النشوء والارتقاء في «طق الحنك»: كيف تولد الشائعة؟

بدرية صلاح
نشر في 2021/06/22

الصورة: Getty - التصميم: منشور

حوقل أحدهم في تغريدة على الإنترنت، كانت حوقلة نقية، لا تشوبها بدعة، ولم يحوقَل فيها ما هو غير الله حتى تستدعي أي جلبة من أي نوع، وكان كاتبها «أحدهم»، حتى فطن الناس إلى المنصب الذي يشغله هذا الرجل. ونظرًا لتزامن ظهور التغريدة مع أخبار مرض الحاكم، فإن الحوقلة اليتيمة تلك قد أثارت شعبًا كاملًا. في هذه اللحظة المحمومة وُلدت «شائعة»، وقد خرجت إلى الناس بحرارة مرتفعة ألهبت الشارع الكويتي وأحالت الناس إلى أفواه وألسن لا تهدأ، 

استعر الشارع مجددًا حين مسح المعني تغريدته وكتب تغريدة يدعو فيها للحاكم بالشفاء العاجل، فزاد اللغط، وتحولت تلك الأفواه والألسن إلى وكالات أخبار متنقلة، وكالة تنفي، وكالة تؤكد، وكالة تحل وتربط بين هذه وتغريدة كتبها صهيوني قبل أكثر من أسبوعين يعلن فيها وفاة الحاكم إياه، ووكالة تفتح الرهان على ولي العهد القادم.

أعلن إعلام الدولة الرسمي لاحقًا ظهر ذلك اليوم وفاة الحاكم، ووفاة «الشائعة». تمثل تلك الحادثة مثالًا واضحًا على دورة حياة الشائعة. من أول «بُقْ» حتى آخر تغريدة تدعو للحاكم بالرحمة، مسجلة تحوّراتها والوجوه الجديدة التي اكتسبتها الطفلة المعجزة «شائعة» في حياتها القصيرة.

الشائعة باقية وتتمدد

ما هو متوسط عمر الشائعة؟ وهل يمكننا رصد دورة حياة الشائعة؟ هذا ما علق عليه خبير التواصل الاجتماعي والانتشار عذبي المطيري لـ«منشور»، قائلًا بأنه لا يوجد عمر محدد للشائعة، وعادة ما يرتبط بقاؤها بموجة لاحقة من الشائعات. 

هذا ما نلاحظه عند متابعة شائعة ما، فمثلًا ظهرت شائعة خطورة العيش بجانب أبراج الاتصالات وترددت كثيرًا في العقد الأخير مع انتشار الإنترنت والأجهزة الذكية، إلا أنها تحورت بشكل كبير حين ظهرت تقنية الجيل الخامس في عام 2019، وحينها ظهرت شائعات أخرى توضح خطورة هذه التقنية «الآفة»، والتي تعيث في الكوكب إشعاعاتها السامة.

وجه النائب محمد الدلال عضو البرلمان الكويتي 13 سؤالًا برلمانيًا إلى 3 وزراء، يتحقق من إجراءات الدولة في الوقاية والعلاج من تلوث المواد المشعة التي ستتسبب فيها تقنية الجيل الخامس، بينما يعلم جميع طلاب الصف التاسع أنها آمنة تمامًا وبريئة من هذه التهم المنسوبة. 

موجة شائعة الأبراج دفعتها موجة شائعة «خطورة التطعيمات»، التي أدت إلى امتناع كثير من الأسر عن تطعيم أطفالهم الجدد من أمراض فتاكة كالحصبة والجدري وشلل الأطفال. وهي شائعة تفاقمت بشكل ضخم، وارتبطت بشائعة «إشعاع الجيل الخامس» في زفاف سيريالي مخيف، مما حدا بشبكة BBC أن نشرت تحقيقًا حول صحة نظريات المؤامرة عن شرائح التجسس الخاصة ببيل غيتس، وتفنيد الأساطير التي تحاك ضد لقاح كوفيد-19.

اليوم، لا يرافق الشائعة اللغط فحسب، بل ترافقها النكتة، والتعليق، وسيل من الميمز التي تعطي الشائعة ميزة الترفيه و«فشة الخلق» والمزيد من الانتشار.

تشابَه «الخبر» علينا 

ما هو الفرق بين الشائعة والخبر الصحفي إذا كانت تلك الشائعات تحتل عناوين الصحف العالمية؟ «كل شائعة هي خبر صحفي، وليس كل خبر صحفي شائعة»، هكذا يعلق الكاتب والصحفي محمد العجمي لـ«منشور».

تفتقد الكويت الصحافة المهنية الحرة، ولا يخفى على أحد أن الإعلام التقليدي لدينا تحت فكي الحلف الطبقي المتمثل في «الشيوخ والتجار» أو مدعوم من كليهما، فهو إعلام إما يخدم مصالح تلك الفئة أو يحقق طموحات الأخرى. 

ولأن تقدم الإنترنت في العقد الأخير ووجود وسائل التواصل الاجتماعي حدَّ من الإعلام التقليدي ونزع عنه سلاح الحصرية والسبق الصحفي، فقد سقطت الصحافة الورقية عن عرش الإعلام. ربما نلاحظ أن انتشار النظير الصحفي الرقمي الذي يبث الأخبار على مدى اليوم قد خلق مجتمعًا مهووسًا بتتبع الأخبار والمعلومات، ووفر مناخًا لخلق الشائعات ونشرها باتساع الأرض، وإحيائها لو هلكت.

لا يقتصر إطلاق الشائعات على الصحف الصفراء، ولا الأفراد حتى، وهو ما يوضحه العجمي، مضيفًا أن «الحكومات تطلق الشائعات، والشركات تطلق الشائعات، بل وحتى البنوك تطلق الشائعات». وقد حدث أنه كاد بنك في الكويت يفلس إبان الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، حين انتشرت شائعة عبر تطبيق واتساب بأن البنك يحجز على أموال العملاء، فتجمع الناس طوابير أمام فروع البنك حول البلاد لسحب كل ما في أرصدتهم البنكية وإغلاق حساباتهم، وهي الرواية التي أكدها لـ«منشور» الموظف السابق في بنك الخليج «ر. م.».

تتشكل الشائعات غالبًا حسب المزاج العام للشعب، الذي يقفز من الخوف والتوجس إلى الأمل، وهكذا دواليك، فنجد أكثر الشائعات رواجًا تتفاوت من تعليق المجلس ووقف العمل بالدستور، إلى مضاعفات اللقاح المميتة، مرورًا بإقرار المنح وإسقاط القروض. 

يأخذ المواطن الكويتي أخباره من الحسابات الإخبارية الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي، التي تتميز بسرعة نشر المعلومة وتنوع وسائط نقلها، من مقاطع الفيديو والصور إلى الرسائل الصوتية، والتي تتحلى بشفافية أكثر من اللازم، وسقف أعلى من سقف إعلام الدولة، ذلك لأنها متحررة من الأسس المهنية للصحافة التقليدية، ولا يشترط لتعمل بها سوى أن تجيد القراءة والكتابة على لوحة المفاتيح، وأن تمتلك رصيدًا محترمًا من المتابعين بالطبع. 

«ممبو.. ممبو.. مدوده من بطن أمّو»

Illustration by Edwina White

منذ ثلاث سنوات كنت أتحدث مع صديق من قبيلة شمّر، فشرحت له بشكل مبسط ظاهرة «FOMO» أو «القلق من أن يفوتك شيء ما»، والتي قرأت عنها في مقالة مترجمة على موقع «منشور»، فأشاح بيده متهكمًا، وقد ظننت أن شرحي كان وافيًا ومبسطًا، إلا أنه علق بعد أن صمت برهة: «ممبو.. مدوده من بطن أمّو»، ثم أكمل قائلًا: «بلا فومو بلا سربته»، وقد كان رده الساخر عميقًا جدًا. 

منذ التاريخ القديم والمعلومة تساوي البقاء، أول رجل يشاهد الأسد لديه فرصة أكبر في الاحتماء والنجاة، مما يؤكد أن أسبقية الحصول على المعلومة تعني فرصًا أفضل في الحياة. تقول ملك الرشيد، أستاذة علم الاجتماع في جامعة الكويت، لـ«منشور» إنها ترى أن ظاهرة «الفومو» انتقلت إلى مجتمعاتنا «كمفهوم لا ممارسة، لأننا مجتمعات لا تقرأ، فتحولت لما أسميه "مثقفي العناوين العريضة"، والتي يكتفي أفرادها بقراءة العناوين فقط عن كل جديد دون التمعن في حقيقتها، والتسرع بنشرها كخبراء، مما يشكل مصدرًا آخرًا للشائعة».

النشوء والارتقاء: الشائعة

The Gossip (1948): illustration by Norman Rockwell

الشائعة أحد أهم مظاهر الثورة الإدراكية التي مر بها الإنسان الأول، هكذا يشرح يوفال حريري في كتابه «Sapiens: A Brief History of Humankind»، بل ويؤكد أن النميمة التي هي وسيط الشائعة، هي إحدى أهم أدوات تطوير اللغة كوسيلة اتصال.

يوضح حريري أن جميع القرود تظهر اهتمامًا واضحًا بتبادل المعلومات الاجتماعية، وتمارس الكذب دون تردد للحصول على المزيد من الطعام. بشكل حيواني مبسط نرى محاكاة لما يحدث في العالم المادي الذي نعيشه، والذي تتنافس مكوناته جميعها على البقاء والحصول على اللقمة الأكبر. أليست الشائعة الوسيلة الأقل دموية للحصول عليها؟ 

تعلق الرشيد على الشائعة قائلة: «يكاد يتفق الجميع، لربما فكرًا لا سلوكًا، على أن الشائعة "سيئة"، وأن تداولها "خطيئة". إذًا، لماذا هي في انتشار دائم وبمواضيع متجددة وفي كل المجتمعات على اختلاف مستوياتها الثقافية والاجتماعية؟».

أتساءل إن كان ذلك تناقضًا، أم أن الإنسان يخلق شرعية ومصداقية لكل ما يمنحه تفوقه على الآخرين؟ بل نرى حرص الإنسان على إظهار أسبقية تحصله على المعلومة، وأن يتحول من متلقٍ للخبر إلى حامل وناشر له.

تجيب الرشيد بأن «الفرد عادة ما ينقل المعلومة التي تحصّل عليها، سواء من أشخاص أو قراءات من مصدر ما، عندما يؤمن بتلك المعلومة ويعتقد أنها صحيحة، ولهذا يهُم بنشرها فيصبح هو مركزًا للاهتمام. وذلك يجرنا إلى سبب آخر لانتشار الشائعة، وهو الرغبة في تحسين الصورة الذاتية للشخص الناقل بلفت الأنظار لما يحمل من معلومات لا يملكها غيره، فيكون مرجعًا للخبرة، وإن كانت وهمية، مما يُشعره بالثقة في النفس. وأثبتت العديد من الدراسات النفسية والاجتماعية أن الشائعة عادة ما تكون في أوجها حينما تَصدر من أفراد جماعة معينة ضد جماعات أخرى، إذ يراها البعض تأكيدًا للانتماء إلى تلك الجماعة وتنكيلًا بسواها من الجماعات، مما يسهم في تحقيق مكسب الإحساس بالمكانة الاجتماعية، وعادة ما يُستخدم هذا النوع من الشائعات في المعارك السياسية».

اتخذت العديد من وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام إجراءات جديدة وحازمة لمكافحة الشائعة ونشر المعلومات الخاطئة، وأرفقت تحذيرات على التدوينات المكتوبة والتغريدات التي تحوي معلومات مشكوك في صحتها، وأخذت تطلب من المستخدمين قراءة المقالات الصحفية قبل إعادة نشرها، في محاولة جادة للحد من الشائعات، بل وقد أرفق تويتر تحذيرات عديدة من هذا النوع على تغريدات الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، حين غرد خارج سرب السياسة ضاربًا بكل الوصايا العالمية للتعاطي مع الفيروس عرضَ الحائط، وأخذ فيسبوك الاتجاه ذاته حين حذف منشورين لترامب أيضًا. فهل نرى دولة الكويت تتخذ إجراءات مشابهة للحد من الشائعات، أم أن دعوة لمثل هذا الأمر تعني أن يتدنى سقف التعبير والحريات المتدني أصلًا؟

بدرية صلاح