باسم السلطة، والحرية، والدين: هل نحن الخير أم الشر؟
دائمًا ما كان يستهويني البحث خلف الأقنعة، خلف الأشخاص وهوياتهم، ما هم عليه الآن، كيف يعيشون؟ لماذا هم هنا وليسوا هناك؟ لماذا هذه الطائفة وليست تلك؟ لماذا هذه المجموعة وليست الأخرى؟ ماذا يحركهم؟ كيف يتكوَّنون؟ كيف يُصنعون؟ هنا بالتحديد يأتي السؤال دائمًا حول قضية الشر والخير، الصالح والباطل، الطاعة والعصيان.
ما الخط الفاصل بين هذه المتضادات؟ كيف يحدث تجاوز هذه الجزيرة والعبور إلى أخرى؟ ما القارب المستخدَم؟ من الطاقم؟ من القائد؟
من أجل ماذا تندلع الحروب؟ هناك شر وهناك خير في تلك الفترة، وبناءً عليه تمت تلك القرارات.
بعض الأنظمة العربية مارست القمع بكل أنواعه: السجن، والتعذيب، والإقصاء، والإعدام. وجميع تلك التصرفات ربما كانت بمباركة الشعوب. ما الدوافع التي جعلت هذه الأنظمة تمارس ما تفعله؟
لكن هذا السؤال جزء لا يتجزأ من منظومة «الطاعة والعصيان». لا داعي لتفسير لماذا حدث ذلك، فالنظام الحاكم رأى من المصلحة العامة أن يكون القمع بهذه الطريقة وليس غيرها، فالدافع هنا، ودومًا، إقصاء الشر وتعزيز الخير.
ستجد الحاكم، والقاضي، والعسكري، والجلاد، والسجان، مشتركين في عملية إقصاء الشر مهما كلفهم هذا من ثمن. هنا تختفي كل الخطوط الحمراء والقوانين الدولية في ما يخص الحقوق والقانون، فالنظام الذي يُعمَل به أمر صحي في رأيهم ولا جدال فيه، ما يعني أن القضية ليست قضية نقاش حول صحة العمل، بل تعود إلى قضية الخير والشر الأبدية.
حتى حافظ الأسد في بداية حكمه في ثمانينيات القرن العشرين، برر المجازر التي ارتكبها في حق الشعب السوري بأنها كانت مرتبطة بحرب الأشرار المعتدين، والقتل كان باسم الوطن والدفاع عنه.
كل جهة تضع نفسها تحت مظلة الأخيار، ومن ضدهم هم الأشرار. بإمكانك تطبيق هذه القاعدة على كل ما تراه في حياتك.
ما حصل من هجمات دموية مروعة في المملكة العربية السعودية، ابن العم يقتل ابن عمه، والآخر يقتل والدته ويحاول قتل والده. ما الهدف هنا؟ كيف يرى هذا الشخص أن كل عسكري في المملكة عدو له؟
ماذا عن التفجيرات التي حصلت في المساجد؟ كيف تُستهدَف بيوت الله في بلد مسلم لمجرد أن من يصلي فيها عدو للمفجر؟ إذا كان هذا الشخص يرى أن كل قوات الأمن أعداء له، فكيف يرى بيت إلهه عدوًّا أيضًا؟
هل نستطيع تحديد الخير والشر لإيقاف جنون العالم؟
من يقاتل باسم الوطن، والحرية، والقانون، والدين، والطائفية، كلهم يرون أنهم الخير، ومن يجابههم هم الشر.
كل جهة تضع نفسها تحت مظلة الأخيار، ومن ضدهم هم الأشرار. بإمكانك تطبيق هذه القاعدة على كل ما تراه في حياتك.
يكاد يُجمِع العالم على إجرام بشار الأسد وظلمه وجبروته في الحرب الأخيرة. ما رأيك: هل بشار يرى نفسه من الأشرار؟ بالتأكيد لا يرى نفسه كذلك، وهو مقتنع تمام الاقتناع بأنه القطب الصالح في هذه المعادلة دون نقاش أو نزاع.
لست هنا لمناقشة أسباب تكوُّن هذه الأفكار أو خلفيتها من ناحية نفسية. ستجد هاتان المظلتان، وأعني «الخير» و«الشر»، أساسًا لا يتغير في أغلب قضايا القرون السابقة والحالية.
هل يطرأ على بالك أي طائفة ترى نفسها تحت مظلة الخير، بينما يؤكد مَن هم عكسهم تمامًا أنهم تحت نفس المظلة؟
من يقاتل باسم الوطن، والحرية، والقانون، والدين، والطائفية، كلهم يرون أنهم الخير، ومن يجابههم هم الشر.
أحداث سبتمبر نفذها أشخاص يرون أن عدو الإسلام الأول هو أمريكا، لكن من هم ضحايا هذه الهجمات؟ مواطنون مسالمون لا يهمهم سوى الاستيقاظ صباحًا، والحصول على قوت يومهم، والعودة إلى عشاء ساخن مع أحبَّتهم.
ماذا عن رد فعل أمريكا بعد الهجمات؟ ماذا عن هجومها تحت مظلة «محاربة الإرهاب»؟ دمرت مدنًا، سجنت الآلاف، كرَّست لفوبيا الإسلام. والتبرير أنها تهاجم الشر في العالم الخارجي. أمريكا هي الخير، وسواها غير ذلك.
ماذا عن فلسطين المحتلة؟ كيف يرى الإسرائيليون فلسطين والفلسطينيين؟ كم من الهجمات نفذوها لأنهم يؤمنون بأنهم الخير والآخرون الشر؟
سنقتلك، سنعذبك، سنغتصبك، سنهجرك، باسم الخير والشر.
يقول الدكتور عادل مصطفى في كتابه «المغالطات المنطقية»: «في غياب التفكير النقدي نكون رهائن للمؤثرات المحيطة، فلا يسعنا إلا أن نكرر، تكرارًا أعمى، تلك الاستجابات التي تعلمناها من قبل، ولا يسعنا إلا أن نقبل، قبولًا أعمى، كل ما يقال لنا في أبواق الدعاية السياسية والتجارية، وفي الصحافة والكتب، وكل رأي يصدر عن سلطة».
تأثير السُّلطة على الأشخاص
تؤثر السلطة تأثيرًا مباشرًا في الأفراد، وأحيانًا يكونون غير واعين بذلك التأثير بشكل كامل. أعني السلطة كمظلة، وليست السلطة كحكومة، فالقاضي سلطة، والوالد سلطة، والمدير سلطة، وقائد الجيش سلطة، والقانون سلطة، والدين سلطة، والمجتمع سلطة.
تسهل لك السلطة أن تفعل أشياء غريبة عنك دون أي تفكير ونقاش، إذ تكون، كما يقول الطبيب الفرنسي «غوستاف لوبون» في كتابه «سيكولوجية الجماهير»، تحت تأثير الجهاز العصبي المركزي، وليس تحت تأثير وعيك الخاص.
كل ذلك بالطبع «لأجل الوطن»، «لأجل القبيلة»، «لأجل المجتمع»، «لأجل الدين»، «لأجل القومية».
هل تفكر في خطوة شربك الماء؟ هل تعرف العضلات التي يجب عليك تحريكها؟ عدد الأعصاب التي ستعمل لحصولك على كأس الماء؟ هل هناك تفكير داخلي بينك وبين ذاتك حول أهمية شرب الماء والنقاش حول هذه القضية، أم أن المهمة تحدث دون وعي منك؟ قد يكون كامل تركيزك مع هاتفك، ومع ذلك ستذهب، دون حتى أن تنظر أين تسير، وستصل إلى الثلاجة، وستحصل على الماء، وما زال كل التركيز على الهاتف.
ماذا لو طلبت منك أن تسرد لي خطوات شعورك بالعطش حتى وصولك إلى الثلاجة؟ هل هذه المهمة واضحة بالنسبة إليك؟ أعني ما يحصل في جسمك من تعاون ومشاركة بين الأعضاء جميعها لإتمام مهمة شرب الماء.
أثر السلطة علينا قريب جدًّا من ذلك.
السلطة هي التي تجعلك البطل المغوار أو مجرم الحرب، فالتعذيب في السجون على يد السجان أمر مبرَّر، والسبب أن هذا السجين عدو دولته الأول، فأنا كسجان لي الحق الكامل أن أفعل ما أريد تحت مظلمة «أمن الدولة».
السلطة بررت لك كرهك لفلان الشيعي ورغبتك الشديدة في الهجوم عليه والاختلاف معه. السلطة جعلت منك شخصًا لا يستطيع الزواج من خارج القبيلة مهما حاولت ورغبت. السلطة مكَّنت فلانًا من ضرب زوجته والاعتداء عليها. السلطة أسهمت في جعل كل من يختلف معك عدوك الأول، وعليك قتله وإعدامه وإسكاته. السلطة بررت الاعتقالات مهما تكن، وكيفما وأينما كانت.
كل ذلك بالطبع «لأجل الوطن»، «لأجل القبيلة»، «لأجل المجتمع»، «لأجل الدين»، «لأجل القومية».
ستجد من يقول: أعلم أن هجومي على هؤلاء قتل صريح لهم، اعتداء عليهم، انتهاك لحرياتهم وعقولهم، لكني أنظر إلى «المصلحة الأعظم». وما المصلحة الأعظم التي تجعلك بهذه الوحشية والظلم والجبروت والطغيان؟
السلطة تدور في نهاية الأمر حول من يحدد «الخير» مِن «الشر»، فالسلطة حددت لك أننا الخير، والشر هناك، وعلينا إقصاؤه بكل الطرق لكي يبقى الخير، الذي هو نحن.
نحن نعلم أن ما نقوله غير أخلاقي، ونعلم أن ما نفعله غير صحيح، ونعلم أن طريقتنا في الخطاب والعداء والخصومة غير سليمة، لكنهم الشر ونحن الخير. كيف تريد أن نتجاوب مع هذا الشر في رأيك؟
إذا كانت تلك «السلطة» تصنف هؤلاء في قائمة الشر، فيجب علينا تصديق هذه القائمة لأنها أتت من السلطة. سنكره هؤلاء، سنهاجمهم، سنعتدي عليهم، سنقاتلهم إن لزم الأمر، فوجود هذه السلطة يسهل علينا ارتكاب ما نريد مع وجود العذر لذلك الجرم مهما يكن.
هل تخيلت يومًا أن تعادي من يسكن بجوار منزلك؟ أن تهاجمه وتعتدي عليه؟ أن تؤذيه وتقصيه بسبب أن سلطة ما طلبت منك ذلك؟ هل تخيلت أن يكون جارك بين ليلة وضحاها هو الشر وأنت الخير؟
«التشكيك في الأفكار والعادات الموروثة عنصر مهم في البحث العلمي، وبناء العقل النقدي الذي فشل النظام التعليمي والإعلامي في تكونيه، رغم أن العقل النقدي هو السلاح الذي ندخل به القرن الواحد والعشرين». نوال السعداوي في كتابها «توأم السلطة والجنس».
قد لا نجد ذلك الخط الفاصل والقواعد الثابتة التي تبين المتضادات بشكل واضح، وتضع كل شخص في مكانه الصحيح. من المهم أن نحلل ما نرى ونسمع ونقرأ، يجب أن نطور ما لدينا، ونزيد من ثقافتنا، ونتسلح بالمعرفة، ونمارس تحليل الأمور والتفكير المنطقي في ما يدور حولنا. ليس علينا أن نكون ضحية الصراع غير المنتهي بين الخير والشر، وليس علينا أن نكون تحت ضغط السلطة التي قد تجعل منا «البطل المغوار» أو «مجرم الحرب».
أسامة بن نجيفان