بأي لغة يتحدث إليك لاوعيك؟ وبعض الأسئلة الأخرى
كان العالِم «فريدريك أوغست كيكوله» عالقًا في مشكلة كبيرة. أمضى الرجل فترة طويلة محاولًا تخيُّل البنية الكيميائية للبنزين، لكنه لم يستطع الوصول إلى أي شيء. بدا تخيُّل الشكل الذي تصطف على هيئته حلقات البنزين مسألةً غير مفهومة من الأصل.
في أثناء استغراقه في النوم حلم كيكوله حلمه الشهير: أفعى تضع ذيلها في فمها مكوِّنة شكلًا دائريًّا. استيقظ وهو يصيح: «إنها حلقة، الجزيء يأخذ شكل الحلقة». أهمية هذه القصة بالنسبة إلينا ليست مشكلة كيكولي ذاتها بالطبع، وإن كانت تستحق، لكنها تخص علاقة اللغة واللاوعي.
بما أن لاوعي كيكولي يفهم اللغة بشكل جيد، بناءً على أنه فَهِمَ المشكلة في المقام الأول، فلماذا لم يجب بكل بساطة عن سؤاله بشيء مثل: «كيكولي، إنها حلقة. عليك أن تنتبه».
لماذا اختار اللاوعي الأفعى؟ لماذا يكره لاوعينا التحدث معنا؟ لماذا يستخدم الصور والاستعارات، وحتى الأحلام؟
«كورماك مكارثي» كاتب وروائي شهير حاصل على جائزة «البوليتزر»، إحدى أرفع الجوائز الأدبية، عن روايته «الطريق»، وتحولت روايته «No Country for Old Men» إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه حاز جائزة الأوسكار عام 2007. وهو، في مقاله الذي نشره موقع «Nautil»، يحاول الوصول إلى عدد من الإجابات حول مسألة اللغة (واحدة من اهتماماته الأصيلة) وعلاقتها باللاوعي وطريقة توليد الأفكار.
اللاوعي: نظام بيولوجي
لنبدأ بشكل صحيح، علينا أولًا أن نحدد اللاوعي أصلًا. ولفعل هذا سنترك المصطلحات العلمية الحديثة جانبًا، ونعود إلى علم الأحياء. فاللاوعي، قبل أي شيء آخر، نظام بيولوجي. وفي صياغة أخرى أكثر دقة: آلة تشغيل حيوانية.
اللاوعي لا يحمل قلمًا أو نوتة، وبالتأكيد لا يحمل ممحاة، فكيف يحل المشكلات الرياضية إذًا؟
تملك جميع الكائنات لاوعيًا من نوع ما. وإن لم يكن لديها، فهي نباتات طبعًا. لكننا قد نربط هذا اللاوعي بمهمات لا دخل له بها. فالتنفس مثلًا لا نتحكم فيه باللاوعي، وإنما بجسر فارول والنخاع المستطيل، وهما نظامان موجودان في جذع الدماغ. لكن واجبات اللاوعي لا تُحصى ولا تُعد، بدءًا من حكة بسيطة حتى حل مشكلات الرياضيات.
توصف المشكلات، بشكل عام، بواسطة اللغة، وعند حلها نستخدم اللغة أيضًا للشرح. لكن عملية التفكير الفعلية أمر يخص اللاوعي بشكل كبير.
يشير كاتب المقال إلى أنه قال لزملائه من الرياضيين إن لا وعيهم أكثر مهارةً منهم شخصيًّا في الرياضيات. والغريب أنهم وافقوه، ووصف أحدهم هذا بأن اللاوعي يعمل في «مناوبة ليلية». لكن عليك أن تتذكر أن اللاوعي لا يحمل قلمًا أو نوتة، وبالتأكيد لا يحمل ممحاة، فكيف يحل المشكلات الرياضية إذًا؟ إنه يفعل ذلك دون استخدام الأرقام، لكن كيف؟
لا نعرف، مثلما لا نعرف كيف نتحدث.
بمعنى أنك إذا كنت تتحدث مع شخص ما، فإنه من الصعب أن ينشغل دماغك بصياغة الجمل التي ستقولها كلها، لأنك ببساطة مشغول كليًّا في التحدث. وبالطبع لا يمكن أن يكون هناك جزء ذهني يجمع تلك الجمل، ويهمس بها، ثم تكررها من بعده. هذه العملية ما زالت أمرًا غامضًا لا يمكننا الوصول إليه.
هناك اعتقاد سائد بأن اللغة عملية تطورية بالكامل، وأنها ظهرت، بطريقة ما، في الدماغ بشكل بدائي، ثم بدأت في التطور، مثل الرؤية تقريبًا. لكننا نعرف الآن أن الرؤية يمكن إرجاعها إلى ما يصل إلى 12 تاريخًا تطوريًّا مستقلًا. وتشير قصص نشوء الرؤية إلى أن الكائنات الحية كانت تتعامل قديمًا مع أي غياب للضوء على أنه فرصة لهجوم محتمل من حيوان مفترس، ما يجعلها سيناريو مثاليًّا للانتقاء الدارويني.
قد يتخيل أصحاب هذا الاعتقاد أن جميع الثدييات كانت تنتظر ظهور اللغة، لكن كل المؤشرات تدل على أن اللغة لم تظهر إلا مرة واحدة، وفي نوع واحد فقط، ثم انتشرت بين هذا النوع بسرعة كبيرة.
لغة أوَّلية
هناك عدد من الأمثلة على إشارات يمكن اعتبارها لغةً أولية في عالم الحيوان. السناجب مثلًا لديها إنذاران مختلفان: واحد للمفترِسات الجوية، والآخر لتلك الموجودة على الأرض. تختلف إشارات وجود الصقور عن الثعالب أو القطط، وهذا أمر مفيد للسناجب. لكن الشيء المفقود هنا هو الفكرة الأساسية من اللغة، وهي أن شيئًا ما يمكن بسهولة أن يكون شيئًا آخر.
ينقل كاتب المقال أن أول نشأة للغة كانت في جنوب غرب إفريقيا، وأنه جرى التعامل مع المشكلات الصوتية في نهاية المطاف بشكل تطوري، وفي وقت قصير نسبيًّا، عن طريق تحويل حلقنا إلى مصنع لخلق الكلام. لكن هذا ليس مجانيًّا، فقد انتقلت الحنجرة إلى أسفل الحلق بطريقة تجعلنا أكثر عُرضة للاختناق بغذائنا. هذه الحيلة التطورية دفعنا ثمنها غاليًا، فنحن النوع الوحيد من الثدييات غير القادر على البلع وإصدار الأصوات في الوقت ذاته.
لم تكن عزلتنا التي أعطتنا اختلافات في اللون والطول وغير ذلك عائقًا أمام تطور اللغة. لقد عَبَرت الجبال والمحيطات كما لو كانت غير موجودة.
هل كانت اللغة ضرورية لوجودنا؟ الإجابة: لا، فهناك خمسة آلاف نوع آخر من الثدييات القادرة على العيش بشكل جيد دونها.
لكن هل هي مفيدة؟ الإجابة: نعم، بالتأكيد.
عندما وصلت اللغة إلينا لم يكن هناك مكان مخصص لها، إذ لم يكن المخ يتوقع وصولها، ولم يضع أي خطط لذلك. يقترح كاتب المقال أن اللغة تصرفت إلى حد كبير مثل الغزو الطفيلي، لكن هذا لا يعني أن العقل البشري لم يكن منظمًا لاستقبال اللغة بأي شكل من الأشكال.
لا يوجد انتقاء في تطور اللغة، لأنها ليست نظامًا بيولوجيًّا، ولأن هناك لغة واحدة فقط هي الأصل اللغوي الذي نشأت منه جميع اللغات.
كان داروين رافضًا لفكرة «التشويه» المتوارَث، مثل قضية قطع ذيل الكلاب. لكن توارُث الأفكار يظل مسألة ذات أهمية، فمن الصعب تخيل أي سيناريو آخر لوجودها عن طريق وسيلة أخرى غير الاكتساب.
الطريقة التي يعمل بها اللاوعي لا تزال غير مفهومة إطلاقًا. إنها منطقة تتجاهل دراسات الذكاء الاصطناعي الذهاب إليها، برغم أنها مكرسة بشكل كبير لتلك التحليلات، وما إذا كان الدماغ البشري يشبه الكمبيوتر.
لقد قرروا أنه ليس كذلك، لكن هذا ليس صحيحًا تمامًا.
اللغة واللاوعي: تسمية الأشياء بأسمائها
يبدأ تطور اللغة بتسمية الأشياء، ثم يأتي بعد هذا وصف هذه الأشياء وما تفعله. نمو اللغات بصورتها وشكلها الحالي، في التركيب والقواعد، يوحي بأن هناك قاعدة عالمية مشتركة. وتلك القاعدة هي أن جميع اللغات اتبعت متطلباتها الخاصة، وهي أيضًا أن تلك اللغات تهتم بوصف العالم. نحن لا نعرف ما هو اللاوعي، ولا أين هو، ولا كيف وصل إلى هناك.
اللاوعي ينظم حركتنا ويوجه حياتنا منذ زمن طويل، ودون لغة. فنحن لا نسمع صوتًا داخليًّا يرشدنا إلى المكان الذي ينبغي لنا أن نحُكَّه، ومتى علينا أن نحكه، فكيف يخبرنا بهذا؟ ولماذا يبدو أنه يكره التعليمات اللغوية، أو ربما لا يثق بها؟ ربما لأن اللاوعي صمد وتطور بشكل جيد دون اللغة لملايين السنين. نحن لا نسمع صوت لاوعينا، ولا نعرف إن كان يملك صوتًا من الأصل.
أداة اللاوعي المفضلة هي القصة المصورة، بسبب بساطتها، ولأنها أقرب إلى غرائزنا. من السهل استرجاع الصورة بكامل تفاصيلها، بينما يصعب استرجاع مقال مكتوب. نعرف أن سجل المعرفة في دماغ الشخص العادي هائل للغاية، لكننا لا نعرف الشكل الذي تكون عليه هذه المعرفة. يمكنك أن تقرأ ألف كتاب وتناقش أي واحد منها دون أن تتذكر كلمة واحدة من النص نفسه.
عندما تتوقف برهة لتفكر، وتقول: «حسنٌ، سأصوغ هذا بشكل آخر»، فإن هدفك يكون إحياء فكرة من الأفكار الموجودة في دماغك، ومنحها أجنحتها اللغوية الخاصة بها، لتحلق خارج دماغك وتصبح تعبيرًا مقبولًا. إذا شرحت شيئًا لشخص ما ثم وجدت أنه لم يفهم، فإنك تحك رأسك باحثًا فيها عن فكرة أسهل أو صياغة أقرب إلى ما قلته بالفعل.
يهتم اللاوعي بالقواعد، لكن هذه القواعد تتطلب تعاونًا منك. يعطيك إرشادات حياتية بشكل عام، لكن ذلك لا يعني أنه يهتم بنوع معجون الأسنان الذي تستخدمه.
وبينما قد يرشدك لاوعيك إلى طريق ما، فإنه بالتأكيد لا يقصد بهذا أن تقع من فوق منحدر، كما نرى في أحلامنا دومًا. تلك الأحلام المزعجة التي توقظنا من نومنا، التي دائمًا ما تكون صورًا غرافيكية. لا أحد يتكلم فيها. أحيانًا قد يفهم أحدهم معنى تلك الأحلام، لكننا لا نقدر على ذلك في الأغلب، فاللاوعي يقصد أن يجعل الأمر صعبًا لكي نفكر فيه، ولكي نتذكره.
اللاوعي نظام حيوي، واللغة ليست كذلك.
اللاوعي يعرف كثيرًا من الأمور، لكن ما الذي يعرفه عن نفسه؟ هل يدرك أنه سيموت في وقت ما؟ كيف يفكر في ذلك؟
يبدو أن اللاوعي يمثل مجموعة كبيرة من المواهب، وليست واحدة فقط. بمعنى أنه ليس من المنطقي أن القسم المسؤول عن الحكة هو نفس القسم الذي يتولى الرياضيات. لكن هل يمكن للاوعي أن يعمل على أكثر من مشكلة في وقت واحد؟ هل يعرف ما نقوله؟ هل يفهمه؟
دعنا نذهب إلى فكرة أكثر تطرفًا: هل للاوعي طريقة تَواصل مباشرة مع العالم الخارجي؟ وهل هو جيد فعلًا في حل المشكلات، أم أنه يحتفظ وحده بالمرات الذي فشل فيها في حل تلك المشكلات، ومن ثم يتفاداها؟ هل يجب أن نحسده على هذا الفهم العميق؟ لكن كيف يمكننا التحقق من فهمه هذا؟ ربما لا توجد إجابات واضحة عن كل هذه الأسئلة، لكن تأملها يفتح مساحات للفهم طيلة الوقت.
ندى رضا