«دراسات المرأة»: تاريخ الصراعات الداخلية للحركة النسوية

هبة نجيب مغربي
نشر في 2017/03/08
الصورة: sdominick

حتى لو لم تكن قرأت من قبل كتابًا عن الفكر النسوي، فلعلك صادفت مصطلح «الحركة النسوية» على الإنترنت أو سمعت عنه من قبل، وهو مصطلح يثير الجلبة عادةً ويكثُر حوله الخلاف.

ربما تندهش من معرفة أن هذا الجدل ليس سببه طبيعة الفكر النسوي بذاته، بل وجود شقاق داخلي وتَمزُّق الحركة بين أكثر من توجُّه، وقد تسبب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للنقاش بين أعضاء الحركة النسوية في بروز هذا الخلاف إلى السطح.

ماذا تعرف عن «دراسات المرأة»؟

«دراسات المرأة» مبحث أكاديمي ظهر في سبعينيات القرن العشرين، يحاول تفسير العلوم الاجتماعية والإنسانية والفنون من منظور نسوي. تعتقد الكاتبة «إيرين فاندرهوف» (Erin Vanderhoof)، في مقال لها على موقع Broadly، أن هذه الحدة في الخِلاف كانت مصاحبة للحركة النسوية منذ زمن طويل، وقد استمر تاريخ الشقاق المصاحب لنشأة وتطور «دراسات المرأة» منذ بدايتها حتى اليوم حين انتقلت النقاشات إلى صفحات فيسبوك وتويتر.

وتسعى الكاتبة لإجابة سؤال يُلِحُّ على الحركة النسوية: هل يمكن اعتبار هذا الشقاق الداخلي المستمر ظاهرة إيجابية، أم يجب العمل على التخلص منه؟

من أين بدأ خِلاف النسوية؟

الصورة: Martin Schulz

شهد واحد من أوائل مؤتمرات دراسات المرأة عام 1973 بداية مضطربة، فحسب المقال، واجه المؤتمر كثيرًا من النقد، وحكم عليه كثير من المشارِكات بالفشل قبل حتى أن يُنهِي أعماله.

من بين الاتهامات التي وجَّهتها المشارِكات إلى القائمات على تنظيم المؤتمر أنهن همَّشن كثيرًا من الفئات، مثل النساء من الأعراق الأخرى، والنساء المثليات، وتجاهلن التفاوت في الطبقات الاجتماعية التي تأتي منها المهتمَّات بالقضية حين حدَّدن رسوم اشتراك في المؤتمر قدرها أربعة دولارات، وهو مبلغ لم يكُن قليلًا آنذاك، وكذلك استبعدن كثيرًا من الأمهات بسبب شكوى البعض مما يسببه الأطفال من إزعاج.

«شعرتُ بالاغتصاب الفكري لدى سماع حديث مورغان»، هكذا عبَّرَت إحدى المعترضات عن رأيها في حديث المناضلة النسوية المعروفة «روبن مورغان» (Robin Morgan) الحماسي، الذي كانت تصف فيه كيف أنها مستعدة لبذل قصارى جهدها لإقصاء الرجال عن محاضراتها.

كان «الانشقاق» بين المشاركات يعكس فجوة آخذة في الاتساع في بدايات الحركة النسوية، وهي فجوة ستصبح من العلامات المميزة للحركة بمرور العقود.

لكن ما السبب الحقيقي في هذا «الشقاق»؟ ترى الكاتبة أن مُنظِّمات المؤتمر كُنَّ سيدات يؤمِنَّ بأن بناء ثقافة المرأة وإعادة تعريف الأنوثة يجب أن يكونا الهدفين المحوريَّين للحركة، أي إنهن كُنَّ من أنصار الحركة النسوية الثقافية، في حين كانت المعارضات يؤمِنَّ بأن الاشتراكية وحدها هي ما يمكن أن يوفِّر شروط تحرير المرأة, وهؤلاء كُنَّ النسويات الاشتراكيات.

كان البعض يؤمن بالتقدم المدروس، في حين يؤمن البعض الآخر بالتغيير الجذري والتعبير القوي عن الوجود. البعض يؤمن بتغيير الفكر والعاطفة، في حين يؤمن البعض الآخر بتغيير القوانين.

اقرأ أيضًا: فاليري سولانيس: الراديكالية الساحرة التي أرادت عالمًا بلا رجال

الدائرة تتسع

الكاتبة النسوية «فرانس هاو» - الصورة: JenniferBaumgardner

كانت الكاتبة النسوية «فرانس هاو» تحُث طالباتها على الكتابة عن حياتهن وتجاربهن بانفتاح.

في الوقت الذي بلغ فيه الخلاف ذروته، كانت «دراسات المرأة» لا تزال في مهدها كمفهوم وكمجال أكاديمي. وتعود فكرة أن تاريخ المرأة مجال يستحق الدراسة إلى منتصف ستينيات القرن العشرين، عندما أقام عدد من المنظمات السياسية الجريئة محاضرات حول هذا الموضوع في المدارس المجانية التابعة للنشطاء اليساريين.

أثمر هذا جلساتٍ تهدف إلى زيادة الوعي، فكانت النساء يجتمعن لمناقشة موضوعات التمييز الجنسي في المجموعات السياسية التي ينتمين إليها، ثم تطور الأمر في نهاية المطاف إلى مناقشة الأمر على مستوى العالم عمومًا.

انتقلت المناقشات بعدها إلى الدوائر الأكاديمية من خلال الدورات الدراسية، مثل دورة الكتابة الإنشائية التي كانت تدرِّسها «فلورنس هاو» (Florence Howe). وكان منهج الدورة الدراسية ينصبُّ على كتابات النساء حول حياة المرأة، وحثَّت هاو الطالبات على الكتابة عن حياتهن وتجاربهن بانفتاح.

تقول هاو عن تجربتها مع طالباتها: «لم يكن هدفي سياسيًّا، بل كنت أرغب في تحفيزهن ﻷلَّا يكتبن نثرًا أجوَف».

وتقديرًا للعمل الذي قدمته هاو لبدء حركة جديدة في الأوساط الأكاديمية، كانت هي المتحدثة الرئيسية في مؤتمر الساحل الغربي لدراسات المرأة.

كيف استفادت النسوية من الخلاف؟

غلاف عدد ربيع 1972 من مجلة «Ms» - الصورة: Liberty Media for Women, LLC

قد ينهار عديد من الحركات تحت وطأة صراع مثل الذي ظهر مع الأعمال الختامية لمؤتمر دراسات المرأة لعام 1973، لكن النسويات الأكاديميات سعَيْن لأن يجعلن ذلك الجدال بنَّاءً ومثمرًا.

كانت بداية السعي بإبراز أهمية الصراع الشديدة، فبعدما أعلنت هاو انتهاء الجلسة، توجهت بالشكر إلى المعارضات على دورهن في توسيع آفاق الحوار، وقررت مُنظِّمات المؤتمر نشر كتاب عن نصوص الفاعليات، ليتسنى لأنصار الحركة النسوية المستقبليين تَعلُّم كيفية التعامل مع الانقسامات الأيديولوجية.

بعدها أصبح مبحث دراسات المرأة مجتمَعًا للخبراء ومهدًا لاحتضان الأفكار النسوية، حتى عندما واجهت الحركة السياسية تراجعًا في أواخر السبعينيات، واستبعادًا فعليًّا في عهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان في الثمانينيات.

شهدت بدايات سبعينيات القرن العشرين أيضًا ازدهار الموجة الثانية من الحركة النسوية في ظلِّ عديد من التغيرات المجتمعية حولها، فقد تأسست مجلة «مِس» (Ms) في نهاية عام 1971 ونشرت أول عدد لها في عام 1972، ومُرِّر تعديل القانون الذي يمنع التمييز الجنسي في التعليم في يونيو 1972، وكذلك شرَّعت المحكمة العليا بالولايات المتحدة الإجهاض في شهر يناير 1973.

بدأ أول برنامج لدراسات المرأة في ولاية سان دييغو الأمريكية عام 1970، واليوم يشهد هذا المجال الأكاديمي ازدهارًا قويًّا، وهو على الأرجح أحد أحدث المجالات الأكاديمية التي تتمكن من تحقيق مكانة راسخة في الجامعات الأمريكية.

ووَفْقًا لإحصاءات أعدَّتها الرابطة الوطنية لدراسات المرأة في عام 2007، يبلغ عدد برامج دراسات المرأة في الولايات المتحدة نحو 650 برنامجًا، وحسب المركز الوطني لإحصاءات التعليم، فإن عدد درجات البكالوريوس في دراسات المرأة والأنواع والدراسات العرقية والطائفية (التي قُيِّمت معًا في هذه النتائج) تضاعف أكثر من ثلاث مرات بين عامَي 1970 و2014.

قد يهمك أيضًا: أسئلة شائعة عن النسوية

الإنترنت يعمِّق خلاف النسويات

الصورة: Breakingpic

على مدار ثمانينيات القرن العشرين، ومع تطور نظرية الحركة النسوية، كانت المؤلِّفات غالبًا ما يكتبن ردودًا قاسية على المقالات التي يقرأنها. ورغم اختلافهن في الرأي، فقد كان بعضهن يقرأ أعمال بعض لشحذ الحجج التي يستخدمنها. ثم جاء عصر الإنترنت الذي نقل هذا الحوار ومعه الخلاف إلى آفاق جديدة، وكان هذا اﻻنتقال نعمة ونقمة في الوقت نفسه.

من ناحية، ساعدت هذه النقلة على تحقيق أهداف مؤتمر الساحل الغربي لدراسات المرأة؛ إذ توسعت آفاق الحوار ليصل إلى أولئك اللائي لا يمكنهن الحصول على درجة جامعية أو سداد رسوم الاشتراك في المؤتمرات (بينما يمكنهن الدخول إلى الإنترنت)، لكن من ناحية أخرى، أتاح هذا التحول المجال لتفاقم بعض أسوأ المشكلات، مثل الصراخ والخلاف والانقسام، بطريقة لم يتخيلها أحد.

تَجلَّى هذا الصراع في الحرب التي اندلعت على تويتر عندما كتبت «غلوريا جين واتكينز» (Gloria Jean Watkins)، الشهيرة باسم «بيل هوكس» (Bell Hooks)، مقالًا نقديًّا عن ألبوم المغنية الأمريكية بيونسيه (Beyoncé) الذي يحمل اسم «Lemonade» في مايو 2016.

قالت هوكس إن الألبوم، الذي احتفى به كثيرون بوصفه منتجًا ثقافيًّا مصنوعًا بالكامل للنساء السود، ليس إلا «تجسيدًا حيًّا لأسلوب الرأسماليين في جمع الأموال»، ولم يتمالك كثير من النسويات من مُحِبَّات بيونسيه أنفسهن، وأخذن يصرخن أمام شاشات كمبيوتراتهن في رفض تامٍّ لتلك الاتهامات، وهن في حالة من الذعر لأن واحدة من أبطالهن أثارت الشكوك بشأن بطلة أخرى.

كان صراع النسويات الأُولَيات يستند إلى أساس من التهذيب والكياسة، ولكن المسافات التي قلَّصَتها التكنولوجيا جعلت مناصرات الحركة النسوية يتناسين أن اختلاف الرأي لا يمثل تهديدًا حقيقيًّا للحركة، ولكن فقدان الشغف بالقضية هو التهديد الحقيقي الذي يتربَّص بها.

لماذا علينا جميعًا أن نكون نسويين؟

من الصعب تخيُّل هذا الأمر الآن، لكن في بداية سبعينيات القرن العشرين كانت الحركة النسوية تبدو مثل موضة أو هوس عابر تخيل كثيرون أن مآله إلى زوال، وقد ساعدت الصراعات حول تحديد هُوية الحركة على إبقاء شعلة اهتمام الباحثين والنشطاء متَّقدة حتى اليوم.

الآن، لا يزال علينا الانتظار لنرى ما إذا كان ذلك الاستعداد لتقبُّل تعدُّد وجهات النظر سوف ينتقل تدريجيًّا إلى التيَّارات الفكرية السائدة أم لا.

هبة نجيب مغربي