من أين يأتي العسل؟
من أين يأتي العسل؟ من النحلة. حسنًا، هذا صحيح بالطبع. لكن الأمر ليس بهذه البساطة.
تبدو عملية إنتاج العسل، للوهلة الأولى، بسيطة وخالية من أي تعقيد. فرؤيتنا المستمرة لأوعية العسل المتراصة في المحلات وفي بيوتنا، تجعل من فهمنا لعالم النحل أمرًا يكاد يكون صعبًا. لكن، وكغالبية العمليات التي تُديرها الطبيعة، فإن عملية إنتاج العسل معقدة ومليئة بالتفاصيل.
من آلاف أنواع النحل الموجودة في عالمنا، نوع واحد يأتي في الطليعة: «Apis Mellifera» أو (نحلة العسل). واحدة من أهم الحشرات على سطح الأرض، ربما الأهم على الإطلاق. ولولا تلقيحها مزروعاتنا لاختفى ثلث غذائنا.
أول ما يلفت الانتباه في هذه النحلة أن جسمها بالكامل مغطى بالشعر، ما يزيد من قدرتها على جمع حبوب اللقاح. وبينما تجمع اللقاح والرحيق، لتعود بهما إلى الخلية وتبدأ صنع العسل، فإنها تخصب الأزهار التي تنتج غذاءنا. تلقح النحلة كل شيء تقريبًا: التفاح والبرتقال والتوت والشمام والفراولة والبصل والخيار وغيرها من الخضراوات والفواكه الأخرى، بمعدل ثلاثة أرباع ما نتغذى عليه من النباتات تقريبًا.
نظام اجتماعي صارم
ينقسم سكان مستعمرة النحل إلى ثلاث فئات: الملكة والعاملات والذكور. لكل مستعمرة ملكة واحدة هي العضو الأقوى. تأتي الملكات من اليرقات التي تختارها النحلات العاملات، وتغذيها لتصبح ملكة ناضجة جنسيًّا.
في بداية حياتها، تكون وظيفة العاملة تغذية اليرقات وإزالة النحل الميت، وإنتاج الشمع ومعالجة الرحيق الجديد، وإطعام الملكة وصنع العسل.
تتغذى كل اليرقات، في بادئ الأمر، على ما يسمى «الهلام الملكي»: ما نعرفه باسم «غذاء ملكات النحل». لكن هذا يتغير بعد عدة أيام بالنسبة إلى النحلات المقدر لهن أن يكن عاملات. إذ يتغير الهلام إلى خليط من اللقاح والعسل يسمى «خبز النحل». أما النحلة المختارة لتكون ملكة، فتتغذى طيلة حياتها على الهلام الملكي.
تضع الملكة نحو ألف بيضة في اليوم الواحد. تنمو البيوض غير المخصبة لتصبح ذكورًا، أما المُلقحَة، فأمامها احتمالان: إما تكبر اليرقة لتصبح ملكة، وإما تنضم إلى مجموعة العاملات.
يبدأ دور النحل الذكر وينتهي بعملية التزاوج. ومقارنة بعمل النحلات العاملات في المستعمرة، لا يبذل الذكور أي جهد، إذ يمثلون عبئًا. وتقتصر وظائفهم على تبريد المستعمرة عند ارتفاع درجة الحرارة أو تدفئتها بتوليد الطاقة في الشتاء عن طريق تحريك أجنحتهم.
العاملات هن قوام المستعمرة، والمصدر الرئيسي والمباشر لصنع العسل. تتعدد الأدوار التي تلعبها العاملة في الخلية، لكن تحديد وظيفة كل نحلة عاملة يكون بناءً على المرحلة العمرية.
في بداية حياتها، تعمل العاملة مربية، وظيفتها تغذية اليرقات وإزالة النحل الميت من الخلية تجنبًا للأمراض، وإنتاج الشمع ومعالجة الرحيق الجديد، وإطعام الملكة وصنع العسل والمحافظة عليه.
أما النحلة الأكبر سنًّا، فتجمع الموارد الضرورية للحياة في المستعمرة، وتحرس الخلية من شروق الشمس حتى غروبها تقريبًا.
خلية النحل واحدة من أكثر التجمعات تعقيدًا. فالنحلة قادرة على التواصل من خلال «الفيرمونات»، وهي مواد كيميائية تصدرها مراكز معينة في أجسام النحل، تُسهل التواصل في ما بينهم. وكذلك عن طريق اختلاف أنماط رفرفة الأجنحة والحركة وسرعتها.
أجساد مصممَّة لغرض واحد
يتكون جسم النحلة العاملة من ثلاثة أقسام أساسية: رأس و صدر وبطن. توجد على قمة الرأس أجهزة استشعار تستجيب للمس والرائحة، ولديها خمس عيون: ثلاث مُركبة واثنتان بسيطتان وحساستان للضوء على قمة الرأس.
تمتلك النحلة حاسة شم قوية وشديدة التعقيد. فمثلًا، تستطيع حارسة الخلية أن تميز كل من يدخل أو يخرج عن طريق الشم. والنحلة قادرة على معرفة الحالة الصحية للملكة من رائحتها فقط. ولديها لسان يشبه الماصة، وظيفته سحب الرحيق من الزهرة إلى فمها، وتستخدم الفك السفلي للقتال وتشكيل الشمع وتقطيعه، ولقطع الزهور بهدف الحصول على الرحيق.
يوجد على صدر النحلة جناحان وثلاثة أزواج من الأرجل. تستخدم أرجلها الأمامية لتنظيف قرون الاستشعار، أما الخلفية، فتحتوي على أمشاط لجمع حبوب اللقاح ونقلها إلى السلال لتخزينها حتى عودة النحلة إلى الخلية.
في أحسن حالاتها، تنتج خلية النحل الواحدة أكثر من خمسين كيلو من العسل سنويًّا.
يحتوي البطن على معدتين، واحدة لتخزين العسل، حيث يمكن الاحتفاظ بثلث وزن جسم النحلة عسلًا. وفي آخر البطن توجد إبرة النحل، الإناث فقط من يملكن هذه الإبر.
يمكن للنحلة العاملة أن تلدغ مرةً واحدة في حياتها، لأنها تترك الإبرة وجزءًا من البطن في جسد الضحية عند لدغها. لكن ملكة النحل الوحيدة التي تتمكن من أن تلدغ مرارًا، لكنها لا تحتاج إلى القتال، فهي لا تغادر الخلية إلا بصحبة السرب.
قد يهمك أيضًا: الأغلبية تقرر: ديمقراطية النحل والقرود
إنتاج العسل
في أحسن حالاتها، تنتج خلية النحل الواحدة أكثر من خمسين كيلو من العسل سنويًّا، ويتطلب هذا جهدًا مضنيًا من النحلات العاملات. يأتِي العسل من رحيق الأزهار، لكن صورته الأولى ليست هي التي يصل بها إلينا.
عندما تجد النحلة مصدرًا جيدًا للغذاء، تُقحم رأسها فيه مُستخدمةً لسانها لسحب الرحيق بالتدريج إلى معدتها المخصصة لتخزين العسل. يمكن للنحلة الواحدة أن تشرب رحيق أكثر من ألف زهرة، لتملأ معدتها بالعسل مرةً واحدة. بعد أن تمتلئ معدتها وتأخذ طريق عودتها إلى الخلية، تبدأ إنزيمات الهضم عملها في تحويل الرحيق إلى السائل الذهبي المألوف، لكن لا يكون عسلًا مكتمل الجوانب، إذ لا يزال 70% منه ماءً.
تصل النحلة بسلامٍ إلى الخلية، فتفرغ رحيقها في فم نحلة عاملة زميلة، ومن فم الأولى إلى ثانية، ثم ثالثة وخامسة وعاشرة، وهكذا.
تمثل سلسلة التفريغ جزءًا مهمًّا من عملية صنع العسل: كل نحلة تشارك بإنزيمات الهضم خاصتها لتحوِّل سلسلة السكريات الموجودة في الرحيق الخام إلى سكريات أحادية بسيطة، مثل «الفركتوز» و«الجلوكوز». هذه العملية تحديدًا هي التي تجعل امتصاص العسل سهلًا وسريعًا عندما نتناوله.
يخرج الرحيق من هذه المرحلة ثخينًا أكثر من حالته الأولى، لكن لا يزال سائلًا. تصب النحلات الرحيق في الخلية سداسية الأبعاد، وتحرك أجنحتها لتصنع تيارًا داخل الخلية، وأخيرًا تُغطيها بشمع العسل حتى يتسنى للرحيق الغني بإنزيمات الهضم أن يتحول إلى عسل، وهو الغذاء الذي يجمعه النحل للشتاء، حينما لا يصبح رحيق الأزهار متوفرًا.
النحل مخلوق متطور ومدهش، ليس فقط بسبب إنتاجه العسل أو بنيته الاجتماعية المنظمة، لكن بسبب أخلاقيات العمل الداخلية. تطير عشرات الآلاف من العاملات في سرب واحد ما يقرب من الدوران حول الأرض ثلاث مرات، وتحط على ثمانية ملايين زهرة تقريبًا لإنتاج رطل واحد من العسل، أو ما يعادل زيارة خمسة آلاف زهرة، لصنع ملعقة واحدة من العسل.
يتطلب هذا الإنتاج تنظيمًا إعجازيًّا ولغةً للحوار والتفاهم. لغة جسد النحلات العاملات، أو رقصاتهن تحديدًا، الطريقة التي يخبرن بها بعضهن عن أماكن الغذاء. ببساطة شديدة، تشير الرقصة الدائرية إلى أن الأزهار المليئة بالغذاء موجودة في محيط الخلية، وقدر الذبذبة يُشير إلى المسافة.
لماذا خلايا سداسية بالتحديد؟
يُشير العلماء إلى أن النحل ذكي لدرجة أن بإمكانه حساب الزوايا وإدراك كروية الأرض. هناك عبقرية رياضية خاصة بالنحل، تتجسد في أصغر جزء من مستعمرة النحل، ألا وهو «الخلية سداسية الأبعاد». لماذا قررت غالبية أنواع النحل أن تشكل خلاياها بشكل سداسي؟
لا تُمثل الخلية مأوى النحل للبقاء على قيد الحياة فقط، بل يستخدمونها لتخزين العسل. وبما أن أهمية الخلية مضاعفة بالنسبة إليهم، فيتوجب عليهم أن يتقنوا التصميم الهندسي للخلية.
الطبيعة هي التي قررت الشكل الأنسب لخلية النحل، أو ربما ببساطة، الفيزياء.
إذا فكرنا مثل النحل، فإنهم يحتاجون إلى مكان آمن للمجموعة، وآخر لتخزين الرحيق حتى ينضج ويتحول إلى عسل. هذا يعني أنهم بحاجة لكل إنش من الخلية. الحل الأمثل هو تقسيمها إلى وحدات صغيرة: غرف للمعيشة ومخازن للرحيق.
الخطوة المهمة التالية بالنسبة إلى النحل، هي تحديد المادة التي تُصنع منها هذه الخلايا. مادة الشمع إحدى المواد التي يستطيع النحل إنتاجها عبر غدد خاصة في جانبي البطن. لكنها في نفس الوقت، تتطلب كثيرًا من الوقت والعمل. فلصنع ثلاثين جرامًا من الشمع، يجب أن يستهلك النحل مئتي جرام من العسل. لذلك، فهو مادة لا يمكن إهدارها.
ليكون التصميم الهندسي مثاليًّا، لا بد من تحقيق التوازن بصنع أكبر مساحة للتخزين بأقل كمية من الشمع. أي شكلٍ يمكن أن يحقق هذه المعادلة؟ ربما تجيب بأن الشكل الأمثل حتمًا هو الدائرة. لكن إذا رسمنا دوائر متجاورة، فستلاحظ مشكلةً في التصميم: يوجد فراغات بين الخلايا، ما يعني إهدارًا للمساحة والشمع في آنٍ واحد.
الطبيعة هي التي قررت الشكل الأنسب لخلية النحل، أو ربما ببساطة، الفيزياء. فالدوائر المتجاورة قد تذوب وتتلاصق لتتحول إلى أشكال سداسية في النهاية. لكن رياضيًّا، بحساب مساحات الشكل المثلث والمربع وسداسي الأضلاع، يتبين أن الأخير يوفر المساحة الأكبر للتخزين.
تَكوُّن أقراص العسل المدمجة لتصبح علامة النحل المسجلة، هو ربما نتاج تجارب وأخطاء وقع النحل فيها بمرور فترات طويلة من تاريخ التطور.
مريم ناجي