السعادة: لماذا تبدو دومًا بعيدة المنال؟

دينا ظافر
نشر في 2018/12/14

الصورة: jill111

يدق المنبه في السابعة من صباح الأحد. يستعذب أحمد إيقاع رنته اللحوح للمرة الأولى منذ فترة، فاليوم يبدأ عمله في شركة جديدة.

يهب من سريره، وفي غضون دقائق يكون جاهزًا للنزول. ورغم اعتياده الصيام عن الكلام والابتسام في الساعات الأولى من النهار، يكون هاشًّا ثرثارًا هذا الصباح. لا يشعر أنه بحاجة إلى فنجان القهوة، فالفرحة اليوم تعمل عمل الكافيين. يخطو إلى سيارته مثل ريشة تحملها النسمات، موزعًا ابتسامات مجانية على الجيران.

بعد بضعة أسابيع، يرن المنبه فيرفع أحمد يده المثقلة بالنوم من تحت الغطاء ويتحسس هاتفه، ثم ينزع بطاريته ويضربه في الحائط.

ألم يرَ في عمله الجديد تحقيقًا لسعادته؟ لماذا تبدو السعادة هدفًا مراوغًا، كلما ظننت أنك أصبته تحرك، ثم ظهر ثانية من مكان جديد؟ نحاول استعراض بعض الأسباب التي تجعلنا نظن أننا نعجز عن تحقيق السعادة.

تظن أنك ستُحلِّق فوق السحاب لو حدث المُراد؟

الصورة: Sanshiro

ربما يسهل عليك أن تكتب قائمة بالأشياء التي تسعدك لو طُلب منك ذلك. لكن هل تضمن تحقيق السعادة؟

تصوُّر ما يجلب لك السعادة في المستقبل يتطلب إعمال الخيال، وسفرًا ذهنيًّا إلى ذاتك المستقبلية. نستخدم مهارة التخيُّل يوميًّا في ممارسة «التنبؤ العاطفي»، فنتكهن بمشاعرنا في المستقبل، وعلى أساس ذلك نتخذ قرارات مهمة، مثل اختيار حبيب أو حبيبة، وأخرى يسيرة مثل البرامج التلفزيونية.

لكننا كثيرًا ما نبالغ مثلًا في تقدير السعادة التي سنحققها عند بلوغ هدف ما، نظن أن السعادة ستغمرنا أو ستدوم طويلًا عنما نتزوج إنسانًا بعينه، أو ننجب طفلًا جميلًا، ثم نُفاجأ بأن الشعور بالرضا والسعادة يتلاشى سريعًا. هل تشعر أن قطعة البسكويت لها نفس الحلاوة في فمك بعد القضمة الثالثة؟

على الأرجح ستجيب بـ«لا».

بناء على عدة دراسات، توصل «دانيال غيلبرت»، عالم النفس في جامعة هارفارد والملقب بخبير التنبؤ بالسعادة، إلى أننا كثيرًا ما نبالغ في التنبؤ بالعواقب العاطفية للأحداث.

هناك تفسير لذلك، فنحن نتخذ قراراتنا تحت تأثير مجموعة متنوعة من القوى. دون أن نعي، كثيرًا ما توجهنا عقولنا في اتجاه معين. نظن أننا نتخذ القرار بعد تمحيص وحسابات، خصوصًا في ما يتعلق بأمور مهمة مثل السكن واستثمار المال والعلاقات. لكن هناك عوامل تدخل في عملية صناعة القرار.

قرار السعادة ليس كله بيديك

الصورة: Alexas_Fotos

حدد الباحثون في مجال علم النفس عددًا من الانحيازات التي تفسد قدرتنا على التنبؤ بمدى سعادتنا في المستقبل نتيجة اتخاذ قرار معين:

  • انحياز التأثير (Impact Bias)

كثيرًا ما نغالي في توقع تأثير حدث ما، من ناحية قوة التأثير ومدته. وأحد أسباب هذا التأثير أننا نركز بشكل أكبر على الحدث المحوري، ونتغاضى عن السياق العام الذي سيحدث فيه، والذي من شأنه أن يقلل من تأثير هذا الحدث المحوري.

فمثلًا في حالة أحمد، ربما وضع كل تركيزه على الحصول على الوظيفة الجديدة، ونسي أن توليه الوظيفة يتزامن مع دفع مصروفات مدارس أبنائه وأعباء مادية أخرى كبيرة تأكل من رصيد سعادة الوظيفة.

  • انحياز الإسقاط (Projection Bias)

حين نتخذ قرارًا يخص المستقبل، نكون في «حالة إثارة» تختلف عما سنكون عليه في المستقبل. فمثلًا، لو اتخذنا قرارًا خلال الشعور بالراحة أو الشبع، نُسبغ شعورنا على القرار المستقبلي.

المتسوق الجائع يشتري كميات من الطعام أكثر مما يحتاج بالفعل. أما أحمد، ربما قَبِل عرض الشركة الجديدة في وقت تزامن معه فرحة غامرة، مثل ولادة ابنه الأول، فأسقط سعادته على قبول العرض والبدء في العمل الجديد.

  • الانحياز إلى التباين (Distinction Bias)

الانحياز إلى التباين يجعلنا نبالغ في فحص الخيارات المتاحة، والاهتمام بالفوارق بينها. المشكلة أننا نقارن بين اختيارات متعددة عند اتخاذ القرار، لكننا حين نجرب ما اخترناه، لا نقيِّم سواه.

مثلًا، حين تتسوق لشراء تلفزيون جديد، فأنت تقارن بين عدة أجهزة من أنواع وشركات مختلفة. أما حين تشاهد التلفزيون في المنزل، تقيِّم الذي اخترته وحده. حين كنت في المتجر، كان انتباهك مركزًا بشكل كبير على الفوارق الكَمية الدقيقة بين الأجهزة، وهو عامل لن يكون له أهمية كبيرة حين تشاهد التلفزيون الذي اخترته فقط.

يمكن القول إننا نجيد الاختيار لو كانت المفاضلة تقوم على الفروق النوعية. فمثلًا، نعرف أن وظيفة مثيرة أفضل من أخرى مملة. لكننا لا نمتلك القدرة على التنبؤ بسعادتنا بنفس القدر حين يتعلق الأمر بالأرقام، أو لو كان علينا الاختيار على أساس مفاضلة تتضمن فروقًا نوعية (مثل طبيعة الوظيفة) والكمية (اختلافات في الراتب) في نفس الوقت، ولعل هذا ما أفسد على أحمد اختياره.

  • انحياز الذاكرة (Memory Bias)

كثيرًا ما نبني توقعاتنا في المستقبل على أساس ذكريات لتجارب ذات صلة. غير أن الذاكرة تخطئ، فنحن نتذكر ذروة الحدث (أشد نقطة فيه) ونهايته بشكل أفضل، ولا نجيد تذكر مدته. كأن ما نتذكره مقتطفات من التجربة.

خلال تقييمه العروض واتخاذه القرار، ربما استدعت ذاكرة أحمد آخر مرة رُفض في مقابلة شخصية كانت ستحدد قبوله في الوظيفة، ما جعله يقبل العرض المتاح خوفًا من تكرار السيناريو ذاته في المستقبل لو فوَّته على نفسه، رغم أن فيه عيوبًا.

  • الانحياز الاعتقادي (Belief Bias)

لدينا نظرياتنا «غير المتخصصة» في ما يتعلق بما يسعدنا. ورغم أننا صغنا هذه النظريات في مواقف معينة، فإننا نميل إلى تعميمها على مواقف أخرى لا يصلح فيها التعميم.

مثلًا، عند المقارنة بين منتجين: أحدهما متميز والآخر أقل جودة، أو ما يُعرف بـ«تأثير التضاد»، يبدو المنتج الأقل جودة أكثر رداءة في نظرك.

بالعودة إلى أحمد، لعله كان يقارن بين عرضي عمل، أحدهما من شركة جيدة في السوق، لكنها بدت متواضعة المستوى مقارنةً بعرض آخر من شركة أخرى شهيرة.

وسط هذا الضباب، تضيع من بين أيدينا السعادة.

سعادة لا نحبها: سعادة تقبُّل الأمر الواقع

الصورة: JuiMagicman

الفرق بين السعادة الطبيعية والمصنوعة أن الطبيعية هي ما نشعر به حين نحصل على ما نريد، أما الصناعية فهي ما «نصنعه» حين لا نحصل على ما نريد.

عندما كان أحمد يفاضل بين عروض العمل ويتخذ قراره، كانت تلك فرصته في الحصول على «السعادة الطبيعية»، فأمامه اختيار حر ومصيره بين يديه.

أما بعد مرور بضعة أشهر من بدء العمل، تغير الوضع. فقد وقَّع عقدًا مدته عام جعله ملتزمًا قانونيًّا بالعمل، إضافة إلى أن التزاماته المادية والأسرية تجعل ترك العمل خيارًا مستبعدًا.

أحمد ليس سعيدًا في عمله كما توقع، أيًّا كان السبب. لكن، هل سيظل على تلك الحال طويلًا؟

في الغالب لا، لأن جهازه المناعي النفسي سيبدأ في العمل، وتبدأ عملية «صناعة السعادة»، وسيكون لسان حاله أن «الوظيفة ليست بهذا السوء، وعلى الأقل، زملائي الحاليون أكثر لطفًا».

يمكن توضيح الفرق بين السعادة الطبيعية والمصنوعة من خلال مثال عن الخطبة والزواج.

لو اكتشفَتْ فتاة مخطوبة أن خطيبها شديد الغيرة، ماذا ستفعل؟ ستفسخ الخطبة، الأمر سهل.

ماذا لو اكتشفت الفتاة غيرته بعد الزواج؟ هنا ستضطر، غالبًا، إلى صناعة سعادتها. ستجد طريقة لتكون سعيدة، ستقول لنفسها: «إنه يغار عليَّ لأنه يحبني بجنون».

جهازنا المناعي النفسي يعمل في أفضل صوره عندما نكون في وضع يصعب تغييره.

يخبرنا دانيال غيلبرت أن الفرق بين صنفي السعادة (الطبيعية والمصنوعة) أن السعادة الطبيعية هي ما نشعر به حين نحصل على ما نريد، أما السعادة الصناعية، فهي ما «نصنعه» حين لا نحصل على ما نريد. لدينا منظومة من العمليات الإدراكية، كثير منها غير واعٍ، يساعدنا على تغيير منظورنا للعالم، وعلى النظر إلى عالمنا بمشاعر أفضل.

لكن المشكلة تكمن في نظرتنا إلى هذا المنتَج المصنوع من السعادة. فرغم أنها سعادة حقيقية بالفعل، ننظر إليها بطريقة دونية.

أنا وأنت وأحمد، كلنا جربنا السعادة المصنوعة، وعلينا أن نتعلم أن نتلذذ بها مثلما نستمتع بالصنف الطبيعي منها.  

في تجربة أجراها غيلبرت في هارفارد، رتبت الجامعة دورة لتعليم التصوير، ثم كبَّر القائمون على التجربة صورتين مما صور كل طالب، وطلبوا من كل واحد أن يختار واحدة منهما لنفسه ويترك الأخرى للجامعة.

قُسِّم الطلاب إلى مجموعتين، قيل للأولى إن بإمكانهم تبديل الصورة التي قرروا الاحتفاظ بها بالأخرى خلال أربعة أيام، أما المجموعة الثانية، فقيل إن خيارهم نهائي، ولا سبيل إلى تغيير الصورة لاحقًا.

ماذا وجد الباحثون؟ الطلاب الذين حُرموا فرصة التبديل أحبُّوا الصورة التي احتفظوا بها أكثر، أما مَن كانت لديهم فرصة التبديل، فلم يكونوا معجبين بالصورة التي احتفظوا بها، لا خلال فترة السماح ولا حتى بعد انتهائها. لماذا؟

لأن إمكانية تغيير الوضع جعلتهم يفكرون طوال الوقت إن كانوا احتفظوا بالصورة الأفضل، وهذه الحيرة لا تساعد على صناعة السعادة.

أهم أجزاء التجربة كان حين طُلب من مجموعة جديدة من الطلاب أن ينضموا إلى دورة تصوير، وقيل لهم إن لديهم خيارًا من اثنين:

  1. الاحتفاظ بصورتين لأربعة أيام لاتخاذ قرار بشأن أي صورة يودُّون الاحتفاظ بها
  2. اتخاذ القرار في لحظتها، وعدم إمكان تغيير الصورة لاحقًا

اختار 66% من الطلاب أن يحظوا بفرصة تغيير الصورة، وهو السيناريو الذي نعرف أنه يؤدي إلى عدم الرضا عن الاختيار بعد ذلك، وكأننا نختار التعاسة بأيدينا.

أكذوبة البال الخالي: كيف يصنع المخ دوامة من المشكلات؟

الصورة: bruce mars

سرعان ما يتحول النجاح إلى خطوة صغيرة تقود إلى أخرى في سلم لا نهائي، وكلما نقترب من الوصول إلى الهدف، يعيد صياغة نفسه.

هل يمكن أن تنتهي مشكلة نهائيًّا لو كنت تعيد تعريفها بشكل مستمر؟ بالطبع لا. هذا ما يفعله الدماغ بالضبط، يعيد تعريف مشكلة ما تشغلك، فيظل رأسك في دوامة لا نهائية من المشكلات.

طلب باحثون من مجموعة من المتطوعين مشاهدة مجموعة من الوجوه وتحديد أيها يبدو «مثيرًا للتهديد». اختيرت الوجوه لتتراوح بين وجوه مخيفة جدًّا ووجوه تبدو غير مؤذية على الإطلاق.

لاحظ الباحثون أنه كلما قل ظهور الوجوه التي تبدو مثيرة للتهديد، بدأ المتطوعون يوسعون تعريفهم لما يرونه «مهدِّدًا»، وضموا إلى القائمة وجوهًا كانوا رأوها في السابق غير مؤذية.

تقترح الأبحاث أن هذا السلوك نتاج عمليات المقارنة المستمرة التي يعقدها الدماغ بين ما أمامه والسياق الجديد. فبدلًا من أن يقرر الدماغ ما إن كان الوجه الذي يراه يوحي بالتهديد بشكل محايد، يميل إلى مقارنته بالوجوه التي شاهدها في وقت قريب.

مشكلة التفكير بهذه الطريقة أننا قد لا نشعر بالنجاح أبدًا، ومن ثَم لا نشعر بالسعادة إزاء ما نحققه من تقدم، فالنجاح سريعًا ما يتحول إلى خطوة صغيرة تقود إلى أخرى في سلم لا نهائي، وكلما نقترب من الوصول إلى الهدف، يعيد صياغة نفسه، فنبدأ رحلة بحث جديدة عن شيء نعجز عن الإمساك به. في هذه الحالة، لن تعرف أبدًا متى تنتهي مما تفعله، أو متى تنتهي المشكلة.

لم يشعر أحمد بالسعادة بعد حصوله على الوظيفة الجديدة، لأنه بعد حصوله عليها والاستقرار فيها أخذ يفكر في إثبات مهارته، ثم تكوين شبكة علاقات قوية، ثم في انتزاع ترقية، وهكذا. يظل يعيد تعريف سعادته الوظيفية في ظل السياق الجديد، لتظل تتفلت منه وتراوغه.

تقترح دراسات حديثة أن الصدمات الكبيرة والأحداث العظمى في حياتنا تفقد تأثيرها في مستوى سعادتنا بعد ثلاثة أشهر من حدوثها، وربما يعلِّمنا هذا ألا نجزع كثيرًا، فحتى الحزن لا يأتي ليقيم، وسيرحل عاجلًا أم آجلًا. لنعجِّل برحيله، ولا ندعه يستغرقنا، ولنتعلم أيضًا أن نترقب الأحداث السعيدة، ففي هذه الممارسة سعادة مجانية.

دينا ظافر