أممية الأفيون: حكايات كرة القدم خارج الملعب
هي أطول عملية إغماض يمكن مشاهدتها، بطيئة، إلى الحد الذي استنزف مقاومة رجل ضخم في الثانية والستين. اليدان شرعتا في عملية ارتخاء بدت كذبول نبتة بالتصوير البطيء، الساق اليسرى ما زالت في حالة مقاومة، لكن اليمنى ارتخت دون رجعة.
الرأس بدأ في الاقتراب من الصدر قليلًا، لا صوت شخير، فقط استسلام خافت، عملية إغماض للعين يبدو أنها بدأت منذ الخروج من سجن القلعة في الإفراج النهائي نهاية ربيع عام 1963، ووصلت إلى محطتها الأخيرة في بداية صيف 1986، تحديدًا قبل 15 ثانية بالضبط من وصول الكرة إلى «يد» دييجو مارادونا في ربع نهائي كأس العالم في المكسيك.
جدي كان يرقد أمام التلفزيون وكأنها المكافأة على كل الحوارات العبثية مع رفاق الدرب لإقناعه بمدى حبه للكرة على مدار نصف سنوات القرن العشرين.
جدي أغمض عينيه إرهاقًا وكأن الملائكة همست في أذنه بضرورة الخلود إلى الراحة للتتخلص من آثار التنظيمات السرية في نهاية الأربعينيات، كل الانشقاقات التي عرفها تنظيم «حدتو»، ملل الروتين اليومي في الفترة الصباحية بين تكسير الحجارة مع حسن فؤاد وتنظيف «المراحيض» مع محمود أمين العالم عصرًا في معتقل الواحات.
محاولة التعافي أسريًّا وترميم علاقة شبه محطمة بأربع بنات لا يمكنهن التعرف عليه جيدًا بسبب سنوات الاعتقال، أو المجابهات الفاشلة لعملية توغل سلطة رفعت السعيد في حزب «التجمع»، وأخيرًا محاولات مشاطرة عشق الكرة مع أكبر أحفاده، فيما يعتقد أنها آخر محاولة لعيش حياة أقرب إلى الطبيعية، حتى لو كان الثمن لعب دور متعهد مباريات الشارع مؤقتًا لذلك الحفيد بطول الستار الحديدي لأوروبا الشرقية، خلال صعلكتهما العابرة للأجيال في نهاية الثمانينيات.
التفاوض مع الحياة
ربما تلك العلاقة مع الجد كانت مفتاحًا لفهم المفارقة الأكبر التي تحكم العلاقة بين الكرة وبين معتنقي الحركة الماركسية طيلة الـ100 عام التي تلت الثورة البلشفية، نفس حالة التفاوض مع الحياة التي عاشها الجد في معتقل الواحات وحبه للكرة بعد الخروج تبدو قريبة من حالة التفاوض التي عاشها أسرى الحرب السوفييت من أوكرانيي فريق دينامو كييف تحت سيطرة النازيين عام 1943، والتي أسست أسطورة المباراة التي دارت بين الجانبين، الأوكرانيين والنازيين، وتبناها نظام ستالين ضمن أمثولات المقاومة السوفيتية.
تبدو علاقة البشر مع كرة القدم سيريالية، مثل واقعة اقتحام السفارة اليابانية في العاصمة البيروفية عام 1996 عندما نظم مجموعة الخاطفين مباراة كرة مع المحتجرين.
علاقة التفاوض أخذت تنويعا مختلفًا في علاقة الحركات الماركسية المسلحة باللعبة، وكأنها أصبحت المساحة المشتركة الوحيدة مع العالم الخارجي، وهو ما تم ترجمته بشكل حرفي في الوقت الوحيد الذي تتيح فيه منظمة FARC الكولومبية ذات المرجعية الماركسية لرهائنها بالتريض وفك إحكام الأسر عليهم أثناء تواجدهم بأعماق الأدغال، وهو الوقت المقسم بين الاستماع الجماعي لمباريات الدوري المحلي أو كوبا ليبرتادوريس، أو مشاهدة المباريات التي يقيمها أعضاء المنظمة وعائلاتهم في الخلاء وهو الوقت الوحيد الذي يمكن للخاطفين والرهائن أن يتقاسموا الحديث والاهتمامات وربما الخلاف والشجار حول أحقية فريق ما بالفوز.
إنها نفس العلاقة التي تبدو سيريالية في تفاصيلها عندما يأتي الحديث حول واقعة اقتحام السفارة اليابانية في العاصمة البيروفية ليما على يد حركة «توباك آمارو» ذات المرجعية الماركسية أيضًا في ديسمبر 1996، والذي أسفر عن حالة كر وفر واحتجاز وإطلاق رهائن لمدة عام كامل.
حالة من التشوش الكامل والحيرة في ما يتعلق بمصير كل الأطراف، وحدها كانت الصور من طائرات الهليوكوبتر المحاصرة للسفارة هي التي نقلت المظهر الوحيد للحياة داخل الحصار. مجموعة الخاطفين يلعبون مع المحتجرين مباريات كرة في الحديقة الخلفية للسفارة، وهو الوقت الوحيد الذي كان للطرفين فيه حرية الحركة وربما المزاح وترك التفكير في المصائر والمستقبل، وذلك قبل أن تقتحم قوات الأمن البيروفية المكان في نهاية 97، مجهزة بشكل كامل على جميع أفراد توباك آمارو. ونجاة جميع المحتجزين فيما عدا شخصًا واحدًا فقط.
التغيير القادم من الجنوب
وليس من قبيل المصادفة مطلقًا أن يكون فرع نفس الحركة، «توباك آمارو»، في أوراجواي (والذي كان يضم الرئيس اللاحق خوسيه موخيكا معشوق مستخدمي الفيسبوك) لديه علاقة بالغة العقيد والتشابك مع كرة القدم، حتى في ظل سنوات نشاطهم المسلح، علاقة تشكل ميكروكروزم لنظرة أوروجواي ذات الثلاثة ملايين نسمة باللعبة بشكل عام.
خاصة أن كرة القدم كلعبة شعبية كانت جزءًا من حركة التغيير السياسي والمجتمعي الذي أحدثه الرئيس الجديد خوسيه باييه، ذو المرجعية اليسارية، مقدمًا واحدة من أكثر الأجندات التقدمية إبهارًا في تاريخ أمريكا اللاتينية بداية من العقدين الأولين للقرن العشرين.
هل كرة القدم مجرد لعبة على الهامش أم أسلوب حياة يتشاطره مجتمع ما وقد يعتبره البعض أداة تغيير ذات طابع جماهيري؟
باييه كان يضع كرة القدم ضمن خطة إعادة التأهيل البدني لأطفال أوروجواي، والتي كانت بحاجة إلى ثورة حقيقية، لترتبط اللعبة بقرارات مجانية التعليم، تعميم تدريس التربية البدنية، سياسة شاملة للتأمين الصحي، انخفاص حاد في وفيات المواليد من الطبقات الفقيرة، تحديد حد أدنى للأجور، تأسيس نظام ضمان اجتماعي متكامل، إعطاء حق الطلاق والتصويت للسيدات، إنشاء المدارس الثانوية بشكل إجباري في كل مدينة بالبلاد، إطلاق نظام مالي لتقديم منحة بطالة، تأميم المؤسسات الحيوية التي كانت ملكًا للقطاع الخاص، وأخيرًا إعلان أوراجواي بلدًا يتبع نظامًا علمانيًا مدنيًا.
كل هذا في محيط محافظ كاثوليكي، ليس هناك دليل على مدى قسوته أكثر من عرض نادي فاسكو دي جاما البرازيلي للشطب عقابًا على تعاقده مع لاعب أسود، في خرق لنظام الفصل العنصري المطبق سياسيًا في البرازيل حتى منتصف العشرينات.
تغييرات باييه سمحت بخوض لاعبي الكرة في أورواجواي غمار دوري عمالي نظمته القوى الشيوعية المحلية انطلق مع بداية العشرينات، مع أسماء فرق مثل «أكتوبر»، «الحمر»، «المانيفيستو»، «لينينجراد»، وبعد أقل من عقد واحد كانت أوراجواي تتسيد العالم في كرة القدم، في إعجاز مواز لتصدرها القارة في مستوى معيشة الفرد، معجزة بالنسبة لبلد صغير، ظل يعيش حالة انقسام وطحن طبقي طيلة القرن التاسع عشر.
كرة القدم أصبحت «الفترينة» لمجتمع كامل في حالة حراك غير مسبوقة، تدخل اللعبة في نسيج الثقافة الشعبية الأوروجوانية وكأنها ترمومتر للمزاج العام في فترات لاحقة، منها فترات الحكم الديكتاتوري العصيبة في نهاية الستينات والسبعينات.
السياق الجديد الذي صنعه باييه كان له مردوده حتى على كرة القدم، ليصنع منتخب أوراجواي بأسلوب لعبه وإدراته، وجولاته الأوروبية ونجومية لاعبيه حالة تقدمية داخل اللعبة، رسمت حدودًا جديدة في علاقة كرة القدم الملتبسة آنذاك بين الاحتراف والهواية، المنظومة أو المزاجية الإدارية، هل كرة القدم مجرد لعبة على الهامش أم أسلوب حياة يتشاطره مجتمع ما؟ قد يعتبره البعض أداة تغيير ذات طابع جماهيري.
تشي جيفارا الاجتماعي الشبابي
المفارقة الأكبر التي ربما جذبت الجد العاشق للكرة تفسرها الطبيعة الخاصة التي تتمع بها تلك اللعبة طبقًا لما قاله الفيلسوف البريطاني المعاصر سايمون كريتشلي في كتابه الأخير: «ما الذي يدور بخاطرنا عندما نفكر في كرة القدم»، والذي يشير فيه إلى أنه لو كان هناك نظام سياسي يليق بكرة القدم لكانت الاشتراكية هي الإجابة الأكثر صحة، فهي نشاط ترتبط فيه حرية الفرد بعلاقته ضمن المجموع طبقًا للرؤية الماركسية، الحركة الفردية للشخص مرتبطة بدوره في الملعب، حتى لو كان الفريق يبدو معتمدًا على نجم واحد.
إنها علاقة جدلية بين إبداع الفرد وفعالية المجموعة، ويمكن فهم هذا التفسير في محطات عديدة بحياة مدير فني مثل بيل شانكلي برفقة ليفربول خلال ستينات القرن الماضي، خاصة في تبنيه لفكرة الاشتراكية الإنسانية بمفهومها الأشمل في طريقة إدراته للفريق، وعلاقته أيضًا بالجمهور. علاقة تحدث عنها باستفاضة كتاب ديفيد بييس «أحمر أو ميت». إنها اشتراكية لا علاقة لها بالسياسة في مفهومها الضيق ولكنها أسلوب حياة، إنها حالة إيمان بأن الفوز أو النجاح لا يمكن إدراكه إلا في إطار المجموع، الكل يساهم في الإنجاز والجميع يتشاطر المكافأة في نهاية الطريق».
كريتشلي يخرج بهذا التفسير إلى إطار أكبر في رؤيته لعلاقة بريطانيا باللعبة، ولحالة دخولها في نسيج ثقافتها الشعبية طيلة القرنين الماضيين، مقتبسًا قول الصحفي البريطاني بارني روناي أن كرة القدم ضاربة بجذورها داخل المجتمعات البريطانية الصغيرة، أندية الدوري الممتاز الإنجليزي الحالية هي امتداد لكنيسة الحي الذي ذهب إليه جدك، أو الحانة التي عهد الذهاب إليها ليلًا.
إنها كانت الحصن الأخير ضد الفكرة التاتشرية الأصلية التي تم زرعها بأنه لا يوجد أصلًا شيء اسمه المجتمع»، في إشارة لحقبة الثمانينات بمزاجها النيوليبرالي الفردي الصارم، (وهو ما قد يفتح النقاش حول وقع وتأثير غياب الجماهير عن الملاعب في مصر طيلة السنوات الست الماضية).
طرح كريتشلي يبدو أكثر اكتمالا إذا تمت قراءته في إطار العديد من النماذج الشعبية التي نظمت أو أعادت ترتيب العلاقة بين الجمهور والنادي أو الفريق، خاصة في سياق رأسمالي عام بالغ القسوة.
النظرة المتعالية لكرة القدم كـ«أفيون»، تجاوزها تطبيق ماركسي مباشر في نادي مثل «تشي جيفارا الاجتماعي الشبابي»، قرب مدينة قرطبة الأرجنتينية.
فنادي مثل إيبار الإسباني (ذي القاعدة الشعبية العمالية في بلدة بالغة الصغر قابعة على أحد مرتفعات أقليم الباسك)، هو ربما صاحب أقل ميزانية بين أندية القسمين الأول والثاني (يفوق قليلًا المليون يورو سنويًا أي معدل دخل لاعب واحد في ريال مدريد في الشهر). وهو ربما النادي الوحيد الذي يدخل فيه الجمهور بشكل كامل كحامل أسهم أو شريك في ملكية النادي من خلال نظام الاشتراكات السنوية، وهو (بالمصادفة) النادي الإسباني الوحيد المحترف الخالي من الديون، ذاك البند الذي يقضم خصر أغلب أندية الكرة في البلاد وأدخلها دائرة الإفلاس إبان إنفجار الأزمة الاقتصادية عام 2008.
نموذج إيبار لا يمكن مقارنته براديكالية نموذج جماهير فريق مانشستر يونايتد الساخطة على أسلوب مجموعة الأمريكي مالكوم جليزر المالكة للنادي، لتقرر من طرف واحد البدء من الصفر، وتأسيس «مانشستر» آخر من خلال فريق مانشستر لكرة القدم، والذي يلعب كفريق نصف محترف في دوري الشمال الإقليمي منذ عام 2005. في خطوة تتخطى الفكرة التقليدية عن العلاقة بين الجماهير وفرقها، تتجاوز حتى مفاهيم الوفاء والولاء التي تمثلها مجموعات الألتراس بأي نادي.
النظرة المتعالية للنخبة نحو كرة القدم كـ«أفيون»، في أحيان عديدة لم يتم تجاوزها فقط من قبل أناس مثل الجد العاشق، ولكن أيضًا، على نحو حرفي ومن خلال تطبيق ماركسي مباشر في نادي مثل «تشي جيفارا الاجتماعي الشبابي»، قرب مدينة قرطبة الأرجنتينية، والذي يهتم في المقام الأول بتنمية النشء في جو تنافسي صحي، معني في المقام الأول بتحسين الأوضاع المعيشية والثقافية للمجتمعات متوسطة الحال في الإقليم.
وهي مهمة شبه فدائية خاصة في السياق اللاتيني، الذي يعيش العقدين الماضيين في حالة أنيقة حديثة من أسواق النخاسة الكروية، تمهيدًا لعملية الهجرة الجماعية لمئات اللاعبين المراهقين إلى أوروبا، ليس بحثًا عن الشهرة ولكن للإنفاق على أسرهم في المقام الأول.
منوعات سوفييتية
لا يمكن إنكار حجم المستنقعات التي تسبح فيها كرة القدم في خليط الشوفينية والشعبوية، والنزاعات القومية الصاخبة وحالات تضخم الذات.
واحدة من أكثر المفارقات تطرفًا في الاستعارة الأفيونية لكرة القدم أن أحد أكثر النماذج اضطرابًا في العلاقة مع كرة القدم كان النموذج السوفيتي، والذي كان يوجب عليه التعامل بشكل أممي حرفي مع ثقافته الكروية، لتنوع واختلاف القوميات واللهجات والمناخات الجوية في دوله.
وهي علاقة عرفت اضطرابًا متواصلًا ممزوجًا بأزمات بيروقراطية وتنظيمية وفساد إداري وقمع سياسي وتدخل حكومي، كلها خنقت المجال العام الكروي السوفيتي، دون مواكبة حتى لمجموعة من أكثر التوجهات الخططية تقدمًا وتطورًا على مستوى المضمون.
ما بين منهج كروي علمي أسهم فيه المدرب الأوكراني الأصل فاليري لوبانوفسكي، أو في فلسفة تكوين الفرق وأسلوب لعبها كما كان مع عدوه اللدود كونستاننتين بيسكوف، الذي كان ضحية النموذج السوفيتي في مناسبتين كمدير فني للمنتخب الوطني على مدار 20 عامًا، الأولى كمأساة والثانية كمهزلة، مأساة الإقالة والتوبيخ للخسارة أمام فريق ينتمي لنظام فاشي مثل إسبانيا فرانكو في نهائي يورو 64، ثم الإقالة مجددًا لعدم تحقيق النتائج المرجوة في مونديال 82، كنتيجة لفرض سياسة الترضية العرقية والثقافية التي كان لزامًا على بيسكوف الالتزام بها مع الفريق من قبل السلطة الحكومية في الحزب.
ليجبر على إحداث توازن مقحم بين اللاعبين الروس من سبارتاك وتوربيدو موسكو، وبين الأوكرانيين من فريق دينامو كييف، وبين الجورجيين من فريق دينامو تيبلسي في عصره الذهبي، وبين مجموعة دينامو مينسك من روسيا البيضاء. لتكون الأممية في تطبيقها الحرفي سببًا في غرق واحد من أفضل تشكيلات الكرة السوفيتية، ليكون الرد راديكاليًا وعنيفًا من خلفه لوبانوفسكي الذي قدم عروضًا فائقة الإبهار بتشكيلة ضمت ثمانية لاعبين دفعة واحدة من فريق واحد وهو «دينامو كييف» الذي كان يدربه لوبانوفسكي نفسه.
في الوقت نفسه لا يمكن إنكار حجم المستنقعات التي تسبح فيها كرة القدم أحيانًا في خليط الشوفينية والشعبوية، والتزعات القومية الصاخبة وحالات تضخم الذات المذهلة (كما كان الحال في الحالة المصرية وقت أزمة مباراة الجزائر 2009).
تلك المستنقعات تبدو عتيقة أو كلاسيكية بالمقارنة مثلًا مع ما تطرحه اللاعبة الأمريكية السابقة جويندلن أوكسنهام في كتابها الأخير «تحت الأضواء وفي الظلام»، والذي تسرد فيه العالم السري لكرة القدم للسيدات، في أمريكا والبرازيل وروسيا، في خليط بين قسوة نظام ذكوري في جوهره، والتفرقة الجنسية والصور الذهنية المتهالكة عن السيدات، الإجحاف في قوانين العمل والتشابك مع الجريمة المنظمة، ولا بأس بقليل من الظلال حول الإجبار على استخدام المنشطات.
ثورة بوسمان
حتى في ظل الطابع الطفولي والصيبياني لكرة القدم يمكن النظر إلى تغييراتها المهمة في الربع قرن الأخير بقدر من الاهتمام، حتى على المستوى الفني البحت من خلال إطار فكري كروي ومنهج عمل تشكل في أروقة نادي آياكس أمستردام الهولندي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
بداية على يد أجنبي مغامر مثل جاك رينولدز وصولًا إلى كونها واحدة من أكثر المناهج عبورًا للقارات في خطوطها العامة، بتنويعاتها المختلفة، وبتفسيرتها المختلفة حتى وصلت إلى صدامها الأكبر في منتصف التسعينات بين ابنها البار يوهان كرويف، وبين مجددها لويس فان جال مدرب آياكس آنذاك.
وهو الصدام الذي وصفه الكاتب البريطاني الشهير جوناثان ويلسون بأنه صدام بين مفكرين ماركسيين، يؤمنان بشمولية أدوار اللاعبين في الملعب، إعطاء مفاهيم جديدة لاستغلال المساحات، تنوع المهارات التي يمكن لأي لاعب القيام بها، تأسيسهم في الأكاديميات التابعة للنادي، الثقافة التكتيكية التي يمكن توريثها من جيل لآخر، عدم الاعتماد المبالغ فيه على الصفقات الجاهزة او الميزانيات الضخمة.
وهي كلها مفاهيم عرفت تحديدًا طفرة وسيادة كاملة خلال تلك الحقبة على يد فان جال تحديدًا، ليصبح فريقه الأكثر تأثيرًا على الصعيد العالمي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ويمكن التعرف على ذلك التأثير بشكل مباشر من خلال أسلوب عمل أسماء مثل بيب جوارديولا ومارسيلو بييلسا وجوزيه مورينيو وماوريتسيو بوكيتينو وفرانك دي بور، الذين امتدحوا البصمة التي تركها فريق فان جال في كرة القدم العالمية في محاولة لنسخها أو دحضها على حد سواء.
آخر المفارقات التي سيتم ذكرها في هذا الموضوع، ولكن ليس آخرها على أرض الواقع أن تأتي نهاية أفكار فان جال الطوباوية نفسها على يد تغيير تشريعي راديكالي هدفه إعطاء سلطة وحماية أكبر للاعبين، طبقًا لما حققه اللاعب البلجيكي جان مارك بوسمان في نهاية 1995 من إقرار حق مصيره في الانتقال لأي نادي داخل الاتحاد الأوروبي بعد انتهاء عقده مع ناديه الأصلي دون موافقة ذلك الأخير، وذلك بعد خمس سنوات من المعاناة القضائية، لتكون نواة لـ«قانون بوسمان» المسند في جوهره على أن لاعبي كرة القدم تسري عليهم قوانين العمل الأوروبية بصفتهم عمالا يحق لهم حرية الانتقال والحركة، دون تعرضهم للابتزاز أو العزل أو التهديد.ذلك الإنجاز التشريعي لحقوق العمال كان سببًا رئيسيًا في تفريغ فريق آياكس من نجومه خلال موسمين فقط، خاصة أن النادي الهولندي فشل في إقناع اللاعبين ماديًا بالبقاء، لتستقر التركة في جيب حيتان أوروبا الكبار، إلى الحد الذي يمكن فيه القول بأن آياكس أسهم في تدعيم خمسة من أكبر أندية القارة باللاعبين لنحو عقد كامل عقب تطبيق قانون بوسمان.
قال جان ماركو بوسمان عندما تم الحكم لصالحي أعتقدت أني رأيت النور الذي يقبع في نهاية النفق، لم أكن أدري أني بدأت في الدخول قي قلب ذك النفق.
بل إن القانون شكل بدرجة أو بأخرى المعطيات المادية والفنية التي يجب أن تكون بحوزة أي فريق للفوز بدوري أبطال أوروبا، ليصبح التوجه إلى فرق أكثر كوزموبوليتانية في معناها العام، حتى في ثقافات كروية كان متحفظة قرابة قرن كامل في التعامل مع فكرة الأجانب، في مقدمتها الثقافة الإنجليزية التي عرفت في ديسمبر 1999 أول فريق في تاريخها ينزل إلى أرض الملعب بتشكيلة كاملة خالية من البريطانيين، وذلك مع فريق تشيلسي تحت إدارة الإيطالي جيانلوكا فياللي.
ثم فريق أرسنال الذي وضع قائمة لاعبين أساسيين واحتياطيين كاملة من غير البريطانيين عام 2005، تحت قيادة الفرنسي آرسين فينجر. وصولًا إلى مشاركة 27 لاعبًا من 22 جنسية مختلفة من الفريقين في مباراة واحدة بين بلاكبيرن ووست بروميتش في يناير 2011.
الفترة التي استغرقها كرة القدم الإنجليزية لمنع تواجد أي لاعبين أجانب في مسابقتها الأهم امتدت من عام 1931 حتى عام 1978، ليتم السماح لأول لاعبين أرجنتينيين بالمشاركة في صفوف توتنام هوتسبير اللندني. ذلك الثنائي الذي أطلع الإنجليز للمرة الأولى على الشعور بعدم الارتياح أثناء أسابيع حرب فوكلاند من عام 1982.
بينما كانت الفترة التي استغرقها مارادونا للانتقام من الإنجليز ولو في أرض الملعب عام 1986 أكثر قليلًا من خمس دقائق، وهي نفسها المدة التي استغرقها جدي مستمعًا إلى همسات الملائكة، قبل أن يفتح عينيه على مشاهد الاحتفال الأرجنتينية متسائلًا: «ما الذي حدث؟ »، كان من الأسهل الحديث معه عن الحتمية التاريخية عن إخباره أنه فاته ربما أهم خمس دقائق في التاريخ التلفزيوني لكرة القدم.
...
« لماذا لا يمكن لفريق فقير أن يفوز على فريق غني؟ إنه أمر ممكن جدًا، أنا لم أر خزانة ممتلئة بالنقود تحرز هدفًا في أي مباراة من قبل» - يوهان كرويف أسطورة الكرة الهولندية ونادي آياكس
«أنا أعيش من راتب تعاقدي البالغ 570 يورو، فيما يتقاضى كل لاعب استفاد من قضيتي نحو 30 ألف يورو أسبوعيًا. هناك شيء ما خاطيء في هذه المعادلة. البعض يعتبر أن قضيتي كان هي الأهم كرويًا على الصعيد القانوني في القرن العشرين. عزائي الوحيد أن أولادي بعد 20 عامًا من الآن سينظرون إلى صورة والدهم وسيجدون أنها ناصعة البياض، فيما ستكون صور أناس مثل بلاتر وبلاتيني ملطخة بالسواد.
للأسف عندما تم الحكم لصالحي في القضية بعد خمس سنوات من المعاناة أعتقدت أني رأيت النور الذي يقبع في نهاية النفق، لم أكن أدري أني بدأت في الدخول قي قلب ذك النفق». - جان ماركو بوسمان اللاعب البلجيكي السابق متحدثًا عن حياته في الذكرى العشرين لفوزه بقضيته ضد الاتحادين الدولي والأوروبي، وهي القضية التي تسببت لاحقًا في ما يعرف بـ«قانون بوسمان».
خالد يوسف