«أنا شكو روحي المخفر»: كيف نواجه التحرش في العمل؟
«أنا شكو روحي اشتكي بالمخفر»، هكذا تجاوب أحد الوزراء مع شكوى لموظفة إثر تعرضها للتحرش من قبل مديرها في العمل. رفض التجاوب معها وقبول شكواها، ونصحها بالتوجه إلى قسم الشرطة لأنه غير معني بهكذا شكاوى.
ظاهرة التحرش في بيئة العمل منتشرة عالميًا، ففي عام 2017 انتشرت حملة «أنا أيضًا» في الولايات المتحدة الأمريكية لإدانة المخرج السينمائي «هارفي واينستين» في اتهامات الاعتداء والتحرش الجنسي التي وجهتها عشرات النساء إليه. هذه الحملة شجعت النساء في جميع أنحاء العالم على الحديث عن الاعتداءات الجنسية التي تعرضن لها، والإبلاغ عن المتحرشين وفضحهم في أوساط عملهم ومواقع التواصل الاجتماعي.
ورغم الانتشار الكبير للتبليغ عن المتحرشين وفضحهم في وقتنا الحالي، لا يعني هذا أنها ظاهرة مستحدثة، فالفارق هنا أن هناك تحولًا ثقافيًا كبيرًا في العالم، وفهمًا أكبر للحقوق، وإمكانية أكبر للحديث بحرية عن قضايا كانت تعد من المحرمات.
وفي ظل تأثير التحول الثقافي وحقيقة أن نساء المنطقة أصبحن أكثر دراية بحقوقهن، ومع وجود تحركات فردية من ناشطات في مواقع التواصل الاجتماعي للتوعية حول قضية التحرش وفضح المتحرشين، إلا أن سياقنا الاجتماعي يختلف بالتأكيد عن السياق الغربي في هكذا قضايا، فضحية التحرش هنا لا تستطيع في كثير من الأحيان التبليغ أو حتى فضح المتحرش في أوساط مواقع التواصل الاجتماعي. وتعود الأسباب إلى أنه لا توجد قوانين محلية واضحة تجرم التحرشات في بيئة العمل كما هي موجودة في الغرب، ولا توجد أي وسيلة لحماية الضحية بعد التبليغ من التعرض للعنف من المتحرش مجددًا، كما أن هناك فروق وحدود للحرية واختلاف في الوصمة الاجتماعية وثقافة العيب والفضيحة.
ما هو التحرش في بيئة العمل؟
بحسب الاتفاقية رقم 190 لمنظمة العمل الدولية بشأن القضاء على العنف والتحرش في العمل، يعرَّف التحرش بأنه «نطاق من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، والتي تهدف وتؤدي، أو يحتمل أن تؤدي، إلى إلحاق ضرر جسدي أو نفسي أو جنسي أو اقتصادي، وتشمل العنف والتحرش على أساس النوع الاجتماعي»، ويتضمن هذا التنمر والمضايقة، وغيرها من الأمور.
هناك مفاهيم تبدو ضبابية لكثيرين، وهناك صعوبة في فهم الفرق بين الإطراء وسياقاته والتحرش. واحد من أسباب هذه الضبابية هو البيئة التي نشأ فيها الشخص، والتي من الممكن أن تكون مضطربة ولها مفاهيم مغلوطة عن كلا الجنسين، وعن السلوكيات المقبولة في إطار محيطه العائلي.
تقول الكويتية هدى (اسم مستعار) لـ«منشور»: «كنت أعمل مع إحدى منظمات المجتمع المدني، وتواصلت مع مدير التسويق والرعايات بإحدى الشركات الكبرى لطلب رعاية مالية لإحدى فعالياتنا. أخذ رقم هاتفي الخاص بحجة المتابعة وتنسيق الاجتماعات، وبدأ يرسل لي رسائل نصية يصف فيها جمال وجهي وعينيّ ونقاء بشرتي ونعومتها، وكيف أن شعري وقوامي لا يغيبان عن باله. نهرته وقلت له إن هذا الكلام غير مهني وغير لائق، وإنه يعد تعديًا على مساحتي الشخصية، لكنه أنكر ذلك وقال إن العكس هو الصحيح، فهذا غزل ومدح للجمال. كان من المفترض بعدها أن نتقابل في اجتماع لتحديد ما نحتاجه من الرعاية، لكني تخوفت من الذهاب وأرسلت زميل لي، لكن المفاجأة أنه لم يستقبله، وأخبرته سكرتيرته أنه مشغول».
سألناها عما إذا اتخذت أي إجراء بشأن ذلك، فقالت: «كنت صغيرة ولم تكن لدي الجرأة لمواجهة أهلي لأنهم لن يتفهموا الموقف، خصوصًا أنهم كانوا معترضين على فكرة عملي مع منظمات المجتمع المدني، وخفت أن يمنعوني من العمل أيضًا».
واحدة من بين كل أربع نساء تعرضت للتحرش الجنسي داخل بيئة العمل، و81% من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18-34 عامًا تعرضت للتحرش اللفظي.
من المهم فهم السياق والفرق بين العلاقات الخاصة وعلاقات العمل، ففي العلاقات الخاصة من المقبول نسبيًا الإطراء والمدح إلى حد معين، وهذا تحدده عمق العلاقة بين الطرفين، ويكون منبعه الأساسي الاحترام وعدم توقع رد فعل سلبي من الطرف الآخر. أما علاقة العمل فمن المفترض أن تكون مهنية ومحددة في إطار العمل، خصوصًا إذا كانت علاقة هرمية فيها عدم توازن للقوى، ويمكن أن يستغل فيها الطرف الأقوى صلاحياته للسيطرة أو الإجبار أو الابتزاز.
كيف يمكننا تحديد أشكال التحرش؟
يمكن أن يكون للتحرش عدة أشكال، منها التحديق الذي يتسبب في المضايقة، والتعامل المتودد غير المنطقي أو غير المرغوب فيه، وعدم احترام المساحة الخاصة أو الاقتراب الجسدي الشديد، والأسئلة التي تتضمن معلومات شخصية مثل الحالة الاجتماعية والميول الجنسية، واستعمال تعليقات ذات إيحاءات جنسية، وإرسال رسائل نصية تتضمن إيحاءات جنسية، وإجراء اتصالات هاتفية في وقت متأخر من الليل، والدعوات الملحة لموعد غرامي، وصولًا إلى حالات أكثر انتهاكًا مثل اللمس والتحسس ومحاولة الاغتصاب.
كلها سلوكيات مؤذية للضحية، غير أنها تصرفات دنيئة ولا أخلاقية من المتحرش نفسه، وتضع عبئًا نفسيًا ثقيلًا على الضحية، لتحمل دناءة هذا الشخص بسبب الاحتكاك اليومي في بيئة العمل، ويترتب عليها الشعور بالإذلال والمهانة والتعرض للاكتئاب، مما يعيق أداءها الوظيفي، ويسيء إلى سمعتها بسبب وصمة العار داخل نطاق العمل، وشعورها بالخزي تجاه نفسها، إذ لا يُنظر إلى كفاءتها أو خبرتها، بل يُنظر إليها كأداة للجنس فقط، ووسيلة لتحريك غرائز وخيالات مريضة.
لكن، هل النساء وحدهن يتعرضن للتحرش؟
الثقافة العامة عن التحرش في مجتمعنا تُحمل الضحية مسؤولية التحرش بها، مع أن السبب الرئيسي في التحرش هو المتحرش نفسه.
التحرش يمكن أن يكون من ذكر لأنثى، ومن أنثى لذكر، ومن ذكر لذكر، ومن أنثى لأنثى. وفقًا تقرير لجنة تكافؤ فرص العمل الأمريكية، فان واحدة من بين كل أربع نساء تعرضت للتحرش الجنسي داخل بيئة العمل، و81% من النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 18-34 عامًا تعرضت للتحرش اللفظي، وواحد من بين كل عشرة رجال تعرض للتحرش الجنسي داخل بيئة العمل.
وتؤكد الإحصائيات التي توفرها الأمم المتحدة واتحاد النقابات العمالية الدولي، أن 77% من الإناث يتعرضن للتحرش في أفريقيا، و45-55% في أوروبا، و30-50% في أمريكا اللاتينية، و30-40% في آسيا ومنطقة المحيط الهادي.
تنميط الدور الاجتماعي
الثقافة العامة عن التحرش في مجتمعنا تُحمل الضحية مسؤولية التحرش بها، مع أن السبب الرئيسي في التحرش هو المتحرش نفسه. تُلام الضحية بناء على لبسها أو مظهرها، أو حتى مجرد قبولها بالعمل في مكان يوجد فيه رجال، أو لطبيعة عملها لساعات متأخرة ليلًا.
عوضًا عن وضع قوانين صارمة تحاسب المتحرش، تبعد القوانين الحالية المرأة بكل بساطة عن المشهد كله.
يرتبط التحرش في بيئة العمل ارتباطًا مباشرًا بالشكل النمطي للدور الاجتماعي، إذ أنه من المتوقع من المرأة أن تكون عاطفية وخجولة، ويتمحور جل اهتمامها حول جمالها وشكلها الخارجي، بينما يتوقع من الرجل أن يكون قويًا وواثقًا وعنيفًا ومتحكمًا في المرأة. هذا التنميط جعل المرأة في السابق تُحصر في وظائف محددة تكون النسبة الأكبر في محيطها من النساء، مثل التعليم والتمريض، وجعلها أيضًا تخجل وتخاف من التبليغ عن تعرضها للتحرش خوفًا من الوصم، أو لأنها بكل بساطة لا تعلم أن ما حدث انتهاك لها ولمساحتها الشخصية.
تنميط الدور الاجتماعي واحد من أهم الأسباب الجذرية في قضية التحرش في بيئة العمل، فهناك قوانين وسياسات تمييزية مبنية على هذا المبدأ، مثل المادة 22 من قانون العمل في القطاع الأهلي في الكويت، والتي تنص على حظر المرأة من العمل لساعات متأخرة. والمادة 23 التي تنص على تحديد وظائف معينة للذكور فقط، بذريعة أنها تتطلب قوة جسمانية معينة وتحمُّل ظروف قاسية، مثل بعض التخصصات الهندسية في القطاع النفطي. ويُحظر تشغيل المرأة أيضًا في الأعمال الضارة بالأخلاق والتي تقوم على استغلال أنوثتها بما لا يتفق مع الآداب العامة. هذه القوانين تمنع النساء من التمتع بكامل حقوقها الإنسانية والحريات الأساسية، مثل حق اختيار الوظيفة والاشتراك في المجال الاقتصادي، وتمنعهن كذلك من حرية الاختيار، وتقرر عنهن ما يناسب طبيعتهن ويلائمها.
هذه القوانين تسهم في حل مظاهر قضية التحرش في بيئة العمل لا جذورها. فعوضًا عن وضع قوانين صارمة وواضحة تحاسب المتحرش، فإنها تبعد المرأة بكل بساطة عن المشهد كله، وكأنها توثق تنميط الدور الاجتماعي، وتقول بشكل غير مباشر إن وجود المرأة في مكان العمل هو سبب قضية التحرش في بيئة العمل، وهذا حكم خاطئ، لأن من المحتمل أن يتعرض الرجل أيضًا للتحرش في بيئة العمل كما ذكرنا سابقًا.
عدم توازن القوى
عدم توازن القوى وانعدام المساواة بين المرأة والرجل واحد من أهم أسباب التحرش في العمل، فهناك طرف يتمتع بامتيازات تفرضها المجتمعات البطريركية، وتتمثل في الفرص والحقوق الاقتصادية والسياسية التي يتمتع بها الرجال لمجرد كونهم ذكورًا، بينما لا يتمتع الطرف الآخر وهن النساء بذات القدر والامتيازات لمجرد كونهن إناثًا.
عندما نتحدث عن ضحايا التحرش، نتحدث عن المرأة الكويتية والكويتية البدون، والتي لها وضع قانوني استثنائي يسهل ابتزازها وتهديد أمنها الوظيفي.
من الممكن أن يحدث التحرش في علاقات العمل الأفقية بين الزملاء، لكنه غالبًا ما يقع في العلاقات الهرمية، إذ أن المتحرش شخص ذو سلطة أعلى، يستغل سلطته ويساوم الضحية على الوظيفة أو الترقية أو أي امتيازات وظيفية أخرى، أو حتى على إنهاء الخدمة، وبالتالي تخضع الضحية لسلطته خوفًا على مستقبلها الوظيفي.
بطبيعة مجتمعاتنا، كونها مجتمعات بطريركية، فإن الشخص ذا السلطة غالبًا ما يكون رجلًا، قد يكون مديرًا أو مسؤولًا أو دكتورًا جامعيًا، أو حتى رب أسرة، فضحايا التحرش في بيئة العمل يمكن أن يكونوا موظفين/موظفات أو طلبة/طالبات أو من العمالة المنزلية.
تقول الكويتية ريم (اسم مستعار) لـ«منشور»: «تعرضت للتحرش وأنا طالبة في الجامعة من قبل المعيد، وللأسف سكت لأني أريد اجتياز المادة من غير مشاكل. تعرض لي أكثر من مرة، وحين يصادف أن يمر طالب أو طالبة في المكان نفسه يتوقف ويمضي. بعد هذا، صرت قبل تسجيل أي مادة أتأكد من عدم وجود اسم هذا المعيد، مما تسبب في تأخير تخرجي لمدة فصل دراسي كامل بسببه». سألناها عما إذا اتخذت أي إجراء أو شكوى، فقالت: «كنت أمر بظروف صعبة إثر وفاة والدتي رحمها الله وشعرت بعدم الأمان. من سيصدقني؟ من سيقف معي؟ التزمت الصمت».
عندما نتحدث عن ضحايا التحرش، لا نتحدث عن المرأة الكويتية فقط، وإنما الكويتية والكويتية البدون، والتي لها وضع قانوني استثنائي يسهل ابتزازها وتهديد أمنها الوظيفي.
عن تجربتها، تحكي نادية (اسم مستعار) من الكويتيين البدون لـ«منشور»: «أعمل في شركة خاصة تستورد بعض المواد من الخارج، ومن قوانين الشركة الغريبة التي فيها نوع من الاستغلال المشين: فرض طريقة لبس وتحدث معينة لجذب العملاء بصورة مقززة. وأيضًا عند إجراء المعاملات الخارجية يحرص المدير على أن نتوجه إلى الرجال دون النساء، وأن نرضى بكل ما يبدر منهم من تصرفات أو كلمات فيها تحرش وتعدٍ علينا، لتسهيل الإجراءات وتسريع تنفيذها».
وتضيف: «بمجرد علم سكرتير المدير التنفيذي أني بدون وأنتمي لقبائل الشمال، بدأ بتبادل المصطلحات والنكات المسيئة بحجة محاولة كسر الحواجز والتقرب مني، باعتراف شخصي منه. تقتضي طبيعة العمل في الشركة التواصل مع زملائي عن طريق واتساب للأمور الضرورية، وعلى الرغم من التزامي في أوقات التواصل معهم وحرصي على أن تكون في أوقات مبكرة، فإن البعض يستغل هذا للتواصل معي في أمور لا تخص العمل، مع تعليقهم على لبسي وشكلي، ومشاركة عبارات غزلية لا تليق بالزمالة التي بيننا».
إضافة إلى هذا، تقول نادية: «عند تبادل الأوراق مع أحد الزملاء، تجده يحرص على لمس يدي بطريقة غريبة، مع تعليقه على نعومة أظفاري، وفي بعض الأوقات كان يتجاوز مساحتي الشخصية ويضع يده على كتفي بطريقة مريبة».
بعد سلسلة المواقف الغريبة هذه، وعندما توجهت نادية بالشكوى إلى مسؤولتها، طلبت منها السكوت لأن وضعها حرج، ولأنها قابلة للاستبدال في أي لحظة نظرًا لكونها بدون وفي فترة التجربة.
تقول هبة (اسم مستعار) لـ«منشور»: «عندما كنت في التاسعة عشرة من عمري، أردت أن أتقدم للعمل في عيادة تجميلية، فأرسلت سيرتي الذاتية، وكان من ضمن المطلوبات إرفاق صورة شخصية. اتصل بي دكتور العيادة وقال: "أنا أعجبت بك وسأعطيك نوعًا مميزًا من العمل، تكونين فيه بس معاي من غير أي تعب، وراتبك يكون ألف دينار". لم أفهم لصغر سني حينها ماذا كان يعني بـ"بس معاي". وبعد أن فكرت في الموضوع فهمت أنه يستغل البنات لأغراض جنسية، خصوصًا المقيمات والبدون، لظروفهن وحاجتهن للعمل».
تضيف: «رفضت طلبه في الحال، فعاد بعد شهر للتواصل معي، أخبرني أن رفضي لعرضه زاده تمسكًا بي وإعجابًا بغروري وثقتي بنفسي، حتى أنه عرض علي أن يجري لي عمليات تجميل بالمجان شريطة أن أوافق. كثير ما تعرضت لهكذا مواقف، ما أن يعلم البعض أني بدون حتى يظن أنه من المسموح أن يتعدى على مساحتي الشخصية ويبدأ عرض خدماته، وأني لا أمانع نظرًا لحاجتي الماسة للوظيفة وندرة الخيارات».
تتعرض المرأة المقيمة من كل الجنسيات لكل ما سبق، وبالأخص الفئات المستضعفة منهن كالعاملات المنزليات، والأخيرة لها خصوصية خاصة، إذ أنها تعمل في منزل خاص وبيئة مغلقة ولا تستطيع الوصول بسهولة إلى الجهات المعنية، وإن وصلت فهناك حاجز اللغة والوصمة الاجتماعية التي تعاني منها بعض الجنسيات، إلى جانب التهديد الدائم بالابعاد.
تقول جين (اسم مستعار) لـ«منشور»: «مضى شهران على عملي في منزل إحدى الأسر الكويتية، تعرضت خلال تلك الفترة للتحرش من ابنهم البالغ من العمر 15 عامًا. في البداية كان يحدق فيَّ ويقول كلمات باللغة العربية لا أفهمها، ثم تطور الأمر وحاول أن يلمسني من الخلف، وحين ذهبت إلى المدام صرخت فيَّ ولم تصدقني. كنت أخاف أن أنام ليلًا لأن باب غرفتي لا قفل له، فالمدام كانت تمنع قفل الأبواب. بعدها طلبت أن أرجع إلى المكتب، وبعد إلحاح عدت، لكن صاحب المكتب ضربني وقال لي يجب أن أعتاد على هكذا مواقف، وأن أكف عن التصرف كالأطفال».
واجبات الدولة
يتردد الكثير من ضحايا التحرش في التبليغ عن المتحرشين خوفًا من الوصم الاجتماعي وسمعة العائلة أو القبيلة، وإذا تمكنَّ من تقديم شكوى رغم العناء الذي يتكبدنه في مواجهة المجتمع، فإنها غالبًا ما تُقابَل بالاستخفاف وعدم الجدية.
لا يوجد قانون واضح وصريح يجرم تعرض الضحايا للتحرش في بيئة العمل أو خارجها، ولا توجد آلية واضحة للتبليغ أو توفير أي وسيلة لحماية المتحرش بها داخل مكان العمل. كل هذه العوامل تحول دون توثيق أي بلاغات، وصعوبة الوصول لأي إحصائيات، وإن وُجدت فهي غير دقيقة.
غياب القوانين التي تجرم التحرش داخل بيئة العمل وعدم وجود آليات واضحة للتبليغ والتعامل مع هذه المشكلة يسهم بشكل مباشر في تفاقم عدد حالات التحرش، والذي بدوره يخلق بيئة آمنة للمتحرشين في مجتمع تضطر فيه الضحية للسكوت خوفًا من الفضيحة. المسؤولية هنا تقع على كل مؤسسات الدولة، بداية من وزارة التربية والتعليم التي من المفترض أن توفر مناهج دراسية وتعليمية تهتم بزرع قيم الاحترام والأخلاق وتعزيز فهم الحقوق الإنسانية الأساسية، مرورًا بوزارة الإعلام التي يقع عليها دور جوهري في الإسهام في الحد من التحرش، من خلال برامج توعوية تسلط الضوء على القضية وتعرَّف ماهية التحرش والآثار النفسية المترتبة عليه بالنسبة للضحية، وتأكيد ضرورة احترام بيئة العمل والحدود المهنية بين العاملين.
وصولًا إلى وزارة الداخلية التي يجب عليها تدريب أفرادها على عدم خلط المفاهيم والقيم الاجتماعية الخاصة للفرد مع الشكاوى المقدمة، وتمكين الضحية من الشكوى وتوفير الحماية لها، وبالطبع إيجاد وتفعيل قوانين خاصة بالتحرش، والتعاون مع وزارة الإعلام لتوفير برامج توعوية عن آلية التبليغ بالعديد من اللغات إضافة إلى العربية والإنجليزية، لضمان وصولها لكل فئات المجتمع. وانتهاء بدور وزارة الصحة، التي تقع على عاتقها مسؤولية توفير الرعاية النفسية والجسدية للضحايا المتحرش بهم.
أما بالنسبة لموقف الوزير والموظفة في بداية المقال، فإن المسؤولية هنا تقع على الوزير تحديدًا لأنه أعلى سلطة في الوزارة، وهو المسؤول الرئيسي عن توفير سبل الحماية لموظفيها، بداية من توقيع عقد التوظيف الذي من المفترض أن يتضمن بنودًا وإرشادات واضحة عن كيفية رفع البلاغات في حال التعرض للتحرش، ومرورًا بفرض عقوبات إدارية على المتحرش ووجود لوحات ومنشورات توعوية واضحة، وانتهاء بتوفير خط ساخن للتبليغ لمتابعة الشكوى والسير في إجراءاتها القانونية، وطرقًا لحماية الضحية من عنف المتحرش بها، وعدم تهديدها في حال علمه بالتبليغ عنه.
قضية التحرش في بيئة العمل قضية حقيقية من الواجب الاعتراف بها، والتخلص من حالة الإنكار المجتمعي لها، والتخلص كذلك من ثقافة العيب والفضيحة ووصم الضحية ولومها. لا بد من توفير قوانين واضحة ودراسات وإحصائيات دقيقة، وتطوير سياسات تعالج جذور المشكلة لا مظهرها.
هنادي الهولي