فكر مرتين: ترددك في محله
في خريف 2007، كانت شعبية رئيس الوزراء البريطاني «غوردون براون» كاسحة، فقد تعامل ببراعة مع سلسلة من الكوارث القومية خلال فترة ولايته الأولى، وكان يستعد لخوض انتخابات لتجديد ولاية حكومته، لكنه تراجع وقرر تأجيل الانتخابات. ساعتها وُصِم بالتردد، وبدأت سلطته في الانهيار، ولم يخلِّف ما فعله انطباعًا بالحصافة السياسية في رأي الناس، بل بالحيرة والضعف والتردد.
في ثقافتنا الحالية، ليس للتراجع أو التردد سمعة حسنة، سواء في الأمور البسيطة كالتباطؤ في اختيار وجبة من ضمن قائمة مأكولات بالمطعم، أو التراجعات المفاجئة للسياسيين عن قراراتهم.
في المقابل، نربط في أذهاننا بين القرارات الحاسمة والكفاءة ونولِيها احترامًا كبيرًا، حتى أن كتبًا شهيرة تمجِّد الإسراع في اتخاذ القرار، وتحاول إقناع القراء بأن القرارات المتخذة سريعًا جدًّا يمكن أن تكون بذات جودة القرارات المتخذة بعد طول تمعُّن وتفكير، ومن أمثلتها كتاب مالكوم غلادويل «Blink» الصادر عام 2005.
لكن ماذا لو كانت نظرتنا إلى الأمر مغلوطة؟ ماذا لو كنا قد سمحنا لجاذبية خادعة بإغوائنا وسط عالم متسارع لا يترك لقاطنيه فرصة التروي؟ ماذا لو كان التراجع أو التردد رد فعل تطوري مفيد في بعض السيناريوهات، طورته أدمغتنا لحمايتنا من الندم الناتج عن أخطاء القرارات المتسرعة؟
يحاول مقال منشور على موقع «Aeon» إجابة هذه الأسئلة.
التدفق بخفة تجاه كل ما هو سهل
دعنا نحلل الأُسُس التي تدفعنا إلى اتخاذ قرارات سريعة، وأولها المصطلح المشهور في عرف الطب النفسي بـ«الطلاقة»، ويعني السلاسة التي تعالِج بها عقولنا المعلومات.
من المعروف أن هذه السلاسة تؤثر في تقديرنا للأشياء، فعلى سبيل المثال، يحكم الناس على التصريحات الفصيحة الواضحة بأنها أشد صدقًا، وعلى الأشياء المريحة للعين بأنها أكثر جاذبية. وقد اكتشف العالمان النفسيان «آدم آلتر» و«دانيال أوبنهايمر»، في بحث لهما، أن الشركات ذات الأسماء سهلة النطق يكون سعر أسهمها أعلى من غيرها إذا تساوت كل العوامل الأخرى للمقارنة، ما يعني أن المعالجة السلسة للمعلومات تدفع الناس إلى إعطاء قيمة أكبر للشركة.
في حالة عازف بيانو أمضى عُمرًا يتدرب، تكون للسلاسة اليد الطولى، لكن في المواقف الجديدة علينا، هل تسبب السلاسة ضررًا؟
للسلاسة تأثير أيضًا في شعورنا بالثقة في القرارات التي اتخذناها، ففي اختبارات الذاكرة، لو كانت لبعض المحفزات ألوان أشد سطوعًا، يشعر الشخص بثقة أكبر في إجاباته، رغم أن احتمالات صحتها لم تزد شيئًا.
السلاسة تؤثر كذلك في قدرة الناس على التحكم في قراراتهم. أجرى «ستيفان فليمنغ» و«دوريت وينك» و«باتريك هاغارد» دراسة عن مدى تأثير السلاسة في شعور الشخص بالتحكم في قراراته.
صمم الباحثون الثلاث نموذج أسئلة، مع إضافة سهم يومض للحظة خاطفة بجوار الإجابة الصحيحة، وتأكدوا في تجربة سابقة أن المشتركين لا يدركون وجود هذا السهم بشكل واعٍ. وكانت النتيجة زيادة سرعة اتخاذ القرار عندما كان السهم يشير في اتجاه الإجابة الصحيحة، وتباطؤ المشترك في اتخاذ قراره عندما كان السهم يشير في عكس اتجاه إجابته.
اكتشفت الدراسة أيضًا إحساس المشتركين بتحكم ذاتي أكبر في تلك القرارات السريعة السلسة التي أكدها لهم سهم لم يدركوا وجوده.
قد يهمك أيضًا: التدفق: وصفة الإنسان الخارق
يطلق «ميهالي سيكسزنتميهالي»، أستاذ علم النفس والإدارة في جامعة كلاريمونت للدراسات العليا الأمريكية، على الشعور بالثقة والتحكم المصاحب للقرارات السلسة مصطلح «التدفق». وفي بعض الأحيان، كما في حالة عازف بيانو أمضى عمرًا يتدرب على عزف مقطوعة موسيقية، تكون للسلاسة اليد الطولى، فتأتي ومعها الدقة. لكن في المواقف الجديدة علينا، ألا يمكن أن تسبب لنا هذه السلاسة أضرارًا؟
نظرية التقاط الإشارات
لإجابة هذا السؤال، علينا أن ننحرف عن موضوعنا قليلًا، ونذكر بحثًا أُجري في نهاية الحرب العالمية الثانية.
كان مهندسون يعملون على تحسين حساسية أجهزة الرادار، وسجلوا نتائجهم في ورقة علمية تحوي بعض العمليات الحسابية والإحصائية الجديدة عن تشتت الهدف وقوة النبضة وما إلى ذلك. لكن ما لم يتخيلوه حينها أن يكون للنظرية التي استنتجوها، «نظرية التقاط الإشارات»، تأثير هائل في علم النفس الحديث، إذ اهتم العلماء في ستينيات القرن الماضي بتطبيق هذه النظرية من أجل فهم الالتقاط البشري للإشارات، أي التعامل مع العقل البشري كجهاز رادار صغير، تُطبّق عليه المعادلات ذاتها لفهم أدائه.
عند تطبيق هذه النظرية على البشر، تخبرنا أن عملية اتخاذ القرارات ضوضائية. فمثلًا، إذا طلبتَ من شخص اختيار الدائرة الأكثر سطوعًا من بين دائرتين، تؤدي كل تنويعة جديدة في درجة سطوع الدائرة إلى استثارة الخلايا العصبية في القشرة البصرية، وهي المنطقة المسؤولة عن الرؤية في الدماغ. ولأن درجة الاستثارة لا تكون هي نفسها مع كل تكرار للمحفز، تكوِّن العينان والدماغ نظامًا ضوضائيًّا، ما يعني أنه يحتمل وجود مستويات مختلفة من النشاط في الوقت نفسه.
المعتاد أنه عندما يكون أحد المحفزات أكثر سطوعًا، تطلق القشرة المخية إشارات أكثر مما لو كان أقل سطوعًا. لكن في بعض التجارب، تؤدي الدوائر المعتمة إلى إطلاق إشارات عالية، وهذا لوجود ضوضاء عشوائية في النظام، أي أن المخ يرتبك عند اضطراره لاتخاذ قرارات سريعة متتابعة.
نستنتج من هذه النظرية أنه لا سبيل أمامك للتعامل مع العالم الخارجي إلا عبر استثارة خلايا قشرتك العصبية. وإذا كانت الاستثارة عالية، ستختار الدائرة التي قررها دماغك الضوضائي، حتى لو كانت الدائرة الخطأ، فلا مجال أمامك لتخطي تلك الإشارة.
أو هذا ما كنا نظنه، حتى جاء «آلان تورينغ» وكشف الغطاء عن حيلة ينتهجها العقل لتخطي تلك العقبة.
شفرات ملغزة، لكن الحل قادم
القيمة التي نعطيها للاختيارات تتغير، وتتعرض لتقلبات عشوائية تؤدي إلى تغير القرار من لحظة لأخرى.
كان آلان تورينغ، عالم الرياضيات البريطاني، مسؤولًا عن فك الشفرات خلال الحرب العالمية الثانية في مَجمَع «بليتشلي بارك» السري. كان محللو الشفرات يبدؤون يومهم بتجربة إعدادات جديدة على آلة إنِّغما الألمانية، محاولين فك شفرات الرسائل التي تم اعتراضها، لكن واجهتهم مشكلة تحديد المدة الملائمة لتجريب زوج معين من الشفرات قبل تركه وتجربة غيره.
وضّح تورينغ أنه بمراكمة عينات كثيرة من المعلومات، بمرور الوقت، تزيد ثقة محللي الشفرات في صحة أحد الإعدادات.
من المذهل اكتشاف أن الدماغ يفعل الأمر ذاته، فيستخدم طريقة مراكمة الأدلة من أجل التعامل مع القرارات الصعبة. وقد صرنا نعرف حاليًّا أنه لفعل هذا لا يعتمد على إشارات القشرة المخية البصرية وحدها، بل تشارك أجزاء أخرى من الدماغ كالقشرة الجدارية، بدمج عينات معلوماتية متعددة بسرعة بالغة قبل التوصل إلى قرار، أي مراكمة المعلومات من خبرات سابقة لاستخدامها في التعامل مع السيناريو الجديد.
بالنظر إلى هذه المكتشفات معًا ندرك فائدة البطء في اتخاذ القرارات. وبتطبيق معادلات تورينغ عند التعرض لسيناريو جديد لم نمر به من قبل، نجد أنه كلما كان اتخاذ القرار أبطأ، كان أكثر دقةً وأقل عُرضةً للضوضاء، ويُعرف هذا في علم النفس بـ«تبادلية السرعة والدقة».
بدأت الأبحاث مؤخرًا في الكشف عن دائرة من الوصلات العصبية بين القشرة المخية ومنطقة في المخ تُدعى «النواة تحت المهاد»، تتحكم في إبطائك لاتخاذ القرارات عند مواجهة اختيار صعب، كأن هذه القاعدة العصبية تلعب دور «مكابح» مؤقتة، تزيد من وقت اتخاذ القرار لتسمح لمزيد من الأدلة بالتراكم، وبالتالي التوصل إلى قرار أفضل.
بالإضافة إلى هذا، اقترح «دانيال ماكفادين»، عالِم الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، نظرية عن الاختيار استلهمها من نظرية التقاط الإشارات، فكرتها الرئيسية أن القيمة التي نعطيها للاختيارات تتغير هي الأخرى، وتكون مُعرّضة لتقلبات عشوائية، وهذه التقلبات تؤدي إلى تغير القرار من لحظة إلى أخرى.
خلال عشرات الأجزاء من الملي ثانية بعد ضغط الزر الخطأ، تبدأ العضلات المتحكمة في الإجابة الصحيحة بالانقباض لتصحيح الخطأ.
في دراسة حديثة أجراها فريق من الباحثين بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا من أجل العثور على علامات هذا التراكم للقيمة، طلبوا من المشتركين الاختيار بين أنواع من الوجبات الخفيفة، كالبطاطس المقلية والبسكويت. وخلال كل تجربة، كانت شاشة الكمبيوتر تعرض عنصرين فقط على جانبيها، وتسجل حركة عين المشارك.
ورغم أن القرارات كانت تُتّخذ في ثوانٍ معدودة، فإن التجربة بيّنت الكثير، فعندما كان الاختيار صعبًا وكلا العنصرين يبدو شهيًّا، تنقلت العين بين العنصرين مرات أكثر من مرات حركتها عندما كان الاختيار سهلًا. وهكذا، يكشف تقلبنا بين الاختيارات عن مراكمة الأدلة من أجل اتخاذ القرار النهائي، ويبين أن التقلب ليس أمرًا سيئًا، بل علامة سلوكية خارجية تكشف عن تقييم الدماغ للأدلة الخاصة بكل اختيار.
توضح تبادلية السرعة والدقة أنه قد تنتج عواقب وخيمة عن السرعة في اتخاذ القرارات، فالقرارات السريعة غالبًا ما تصاحبها أخطاء، ويأتي الندم بعد ذلك.
إذا أُجبرنا على اتخاذ قرار بسرعة، فربما لا تكون عملية مراكمة الأدلة قد اكتملت. وبمجرد أن تكون عضلاتك قد انقبضت وضغطت زر إرسال بريد إلكتروني عاجل، يكتمل تراكم ما يكفي من الأدلة ليوعز إليك بأن ما أرسلته لم يكن فكرة جيدة. وقد وصف «إيان ماك إيوان» هذا الإدراك التدريجي للندم في روايته «Atonement»، حين يستولي على أحد شخصيات الرواية الرعب واليقين بأن الخطاب الذي أرسله إلى حبيبته لم يكن ما يعتزم إرساله حقًّا، مع توالي التداعيات بطول الرواية.
المقصود أن أفعالنا تنفصل أحيانًا عن نوايانا، مما يكشف عن ارتباط وثيق بين مراكمة الأدلة والتردد وتصحيح الخطأ.
وتؤكد التجارب العلمية هذه الفكرة، ففي تجربة لاتخاذ قرار بين خيارين بسيطين، تتحكم كل يد في خيار واحد، تبيّن أنه خلال عشرات الأجزاء من الملي ثانية بعد ضغط الزر الخطأ، تبدأ العضلات المتحكمة في الإجابة الصحيحة بالانقباض لتصحيح الخطأ. وفي تأكيد لهذه الظاهرة، صار موقع «Gmail» يقدم لمستخدميه فترة سماح مدتها 30 ثانية، يمكن خلالها إلغاء إرسال البريد الإلكتروني الذي سبق إرساله.
يعني هذا أنه يمكن حدوث استجابة قبل استكمال دوائر القرار لمراكمة الأدلة الكافية. ومع ذلك، بعد لحظات، بعد أن يكون قد تراكم ما يكفي من الأدلة، قد ندرك أننا فعلنا شيئًا لم يكن ينبغي فعله.
تأكيدًا لهذه الفكرة، أجرى عالما الأعصاب «لوسي تشارلز» و«ستانيسلاس دهين» دراسة في مركز نيوروسبين في باريس، وضّحت أنه عند اتخاذ المشارك لقرارات خطأ تحت ضغط، يمكن ملاحظة علامة عصبية للاستجابة التي كان يعتزم فعلها لكنه لم ينفذها بالفعل.
يبدو من هذا أن جزءًا من عقلك يعرف ما كان ينبغي عليك فعله، حتى إذا كنت قد اخترت بسرعة شديدة فوّتت عليك اتخاذ القرار الصحيح. وعلى العكس من هذا، إذا منحت عقلك وقتًا كافيًا، تعمل النية والفعل معًا بتناغم يقلل من فرص حدوث الندم.
القواعد الإرشادية للتردد
التحلي بشيء من التردد قد يكون ما نحتاج إليه في عالم مربك ومتسارع ومزدحم بالاختيارات.
الأمر سهل بالنسبة إلى القرارات البسيطة التي لا تستغرق وقتًا طويلًا، كإرسال بريد إلكتروني أو اختيار نوع السّلَطَة في وجبة الغداء:
- عليك بالسماح بوجود شيء من التردد في حياتك، لأن القرارات تكون أدق إذا منحت عقلك مزيدًا من الوقت للتعامل معها.
- لا تنظر إلى شعور التصارع الذي يعذبك بين خيارين كأمر سيئ، فهو طريقة الدماغ لإبطاء الأمور من أجل اتخاذ قرار أفضل.
- تعلّم أن لا تتجاهل أو تقمع تغيير الرأي الذي يحدث بعد إتيانك بالفعل، لأنه الطريق الذي يسلكه دماغك، باستخدام كل المعلومات المتاحة لتصحيح الأخطاء خلال عملية محكومة بوقت قصير.
لكن بالنسبة إلى القرارات الكبيرة والحقيقية، فالأمر أكثر تعقيدًا بالطبع، ولا تزال دراسات علم الأعصاب لعملية اتخاذ القرار في بداياتها.
قدرة البشر على محاكاة المستقبل داخل عقولهم، ومجادلة أنفسهم وموازنة الأفكار، تجعل تلك القرارات معقدة ومرهقة للغاية.
لكن دعنا نضع في اعتبارنا أن القرارات الأهم هي الأصعب لأنها تثير حالة كبيرة من التردد. وكما قلنا عن تلك الأوقات، وتبعًا لفهمنا الحالي للتوازن الدقيق بين دوائر اتخاذ القرار داخل عقولنا، فالاقتراح هو أنه يجب أن لا نغمض أعيننا ونختار ما تمليه علينا شجاعة مؤقتة وغير محسوبة.
ورغم ما قاله الفيلسوف الأمريكي «ويليام جيمس» في كتابه «Habit»، من أنه «لا يوجد من هو أكثر بؤسًا من إنسان لا يملك عادةً سوى التردد»، فإن التحلي بشيء من التردد قد يكون ما نحتاج إليه، في عالم مربك ومتسارع ومزدحم بالاختيارات.
سارة العناني