قصة الإعدام عند العرب من التكليب والتوسيط والسلخ حتى «المشنقة الرحيمة»
«حكمت المحكمة بالإعدام شنقا»، جملة اعتدنا سماعها عند النطق بحكم الإعدام على مذنب أو مدان، وتجعلنا نتساءل: لماذا يتم الإعدام شنقًا؟ وهل عرف العرب طُرقًا أخرى للإعدام؟ ومتى اعتمدوا المشنقة وسيلةً للإعدام؟
تاريخ الإعدام في الإسلام
يخبرنا كتاب «30 طريقة للموت: تاريخ وسائل الإعدام في العالم» للكاتب ميشيل حنا أن للمشنقة جذورًا قديمة في المنطقة العربية، فقد عرفتها الإمبراطورية الفارسية التي حكمت أغلب مناطق الشرق العربي قبل الإسلام، واستخدمها حكام مصر قبل الميلاد مع السحرة ومنتهكي الحرمات المقدسة والمتآمرين ضد الفرعون، وكذلك القتلة والحانثين باليمين.
المنطقة العربية، بلغتها وحدودها المعروفة اليوم، تكونت حضاريًّا بعد مجيء الإسلام وانتشاره منذ 14 قرنًا أو يزيد، انطلاقًا من شبه الجزيرة العربية، حيث يسيطر العرب المسلمون على تلك المنطقة وغيرها باسم قانون الشريعة الإسلامية.
خلال عهد النبي والخلفاء الراشدين، كان الإعدام يتم بضرب الرقاب بالسيف.
لا يوجد مصطلح الإعدام في الشريعة الإسلامية، وإنما «القصاص» هو التعبير الإسلامي الذي استُخدم في عهود الدولة الأولى، وهناك جرائم حدد الإسلام عقوبتها بقتل المذنب.
يقول الباحث القانوني حاتم فهمي لـ«منشور» إن الشريعة الإسلامية لم تحدد طريقة للإعدام، لكن القصاص يوجب قتل الجاني بنفس الطريقة التي قَتل بها، باستثناء لو كانت الطريقة التي ارتكبت بها الجريمة محرمة، فيُضرب عنقه بالسيف، والاستثناء عند أغلب فقهاء الإسلام كان في عقوبة الرجم حتى الموت للزاني المُحصَن.
لكن الطريقة المعهودة في الدول الإسلامية، خصوصًا خلال عهد النبي محمد والخلفاء الراشدين، كانت ضرب الرقاب بالسيف، وهي الطريقة التي لا زالت متَّبعة في المملكة العربية السعودية حتى اليوم، وتتم بشكل علني، ولم يُعرف الشنق في صدر الإسلام وعهد الخلفاء الراشدين كوسيلة للإعدام، كما يوضح فهمي.
متى استخدم العرب المسلمون المشنقة؟
لا يبدو أن العهد الأموي (21 - 132 هـ) شهد حوادث شنق. يروي أستاذ القانون الجنائي المصري الدكتور عماد الفقي، خلال حديثه مع «منشور»، أن العهد الأموي كان قريب الصلة بصدر الإسلام، وكذلك كانت الدولة الأموية ذات ثقافة عربية بحتة، والشائع عند العرب هو قطع الرقاب بالسيف، ثم يتساءل: متى بدأ العرب استخدام المشنقة إذًا؟
عرفت الدولة العربية الإسلامية وسيلة الشنق في الإعدام من أمم غير عربية بدءًا من الدولة العباسية، وكان الشنق وسيلة للتنكيل بالمذنب، لا إعدامه فقط.
الدولة العباسية (132 - 922 هـ، 750 : 1517 م)
في الدولة العباسية، استُخدم الشنق للإعدام جنبًا إلى جنب مع وسائل أخرى، ويبدو أن تأسيس الدولة في بلاد فارس واعتمادها على الفرس في إدارة شؤونها كان السبب وراء ذلك، وجاء في كتاب «تاريخ التراث العربي»، ما يدل على ذلك، إذ يحكي أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ثار ضد الدولة العباسية في مهدها، عام 127 من الهجرة (747 من الميلاد)، وبعد نجاح دعوته بشكل محدود في بلاد فارس، أُلقي القبض عليه في الكوفة وأُعدم شنقًا.
وفي زمن المأمون (198 - 218 هـ، 813 - 833 م)، نشأت حركة «الخرمية» المتمردة على الدولة العباسية في بلاد فارس، ولم تستطع حملات المأمون القضاء عليها، ثم نجح الجيش في عام 837 من الميلاد خلال عهد المعتصم في تدميرها، وأُسر بابك الخرمي، الذي نُسبت الحركة لاسمه، واقتيد إلى سامراء في العراق حيث يقيم المعتصم، وهناك صُلب وشُنق، بحسب ما ذكره عبد الله حنا في كتابه «القضية الزراعية والحركات الفلاحية في سورية ولبنان».
اقرأ أيضًا: الرئيس المعتصم والخليفة بوش: هل يروي التاريخ الحقيقة أم وجهات النظر؟
دولة الأندلس
حرَّم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أكل «الملوخية»، وشنق كل من وُجدت عنده.
عرفت بلاد الأندلس، التي لم تخضع للدولة العباسية، الشنق كوسيلة إعدام كذلك، لكن في زمن متأخر. فحين غزا المرابطون العرب بلاد الأندلس، التي كانت تحكمها الطوائف بعد انهيار الحكم الأموي، ثار الناس على الوزير اليهودي جوزيف بن ناغريللا، وشنقوه عام 1090 من الميلاد في غرناطة، كما تؤكد دراسة الباحث والمؤرخ العراقي «توما شماني».
وجاء في كتاب «وتذكروا من الأندلس الإبادة» لأحمد رائف أن الشنق كان ضمن العقوبات التي أوقعها الملوك المسيحيون على المسلمين بعد انهيار الحكم العربي هناك، ممَّا يدل على أن الشنق كان ضمن وسائل الموت التي عرفتها الأندلس.
كل الإمبراطوريات الإسلامية التي جاءت بعد ذلك اعتمدت الشنق، فيروي كتاب «مورد اللطافة فيمن ولي السلطنة والخلافة»، ليوسف بن تغري بردي وجمال الدين أبو المحاسن، أن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله كانت له أحوال غريبة، حتى أنه حرَّم على الناس أكل «الملوخية»، وشنق كل من وُجدت عنده ليجعلها حكرًا على الأمراء.
الدولة الأيوبية والمملوكية والعثمانية
كذلك توسعت الدولة الأيوبية (1174 - 1250 م)، التي أقيمت على أنقاض الدولة الفاطمية، في الشنق. ويحكي الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه «تغليق التعليق على صحيح البخاري» أن الصالح نجم الدين أيوب، سابع سلاطين الدولة الأيوبية، شنق نائب دمياط ومعه 50 أميرًا، لخروجهم منها دون إذنه خلال حربه مع الصليبيين في الشام.
حوادث الشنق كثيرة في دولة المماليك (1250 - 1517 م)، ومنها ما جاء في كتاب «المختصر في أخبار البشر» لأبي الفداء عماد الدين إسماعيل، حين أمر السلطان سيف الدين قطز بشنق مَن تعاونوا مع المغول، بعد انتصاره في معركة عين جالوت ودخوله دمشق.
وفي الدولة العثمانية طُبِّق الشنق على نطاق واسع، وربما كانت أشهر حالاته ما فعله السلطان العثماني سليم الأول حين دخل القاهرة، عاصمة المماليك، وشنق السلطان المملوكي طومان باي على باب زويلة عام 1517 م، بحسب ما حكى ابن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور».
ومن حوادث الشنق الشهيرة في الدولة العثمانية إقدام جمال باشا، حاكم بلاد الشام الملقب بالسفاح، على إعدام نخبة من المثقفين العرب من مختلف مدن سوريا ولبنان، بعد أن لفق لهم تهمًا بالتآمر على الدولة، وفق ما ذكرت مصادر عديدة، منها كتاب «جمال باشا السفاح: دراسة في الشخصية والتاريخ» لنعيم اليافي.
دولة محمد علي وبدء تقنين الشنق
كان الشنق قبل محمد علي يُستخدم لإهانة المشنوق.
تأسست دولة محمد علي في مصر عام 1805، وتمددت جنوبًا حتى منابع النيل في إثيوبيا، وشمالًا حتى تركيا، وضمت الشام والحجاز. وخلال حُكم محمد علي، تم تقنين الشنق جنبًا إلى جنب مع «التغريق» و«الصلب» ووسائل أخرى للإعدام، لكن الشنق كان الوسيلة الأساسية، إلا لو كان المحكوم عليه ينتمي طبقة راقية في المجتمع، فكان عنقه يُضرب بالسيف أو يُعدم بوسيلة أقل إهانة، بحسب ميشيل حنا.
يؤكد كلام حنا ما جاء في كتاب «ذكرى البطل الفاتح إبراهيم باشا»، الذي أصدرته الجمعية الملكية للدراسات التاريخية في مصر، وقدَّم له الدكتور عبد الرازق السنهوري، إذ أشار إلى أن محمد علي أمر بشنق من يثبت أنه تقاضى رشوة من موظفي دولته.
ويشير عماد الفقي إلى أن الشنق أصبح تقريبًا هو الطريقة المعتمدة للإعدام في أغلب البلدان العربية، وبدأ هذا التقنين بشكل واضح في عهد محمد علي، منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، حتى أصبح واقعًا في أغلب تشريعات الدول العربية، وتعتمده مصر والأردن وسوريا وسلطنة عمان والكويت والعراق ولبنان، فيما تختلف ليبيا والبحرين، التي تنفذ الإعدام رميًا بالرصاص.
قد يهمك أيضًا: بين الإعدام الجسدي والمعنوي: عواقب الإلحاد في القوانين العربية
كان الشنق قبل محمد علي يُستخدم لإهانة المشنوق، بحسب الفقي، فكان الحكم ينفذ أمام أعين الناس بعد تكبيل يدي وقدمي المذنب، ولذلك كانت أغلب حوادث الشنق بدافع انتقامي من السُّلطة ضد الخارجين عليها أو السياسيين المعارضين أو العلماء أو المثقفين.
أهلًا بكم في غرفة الإعدام
يشرح ميشيل حنا في كتابه طريقة الشنق، فيوضح أنها تطورت عبر العصور، بدءًا من ربط حبل غليظ حول رقبة الضحية وتعليقه إلى شيء مرتفع، كالشجرة مثلًا، إلى أن صار لها شكل حديث لا يجعل المحكوم عليه يتألم كثيرًا خلال التنفيذ.
داخل غرفة الإعدام، يوجد جزء خشبي مكون من ضلفتين هما سقف غرفة صغيرة تحتها، وفوقها حبل المشنقة المصنوع من خيوط كثيفة غليظة قوية من الحرير والكتان، تتدلى من سقف مثبتة فيه.
بعد إحكام ربط المشنقة على رقبة المحكوم عليه بالإعدام، تُفتح الضلفتان من تحت قدميه، فيتدلى جسده إلى الغرفة التي تحت الضلفتين، وحينها تضغط الحبال على شرايين عنقه من الطرفين، ممَّا يؤدي إلى نقص وصول الدماء إلى دماغه، وكذلك تكسر المشنقة إحدى فقراته العنقية، فيموت بفعل الانضغاط الوعائي والعصبي خلال فترة تستغرق من أربع إلى خمس دقائق، لكن المحكوم عليه يفقد الوعي بعد ثانية واحدة من فتح الأرض تحت قدميه.
وسائل إعدام أكثر قسوة
ربما كان الإعدام بالمشنقة لإهانة المشنوق أكثر رحمةً من وسائل أخرى عرفها العرب، واستخدموها ضد المغضوب عليهم من قبل السُّلطات الحاكمة في الدول الإسلامية المتعاقبة، ومنها:
الخازوق
يقول ميشيل حنا إن الإعدام بالخازوق يتم بإجلاس المذنب على عصا خشبية قوية مدببة، تدخل من فتحة شرجه وتخرج من فمه.
عُرفت تلك الوسيلة في عهد المصريين القدماء، فقد كان القانون في عهد حورمحب ينص على عقاب السارق بألف جلدة، وتصل العقوبة إلى الإعدام على الخازوق، بحسب حنا، الذي يوضح أن الفرس استخدموا الوسيلة ذاتها، إذ أعدم الملك الفارسي داريوس الأول ثلاثة آلاف من البابليين العراقيين على الخازوق بعد أن احتل مدينتهم.
نقلت الدولة العثمانية هذه الطريقة عن العراقيين وتوسعت فيها، وكان الحاكم يدفع للجلاد الماهر مكافآت كي يحافظ على المذنب حيًّا لأطول فترة على الخازوق إمعانًا في تعذيبه، وفقًا لميشيل حنا.
الحرق
أعدم صلاح الدين الأيوبي الفيلسوف الصوفي السهروردي حرقًا بتهمة الزندقة.
يخبرنا ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» أن الخليفة العباسي المقتدر بالله أعدم المتصوف الشهير الحسين بن منصور الحلاج حرقًا، بعد أن اتُّهم بادعاء النبوة والربوبية. يقول ابن الأثير: «كتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوى إليه فأذن في قتله، فسلمه الوزير إلى صاحب الشرطة فضربه ألف سوط فما تأوه، ثم قطع يده ثم رجله ثم يده ثم رجله، ثم أحرقه بالنار، فلما صار رمادًا أُلقي في دجلة ونُصِب الرأس ببغداد».
كذلك كانت نهاية الفيلسوف والأديب أبو عبد الله بن المقفع، صاحب «كليلة ودمنة»، الذي أُعدم بأمر من الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، بسبب هجائه والي البصرة سفيان بن معاوية بشكل حاد. ويحكي ابن الجوزي في كتابه «المنتظم في تاريخ الملوك والأمم» أن سفيان بن معاوية أمر رجاله فأحضروا ابن المقفع مكبَّلًا، ثم نصبوا فُرنًا وأخذوا يقطعون أعضاءه ويلقونها في النار حتى مات.
وأمر صلاح الدين الأيوبي بإعدام الفيلسوف الصوفي شهاب الدين عمر السهروردي حرقًا بتهمة الزندقة، بحسب كتاب «فلسفة الوجود عند السهروردي: مقاربة في حكمة الإشراق» لمحمد حسين بزي.
قد يعجبك أيضًا: تجديد الخطاب الديني؟ لا، جُدِّد قبل 200 عام بدعم غربي
العصر
أمر السلطان المملوكي قنصوه الغوري رجاله بالقبض على شموال، اليهودي الصيرفي، واستخرج منه فوق خمسمئة ألف دينار كان يخفيها، ثم أمر بعصره هو وزوجته، فوُضعا بين كماشتين من الحديد حتى ماتا، عقابًا لهما على إخفاء الأموال، كما يذكر ابن إياس في «بدائع الزهور في وقائع الدهور».
الكلاليب (الصَّلب)
الصلب من الأساليب التي استُخدمت في الإعدام خلال العهد المملوكي، فيقول ابن إياس إنه في عام 912 من الهجرة قتلت جارية سوداء سيدتها وابن سيدتها وأخا سيدتها، فلما عُرضت على السلطان قنصوه الغوري أمر بقطع يدها، وشُهِّرت في القاهرة ثم كُلِّبت، وعلقت عند خوخة المغازليين في المكان الذي قتلت فيه سيدتها حتى ماتت.
التوسيط
يُشطر جسم الضحية خلال هذه الطريقة بالسيف إلى جزأين بالعرض من منتصف الجسم، وشاعت هذه الوسيلة في العصر المملوكي كذلك، ويخبرنا ابن إياس أنه في عام 693 من الهجرة، «تولى الأمير بيبرس الجاشنكير عقوبة بعض الأمراء، وصار يقررهم على من كان سببًا في قتل الأشرف خليل (السلطان السابق). ثم رسم الأمير كتبغا بقطع أيديهم وأرجلهم، وسُمِّروا على الجمال وطافوا بهم في القاهرة، ثم وسَّطوهم في سوق الخيل».
ويقول ابن إياس كذلك إن السلطان الشاب الناصر محمد بن قايتباي «عرض المحابيس فأطلق منهم جماعة، وأمر بإتلاف سبعة أنفار من المفسدين كانوا معهم في السجن، ثم أدخلوهم إلى الحوش فوسَّطهم بيده، وعلَّمه المشاعلي كيف يوسط، ثم قطع أيديهم وآذانهم وألسنتهم بيده، والمشاعلي يعلمه كيف يصنع».
السلخ
يذكر ابن إياس أن السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون أمر بتنفيذ الإعدام بالسلخ: «في سنة 903 من الهجرة قُبض على إنسان زعموا أنه ينبش القبور على الموتى ويسرق أكفانهم، فأمر السلطان الناصر بسلخ وجهه وهو حي، فسلخوه من رأسه إلى رقبته، وأرخوه على صدره، وصار عظم رأسه ظاهرًا، وطافوا به في القاهرة ثم علقوه على باب النصر، واستمر معلقًا إلى أن مات».
ويشير كذلك إلى أنه في عام 909 من الهجرة، «أحضر كاشف الشرقية (الوالي) في مصر أحد أولاد شيخ العرب ابن قرطام، يسمى صالح، وهو من بني حرام، فسلخ جلده وحشاه تبنًا، وأركبه على فرسه، وألبسه زمطة على رأسه، وألبسه كبرة حرير، وكان شابًّا جميل الهيئة، فتأسف عليه الناس».
لم تكن وسائل الإعدام في الدول الإسلامية المتعاقبة تخضع للقانون، بل لهوى الحاكم، خصوصًا إذا كان المحكوم عليه بالإعدام من الذين تبغضهم السُّلطة، وكلما كان الشخص مكروهًا من الحاكم، كان إعدامه أكثر إهانة وقسوة.
محمد حسين الشيخ