الحوائط والفراغات العامة: في العلاقة بين المدينة والبشر

صلاح المولِّد
نشر في 2018/07/25

الصورة: Getty/David Degner

بعد الثورات العربية، ظهر عدد من الرسائل على جدران الشوارع: رسومات أو شعارات أو غيرها، اسمها «غرافيتي»، منها المناهض للنظام، ومنها المؤيد. هذه الرسائل أعادت إحياء حوائط المدينة كإحدى مساحات التعبير عن الرأي، وبالتالي ظهرت مبادرات لتوثيق تلك الرسومات والشعارات.

في مصر، يوثق كتاب «حوائط الحرية»، الذي تصفه الكاتبة أهداف سويف بأنه «فِعلٌ داخل في ثورتنا»، ثلاثة أعوام بعد ثورة يناير من الرسم على الجدران. بعض تلك الجدران رُسم عليها للاعتراف بها وإكسابها أهمية التوثيق، وبعضها الآخر عمد الشباب إلى الرسم عليه اعتراضًا واستنكارًا، مثل ما حدث في حملة «مفيش جدران».

لكن تلك الثورات لم تكن إلا حجرًا حرك الراكد من هذا النشاط، فقبل «الربيع العربي» كان الجدار العازل الذي أقامته قوات الاحتلال في فلسطين مساحة مهمة أُضيفت إلى المقاومة.

استخدام الحوائط كمساحات للتواصل يمتد تاريخه ويوغل في الزمن، وحوائط المدينة كانت على مر التاريخ أحد أهم العناصر التي توفر مساحة للتواصل بين فئات المجتمع، أو بين السلطة وباقي الأفراد. يظهر ذلك واضحًا في التراث الشعبي للمنطقة العربية، فنجد رسومات الجمال وعبارات مثل «حج مبرور وذنب مغفور» تزين بيوت الحجاج قبل عودتهم من الأراضي المقدسة. ونجد ذلك أيضًا على جدران الكعبة كالمعلقات. تلك الرسائل تتفاعل مع الحوائط، فتكتسب الرسائل قدسية الحوائط والعكس بالعكس.

الحوائط ليست جزءًا منفصلًا بذاته، فهي أحد عناصر مُكوِّن آخر للمدينة. الحائط في وسط الصحراء ليس له قيمة أو دلاله، لكنه حين يجتمع مع الحوائط الأخرى يشكل محدِّدًا مميِّزًا لفراغ ما. حين تجتمع الحوائط على شكل مربع في منزل، تحدد شكلًا للفراغ يمارس السكان نشاطًا معينًا فيه، مثل النوم أو الطبخ. وحوائط المباني كلها تتجمع لتشكل فراغات بينية بأشكال معينة، سواء كانت عن قصد أم لا.

في تلك الحالة، تكوِّن تلك الفراغات البينية مساحات تسمى «الفراغات العامة».

ما الفراغ العام؟

غرافيتي من حملة «مفيش جدران» في وسط القاهرة - الصورة: SOoOti eYes

الفراغ العام، ببساطة، هو المساحة التي يمكن لأي شخص استخدامها دون الحصول على إذن من شخص ما أو جهة. في الصباح حين تتوجه إلى عملك وتغادر منزلك، تستخدم الشارع مساحة لتنتقل لمكان عملك دون طلب إذن من الدولة أو من الجيران. هنا نطلق على هذه المساحة: فراغ عام. وهكذا يمكنك بكل سهولة تحديد ماهو عام وماهو ليس عامًّا. مثلًا، الميادين فراغات عامة، والأرصفة فراغات عامة، وهكذا.

يمكنك ممارسة هذا التمرين الممتع في تحديد ماهية الفراغات في أثناء رحلاتك اليومية في المدينة لتكسر ملل الطريق. هذا الملل أيضًا شعور ناتج عن التصميم السيئ للفراغ العام المسمى «الطريق». هل لاحظت مدى أهمية وتأثير هذا الفراغ في حياتك؟ نعم، أنت تقضي فيه وقتًا أكثر بكثير مما تقضي في فراغات بيتك.

كلما زادت قدرتك على ممارسة عدد أكبر من الأنشطة في الفراغ بحرية، زاد شعورك بالانتماء لهذا الفراغ.

الفراغات العامة، وكل الفراغات المحيطة، تؤثر فينا بصورة مباشرة، سواء كنا على وعي بها أو دون وعي. وتلك التأثيرات تأخذ مناحي كثيرة، منها النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

هنا نحاول إلقاء الضوء على بعض المناحي الاجتماعية والنفسية لهذا التأثير المباشر الذي تحدثنا عنه.

الفراغ العام والانتماء

الميادين والشوارع من أهم الفراغات العامة، فأي شخص يستطيع دخولها وخروجها دون الحصول على إذن أو تصريح من أي شخص، ويحدث فيها عدد من الأنشطة المختلفة، كالجلوس والانتقال بالسيارات والسير على الأقدام، وأحيانًا أنشطة رياضية كلعب الكرة، وفنية كالرسم على الحوائط.

بالملاحظة المباشرة، ستجد أنك كلما زادت قدرتك على ممارسة عدد أكبر من الأنشطة في الفراغ بحرية مطلقة، ودون الحصول على تصريح من شخص أو جهة ما، زاد شعورك بالانتماء لهذا الفراغ.

على سبيل المثال، تجد على ألسنة كثير منا كلمة «منطقتي» أو «شارعي»، وهنا أضفنا إلى الكلمة ياء الملكية لشعورنا بالانتماء إليها.

تلك الفراغات (شوارع، أرصفة، حدائق، إلخ) يمكننا فيها ممارسة أنشطة متنوعة دون الشعور بالقلق من سيطرة أحدهم. الأطفال الذين يلعبون الكرة في الشارع، ويكتبون أسماءهم على الجدران، يشعرون بالانتماء لتلك المنطقة. فإذا حاولت ممارسة السيطرة على أحد هذه الفراغات، ومنعت أحدهم من اللعب بالكرة، لجاءك الرد تلقائيًّا بكل قوة لا تتناسب مع حجم الطفل: «أنا ألعب أمام بيتي». مرة أخرى: الشعور بالانتماء لهذا الفراغ.

ينتج عن هذا الشعور أنشطة أخرى إيجابية، فمثلًا في الحارة الضيقة التي يعرف سكانها بعضهم ستجد أن الحال أكثر جودة وأفضل بكثير من شوارع المناطق المخططة حديثًا، لأن الشعور بالانتماء خَلق لديهم بعض الأنشطة التكافلية، مثل النظافة الجماعية وتطوير الشارع وإنارته وزرع الأشجار.

هذه الأنشطة تظهر حتى لو كان الشعور بالانتماء مؤقتًا. ففي ميدان التحرير عام 2011، اعتصم المتظاهرون لمدة 18 يومًا: أكلوا وشربوا وناموا وضحكوا ولعبوا وتظاهروا وعرفوا بعضهم ومارسوا جميع الأنشطة بحرية مطلقة، فنتج شعور بالانتماء وأنشطة وخدمات تكافلية أخرى، مثل التأمين والنظافة وإنشاء مستشفى مجاني وغيره. تلك الخدمات والأنشطة التي كثيرًا ما تعاني الدولة لتوفيرها في بعض المناطق.

الفراغ العام وحدود السيطرة

أحد مقاهي منطقة وسط البلد يفرش الفراغ العام بكراسيه - الصورة: منطقتي

ينقلنا الحديث عن الانتماء إلى النقطة الأهم: حدود السيطرة. لاحظنا في لهجة الطفل الصغير والمتظاهرين في التحرير شعورًا بالملكية. قد يجادل بعضنا بأن الشعور بالملكية هو الذي يَنتج عنه الانتماء، وقد يدَّعي آخرون العكس، لكن هذا ليس موضع النقاش. الأهم هنا أن الشعور بالملكية وحدود السيطرة أحد محدِّدات الفراغ العام.

مرة أخرى نعود إلى التمرين الأول. بعد ممارسة هذا التمرين اتضح لنا أن الرصيف أحد الفراغات العامة، فأنت لا تحتاج إلى تصريح لاستخدامه. لكن لحظة: في بعض الأرصفة، إن لم يكن كلها أحيانًا، تضطر إلى التنازل عن استخدامه والمشي في حرم الطريق، بين السيارات، وتعريض حياتك للخطر، لأن أحدهم قرر أن هناك جزءًا من الرصيف ملكية خاصة له، فانتزعها بالقوة.

نعم، إنه صاحب المقهى الذي تعرفه من هيئته وتستطيع تمييزه بسهولة وسط الجالسين. قرر صاحب المقهى أن الفراغ الذي يقع أمام محله من الرصيف خاص به، وبعد أن كان يعتني بنظافته أخذ حق التحكم في مَن بإمكانه إيقاف سيارته أمامه، ثم انتقل إلى انتزاع حق المنفعة الاقتصادية لهذا الرصيف.

بطريقة أو بأخرى، استطاع الرجل التوصل إلى حل وَسَط بينه وبين الدولة، لتتنازل الدولة (الحامية لحقوق المواطنين، وبالتالي حقهم في الحصول على فراغ عام) عن حق إدارة هذا الفراغ.

حين شعر المتظاهرون بالانتماء إلى ميدان التحرير، بدؤوا يتحكمون في الداخل والخارج منه.

لن أذهب بعيدًا بهذا المثال، فمنذ فترة وصلت إلى أحد مقاهي منطقة وسط القاهرة، وبينما «أسحب كرسيًّا» لأجلس في أحد المساحات الفارغة من الرصيف، في محاولة للحصول على بعض الهواء، وجدت صاحب المقهى يأمرني (بلهجة يصعب معها الجدال) أن أبتعد عن هذه المنطقة. لماذا تلك المنطقة؟

اتضح أنها منطقة أخرى من الرصيف، قرر صاحب المبنى أنها تخص مدخل البناية السكنية رغم أنها من الرصيف. وللرجل كل الحق بالطبع، فهو يريد دخول منزله والخروج منه بسهولة. هنا نجد سيطرة أخرى على أحد الفراغات العامة بالتراضي بين المسيطِر الأول والثاني، بعيدًا عن صاحب الحق في هذا الفراغ: المواطن.

عودة إلى التحرير 2011. حين شعر المتظاهرون بالانتماء إلى الميدان، وضمنيًّا حددوا مداخله، بدؤوا يتحكمون في الداخل والخارج منه. لم تعد السيارات قادرة على الاختراق. سيطر المتظاهرون على أحد الفراغات العامة بغرض ممارسة نشاط سياسي، وتحكموا في من يدخل ويخرج، وفي نوعية النشاط الذي يحدث داخل هذا الفراغ.

الفراغ العام والشعور بالأمان

الآن يأتي الحديث عن الشعور بالأمان منطقيًّا، بعد أن ناقشنا حدود السيطرة والشعور بالانتماء.

عودة إلى مصطلح «منطقتي»، نجد أن الفتاة تدخل شارعها، وتشعر أخيرًا بالاطمئنان نسبيًّا، فلا يمكن لأحد أن يتحرش بها في منطقتها، جميع الناس يعرفون بعضهم، ولا غريب بينهم (وإن كان هذا المفهوم تغيَّر حديثًا مع تغيُّر شكل المدينة والعلاقات الاجتماعية بين السكان).

في المناطق الأكثر حميمية (خمِّن؟ لا أقصد المجتمعات العمرانية الجديدة) ترى كثيرًا من المقتنيات متروكة في الشارع هكذا، مثل كرسي يجلس عليه أحد كبار السن، أو دراجة طفل، أو غير ذلك. هذا أيضًا ناتج عن الشعور بالأمان.

في ميدان التحرير كذلك، ظهرت لجان للتأمين على المداخل وداخل الميدان نفسه. وعندما غابت الشرطة عن مصر كلها، ظهرت اللجان الشعبية بكل تلقائية. فالسكان يشعرون بانتمائهم إلى المكان، ويعلمون جيدًا حدود السيطرة، فلا أحد يحاول الدخول إلى منطقة غير منطقته التي اتُّفِق على حدودها ضمنيًّا. وهنا نجد ملاحظتين مهمتين:

  1. التحرك للتأمين حدث بصورة تلقائية لشعور السكان بأن سيطرة الدولة على الفراغات العامة، كالشوارع والحواري، سقطت، فانتقلت السيطرة إليهم تلقائيًّا
  2. المناطق غير المخططة (يسمونها العشوائيات خطأً) كانت أكثر تأمينًا

هذا حقيقي، ولا عجب فيه، فمعظم تلك المناطق أقرب في التخطيط إلى المدن القديمة، التي كان تخطيطها يغذي كل هذه المعاني، عكس ما نراه حديثًا من المدن.

الفراغات العامة مِلك للجميع، والدولة تؤدي دورها بتنظيمها وحماية حق المواطنين فيها، لكن الدولة ليست الوحيدة التي تسيطر عليها.

سكنتُ في منطقة التجمع الأول في القاهرة خلال الثورة، ولاحظت هذا جيدًا. لم يكن أحد من السكان يعرف الآخر، ومعظمهم من النازحين حديثًا، ولا تفاعل اجتماعيًّا بينهم. وحين سافرت إلى مسقط رأسي (مدينة طنطا في محافظة الغربية) وجدت مكاني محجوزًا في اللجان الشعبية، ولم أستغرق وقتًا للانضمام سريعًا رغم غيابي. وهنا نلاحظ أن الشعور بالانتماء والأمان يرتبط مباشرة بطريقة التفاعل مع الفراغ العام، ففي المدن الحديثة الفراغات العامة مجرد مساحات نمر بها سريعًا للوصول إلى وجهتنا، أما في المدن الأقرب للتخطيط القائم على المستخدِم واحتياجاته وتفاعله، فالتفاعل مع الفراغ العام يختلف تمامًا.

لجنة شعبية

الفراغات العامة مِلك للجميع، والدولة تؤدي دورها بتنظيمها وحماية حق المواطنين في استخدامها. لكن الملاحِظ الجيد يكتشف أن الدولة ليست الوحيدة التي تسيطر عليها.

نجد عددًا من التناقضات والمعارك حول السيطرة (ولهذا تفصيل ونقاش ربما في موضوع آخر). هذه المعارك تخص جميع الناس، فبعدما شرحنا بعض التفاعلات (ليست كلها) النفسية والاجتماعية، وملاحظة التفاعلات السياسية والاقتصادية وغيرها، نجد أن هذه الفراغات تستحق منا الاهتمام بها ودراستها والقراءة عنها أكثر من غيرها.

التفاعل مع هذه الفراغات يحدد ويغير كثيرًا من الأشكال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعلاقات بين السكان، وعلاقتهم بالدولة. الدعوة هنا لاستخدام تلك الفراغات بصورة أكثر وعيًا وإدراكًا لمدى تأثيرها، وخطورتها كذلك، بصورة أكثر إيجابية. نحن نتفاعل مع الفراغات العامة، سواء أدركنا ذلك أم لا، فدعونا ندرك قبل أن نتفاعل.

صلاح المولِّد