآن تفهُّم الضغوط التي مرت أمي بها، وأنا بخير الآن». بالطبع يمكنك تخطي الأمور السيئة في أي مرحلة عمرية، لكن فكرة التصالح مع الماضي ومسامحته تخيِّم على الناس عادةً بعد سن الخمسين والستين.

تتحدث «لورا كارستينسن» من جامعة ستانفورد عن نظرية الانتقاء العاطفي-الاجتماعي كمحاولة لتفسير انحياز الناس إلى الجانب الإيجابي في حياتهم، وذلك باعتباره إدراكًا من كبار السن أنه لم يعد لديهم الكثير من الوقت، وأن النهاية ليست بالشيء البعيد. كلما تقدم الناس في العمر، وكلما اقتربت فكرة الموت منهم، تظهر نزعات الزهد الصوفية، كأن يقول أحدهم: «ماذا سأستفيد من كل هذا الصداع؟»، «لم يبقَ من العمر أكثر مما مضى»، وهكذا.

يميل الناس، أيضًا، كلما تقدموا في العمر إلى الاستثمار في الأشياء الأكثر أهميةً ورسوخًا، كالعائلة والأصدقاء المقربين والعلاقات العاطفية. بمرور الزمن، يتجرد المرء من ثقل الماضي، يغلف ما يستطيع بالتسامح، يتناسى ما لا يمكنه تمريره، فيصبح سرده عن حياته بهذه الإيجابية والبساطة.

جانب آخر يفسر ذلك النزوع الايجابي يتعلق بالتغيرات الكيميائية في الدماغ. تحدثت أبحاث، حسبما يقول دان ماك-آدمز، عن أنه بتقدم السن يضعف التواصل بين اللوزة العصبية (منطقة في المخ تتحفز بشدة في المواقف العاطفية السلبية) والحصين (جزء آخر يستقبل ويسجل الإشارات التي ترسلها اللوزة العصبية لتكوين ذكريات منها)، لذلك تتناقص احتمالات تكوين ذكريات عن الأحداث السلبية.

هل تتكون سرديتنا الذاتية من ذكريات حقيقية دائمًا؟

لو رجعنا بالزمن مليوني عام، سنجد أناسًا يبنون قصتهم كجماعة، ليست سرديات شخصية أو بحثًا عن المعنى من وجودنا الفردي.

الماضي قابل لإعادة التأويل بشكل مستمر ودون نهاية، لكننا في الوقت ذاته مقيدون بما حدث فعلًا، وبما سيصدقه الناس، وبكيف نرى ماضينا، وهكذا. هنالك مساحة كبيرة نملأها بالتخيل بالطبع، لذا فأنت تعيش حياتك تجمع ذكريات وقصص وأدوات تساعدك في بناء سرديتك، ويمكنك أن تعيد تشكيل هذه البنية وكتابتها من جديد.

من الممكن أن تصبح هذه القدرة مشكلة، ومن الممكن أيضًا أن تكون فرصة حقيقية للتأمل, لكننا، على الأغلب، لم نُخلق لامتلاك ذاكرة دقيقة، وإنما لامتلاك ذاكرة استراتيجية تساعدنا على تحقيق أهدافنا وذواتنا. وبرغم أننا ننشأ في بيئات مختلفة، فإننا نتعلم طريقةً لرواية القصص وتصميمها بشكل يجعلها أكثر قابليةً لأن تُروى.

هل يرتبط ظهور السرديات الهوياتية بالمجتمعات الحديثة؟

الصورة: pxhere

يذكر ماك-آدامز أنه قبل ظهور اللغة، وهي اختراع جديد عمره من 50 ألف إلى مئة ألف عام، كان للناس طرق للتواصل تعتمد على الهمهمات والإشارات، ويمكن للسرديات أن تُصنع بهذه الطريقة. لكن الأمر راجع إلى أن الانسان كائن اجتماعي بالأساس، وعلى أغلب الظن، لو عدنا بالزمن مليوني عام سنجد أناسًا يبنون قصتهم بشكل جماعي، قصتهم كجماعة، ليست سرديات شخصية أو بحثًا عن معنى وجودنا الفردي.

ربما امتلكنا دومًا القدرة على تأصيل ذواتنا، لكن هذه القدرة لا تتطور دون وجود حد أدنى من الثقافة، يعطيها فرصة للتبلور ويدفعها لتكون أكثر تركيبًا.

كي يمتلك البشر سرديات هوياتية يتساءلون بها عما هم عليه، وكيف وصلوا إلى هذه المكانة، وماذا سيصير في حياتهم، هذا شيء مركب ويتطلب قسطًا من التفرغ والحداثة للبدء فيه، ويحدث هذا عادةً بدرجة من درجات التنوير. كان أرسطو من قال منذ 2500 سنة إنه على الرجل الحكيم أن يتخذ مسافة من أعمال العبيد كي يتفرغ للهَمِّ البحثي عن الخير والمعنى والمنطق، إلخ. كان حينها يشير إلى اتجاه أن نصير كائنات ذات وعي عالٍ بذاتها، وقادرةً على خلق المعنى من حياتها.

إسراء فاروق الجزار